يمكن أن نصف يوم 16 من تشرين الثاني 1970، وهو اليوم الذي استولى فيه حافظ الأسد على السلطة من خلال انقلابه على رفاق الأمس وزجّهم في السجون، حيث قضى بعضهم في السجن، ومنهم من خرج ليموت خارجه، أنه كان الانقلاب الأخير في سوريا، على الأقل طوال (53) عاماً، في حين أنه خلال الفترة الممتدة من "الاستقلال" عام 1946 إلى يوم الانقلاب الأخير 1970سبقته عدة انقلابات (ثمانية). تطرح هذه الديمومة في الحكم السؤال المهم: كيف أنهى حافظ الأسد الانقلابات في سوريا؟ وما الأساليب التي اتبعها لتحقيق نمط من الاستبداد المزمن؟ حتى استطاع أن يجعل توريث السلطة في عائلته من بعده أمراً شبه روتيني، ومع ذلك يحافظ على شكل الحكم "الجمهوري" بعد أن أفرغه جملة وتفصيلاً من مضمونه: الانتخابات التي حولها إلى مهرجان دبكة ونخ!
استولى حافظ الأسد على السلطة بانقلاب عسكري واضح، سمّاه زوراً بـ "الحركة التصحيحية"، وكرّس فكرة الحركة وجعلها مناسبة سنوية في يوم احتفالي تُشلّ فيه حركة البلاد ويُجبر العباد على التجمع والدبكة، متذرعاً بتخليص البلاد من سياسة رفاق الأمس المغامرة والانعزالية، والانفتاح نحو العرب. وللخلاص من مسؤوليته عن هزيمة حزيران 1967 وما نتج عنها من احتلال للأراضي العربية، خطط مع السادات لحرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، التي لم تحقق أي انتصار عسكري يُذكَر على الأرض، سوى الدعاية الكبرى لـ"انتصار" الإرادة العربية، في حين أن المكسب السلطوي من تلك الحرب تجلى في أمرين، أولهما إنهاء الحروب العربية -الإسرائيلية بشكل نهائي، وثانيهما، وهو الأهم، تحويل مهمة الجيوش تلك إلى المعركة مع الداخل، أي التفرغ لمواجهة الشعوب في حال تحركت ضد سلطانه.
كان نظام الحكم الذي انقلب عليه، المعروف بنظام صلاح جديد/ 23 شباط، يعتمد في سيطرته على عدة أركان: الحزب والجيش والمخابرات والأيديولوجية الشعبوية، وهي أركان كان لحافظ الأسد فيها دور مهم في تثبيتها، حيث كان عضواً في القيادة القطرية للحزب، ووزيراً للدفاع مسؤولاً عن شعبتي المخابرات العسكرية والجوية، وبالتالي يعرف تماماً مناطق قوة وضعف النظام، والقوى المهددة لاستمراره، وأهمها المخابرات والجيش، فعمد في المجال العسكري إلى إعادة هيكلة سرايا الدفاع ودعمها وتسليحها بشكل أفضل من باقي تشكيلات الجيش، وجعل منها هيكلاً موازياً له، مهمتها حماية العاصمة، أي حماية الرئاسة. ومن ناحية أخرى، عزز الهيمنة الطائفية في الجيش من خلال الاعتماد على ضباط قادة من طائفته، وقدّم لهم مزايا عديدة، فاتحاً لهم أبواب الثروة من خلال سلطتهم فقط، وفي الوقت نفسه بدأ عبر عدة حملات في تسريح الضباط غير الموالين، وأصحاب "الأيديولوجيات" القومية الحالمين بـ "تحرير" الأرض.
معروف أن الجيش في سوريا هو من ورثة الاستعمار الفرنسي، أي شرهٌ للسلطة، لكن نظام البعث طعّمه بنهكة "اشتراكية سوفياتية"
كان حافظ الأسد بصفته وزيراً للدفاع، في الحقبة التي انقلب عليها، مسؤولاً عن المخابرات العسكرية، وكذلك المخابرات الجوية، وهما الجهازان المعنيان بشؤون الجيش أساساً، وكان لهما دور مهم في إنجاح انقلابه، حيث وسّع صلاحياتهما لتشمل غير الجيش، عموم الناس. ومعروف أن الجيش في سوريا هو من ورثة الاستعمار الفرنسي، أي شرهٌ للسلطة، لكن نظام البعث طعّمه بنهكة "اشتراكية سوفياتية"، فأدخل دور ضابط التوجيه السياسي، وضابط الأمن عدا عن عناصر الاستخبارات التي تنقل تحركات الضباط مهما كانت، وبالتالي، غدا جهاز المخابرات المتحكم في ترقيات الضباط، وفتح باب الثروة لهم، ومن ناحية أخرى كان المسؤول عن تسريحهم أو زجهم في السجون، مما حول ضباط الجيش -أصحاب مشاريع الانقلابات سابقاً- إلى دمى بيد أجهزة المخابرات، وهي تجربة تستحق الاهتمام.
لم تقتصر مهمة المخابرات على تقليص دور الجيش، وإنما شملت بـ "رحمتها" عموم السوريين، حيث توسعت بشكل سرطاني، فلا أحد يعرف حجمها، وأولى تلك الفئات المستهدفة هم البعثيون، حيث بدأت بـ تحفيزهم على الاضطلاع بدور جديد، وهو تقديم التقارير إلى تلك الأجهزة، بقصد حماية الثورة من "أعداء الشعب"، وهو المصطلح الذي استخدِم لتوسيع مروحة الاعتقالات لتشمل كل من ينتقد أو يتكلم بسوء عن النظام. ومقابل هذا التحول في دور الحزب -رغم تكريس دوره كقائد للدولة والمجتمع كجهاز رديف لأجهزة المخابرات- فتح الباب أمام أعضائه للحصول على المناصب والثروة، مع الاحتفاظ بملفاتهم الفاسدة لاستخدامها عند الضرورة بحال خروجهم عن المسار، مما جعل من الحزب عموماً بوابة للارتزاق أولاً، ومنفذاً للحماية من بطش أجهزة المخابرات ثانياً.
ولاستكمال عناصر الهيمنة المطلقة لنظام الأسد، لجأ إلى إفراغ الهياكل السياسية والأهلية القائمة من محتواها، وتحويلها إلى أبواق للنظام، بكل ما تعنيه الكلمة، فخلق جوقة من الأحزاب سماها "الجبهة الوطنية التقدمية" تردد صدى أيديولوجية النظام، وخاصة في معركته ضد الإمبريالية وإسرائيل، مستفيداً من حالة الاستقطاب الدولي السائدة آنذاك بين الكتلتين السوفياتية والغربية، ومن ناحية أخرى، أوكل لأجهزة المخابرات مهمة التعامل مع الكيانات السياسية التي رفضت الخضوع لسلطانه، فكانت الاعتقالات طويلة الأمد لمن يحمل منشوراً في جيبه، ناهيك عن أعضاء تلك الأحزاب، وهو ما خلق حالة من الرعب الفظيع بين الناس من العمل السياسي المعارض، مجففاً البيئة السياسية بالكامل، ومحولاً المجتمع إلى كتلة تنحصر اهتماماتها في تدبير شؤونها اليومية بطرق فاسدة وفردية مكرساً ذهنية "دبّر راسك" في تفتيت المجتمع.
وعلى الجانب الأوسع، تبنى سياسة الإفساد الممنهج للمناهج الدراسية وأدلجتها، وتطويع المدارس وتدجين التلاميذ عبر منظمات الطلائع والشبيبة، فحذف أي إشارة إلى رموز المرحلة السياسية السابقة، وخاصة مرحلة الخمسينيات التي عرفت بحرياتها ونشاط الأحزاب والانتخابات الحرة، ولم ينسَ بالطبع إهمال التراث وطمس الرموز الثقافية والمباني التاريخية التي تشير إلى حقب ماضية، باختصار، سخّر كل إمكانات البلاد للتمجيد بفضائل "القائد" وسحق وجهات النظر الناقدة، وقضى على فكرة أي تجمع مدني أو شعبي، حتى الأعراس غدت بحاجة إلى موافقة أمنية، فأخضع البلاد من خلال العمل الدائب على إفساد كل شيء والقضاء على أي شخص يمكن أن يكون بديلاً له، بالقتل أو السجن أو الملاحقة.
لم ترقْ للنظام أشكال التضامن الأهلية والمدنية السائدة، بدءاً من مستوى العائلة إلى العشيرة وانتقالاً إلى النوادي والجمعيات غير السياسية والنقابات المهنية، فهذه تشكل مكامن خطر، فعمَدَ إلى تفتيت هذا النسيج من خلال تقديم الحوافز لمن يلبّي مطالب النظام ويندرج ضمن منظومته، مستبدلاً إياه بروابط تستند أولاً وأخيراً على العلاقة مع أزلام السلطة، وخاصة المقربين. بلغت ذروة التحطيم هذه في فترة الثمانينيات، حيث شهدت البلاد موجة تمرد ضد سلطاته، واجهها بمزيد من القمع والاعتقالات، ومن ناحية أخرى، فكّك الكيانات غير الخاضعة لسلطته واستبدل بها هياكل جديدة معتمداً على أزلامه في حزب البعث وجوقته الوطنية التقدمية، وخاصة في قطاع النقابات المهنية بعد مواقفها المناهضة لسلطته المطالبة بالحرية في الثمانينيات.
استطاع حافظ الأسد، عبر هيمنته الكاملة على أجهزة المخابرات، القضاءَ على فكرة الانقلابات من جذورها، حيث وسّع مهام أجهزة المخابرات لتشمل كل حركات الناس، حتى التدخل في أحلامهم، ناهيك عن الهيمنة على الجيش الذي تحوّل إلى جهاز مهمته الوحيدة الحفاظ على السلطة، بعد إنهاء ما كان يعرف بـ "المواجهة" مع إسرائيل وتحرير الأراضي المحتلة، وفتح أبواب الثروة والجاه للموالين، وإفراغ حزب البعث من الدور الذي رسمه لنفسه وقام عليه -الدور السياسي- وتحويله إلى جهاز رديف للسلطة، وتعميم حالات الرعب من خلال الاعتقالات والمجازر بحق المعارضين سواء في السجون أو المدن، تمكن الأسد من خنق المجتمع والبلاد وتسليمها إلى وريثه بشار بعد وفاته، هذا الخنق الذي دفع الناس للانفجار، بعد أحد عشر عاماً من توريث السلطة، ينشدون الحرية والحياة الكريمة بعد أن تساوت لديهم الحياة بالموت.