"أتاتورك: سيرة حياته"، كتاب يتناول سيرة حياة مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938) منذ ولادته حتى وفاته، صدر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة "ترجمان"، وهو من تأليف كلاوس كرايزر وترجمة سمية قوزال.
ويرصد الكتاب الذي جاء في 440 صفحة أهم محطات حياة أتاتورك المدرسية في طفولته وشبابه، ثم في حياته العسكرية التي تنقّل أثناءها بين مختلف الجبهات الحربية مدافعًا عن الدولة العثمانية، ويتتبّع أخيرًا حياته السياسية حتى إنشاء الدولة التركية الحديثة، وإعلان الجمهورية.
ويستند الكتاب إلى وثائق مهمّة من الأرشيف الألماني، وأخرى من الأرشيف التركي، معظمها لم يُنشر أو يُتناول بالدرس، إلى جانب كثير من المذكرات المنشورة وغير المنشورة لشخصيات ألمانية وأخرى تركية كان لها دور مهم في الحياة السياسية والثقافية في تلك الحقبة.
الكتابة التاريخية
ويعدّ مصطفى كمال أتاتورك، شخصية سياسية تاريخية ظهرت في فترة انتقالية مهمة من تاريخ الأتراك خاصةً، وتاريخ العرب والأمة الإسلامية عامة، أدى دورًا عسكريًا محوريًا في حرب التحرير التركية، وقاد ثورة إصلاحية بلغت ذروتها بإعلان دولة تركية فتية، تختلف في نظمها السياسية الجديدة وتركيبتها الاجتماعية ومنتوجها اللغوي والثقافي عمّا كان قائمًا. وقد أثارت هذه الشخصية، وما زالت تثير اهتمام الباحثين في الماضي والحاضر، ولم يقتصر ذلك على الأتراك منهم، حيث تعدّدت الكتابات حولها بلغات عالمية، كالإنكليزية والفرنسية والألمانية وغيرها.
ويعني تعدّد الدراسات بالضرورة تعدّدَ الرّؤى واختلافها؛ فتنوّع المصادر التي يتناولها الكتاب بالدرس والتدقيق، والحديث هنا عن مصادر تاريخية ووثائق من دوائر أرشيفية متناثرة في جميع أنحاء العالم، تركيا والبلدان العربية ودول البلقان واليونان وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا ... إلخ، يفسح المجال لتناول الموضوع ورؤيته من زوايا مختلفة. وهذه الدراسات، وإن حاول بعضها قدر الإمكان أن يكون موضوعيًا، فإنّ كل تأريخ ينطوي على شيء من التحيّز وتطبعه المسحات الشخصية؛ فالمؤرّخ نتاج مجتمعه وبيئته ورهين لهما. ثمّ إنّ واقعةً ما يمكن النظر إليها من زوايا مختلفة. وليس تعارض نتائج الكتابات والأبحاث التاريخية أمرًا حتميًا، فقد يكمّل بعضها بعضًا. وهذا الانحياز قد يكون بنّاءً إن لم يُقصِ النقد الذاتي وتقبّلَ التدقيق والتمحيص في نتائجه، وقد يقود إلى الدوغمائية إذا انقلب انحيازًا أو إقصاءً أعمى. وقد غلب هذا الانحياز أو الإقصاء الأعمى على عدّة كتابات حول أتاتورك، إذ انقسم معظم المؤرّخين بين مادح ومستهجن، وكرّسوا كتاباتهم لـ "تقديسه" أو "شيطنته".
أما عملية "التقديس" التي شهدت أوجَهَا في تركيا وصبغت النص التاريخي التركي، خصوصًا مع تمدّد الحركة الكمالية، فلعلّ جذورها تعود إلى جهود أتاتورك نفسه؛ فقد عمل في خطابه الشهير المعروف باسم "نُطق"، على رسم صورة معيّنة لشخصه، ثمّ على ترسيخها وتقنينها عبر صحيفته الناطقة بلسانه حاكميت مليت Hakimiyet-i milliye.
إضافةً إلى ذلك، وُضعت في عام 1931 أسس "جمعية التدقيق في التاريخ التركي" Türk Tarihi Tatkik Cemiyeti التي غيّر أتاتورك اسمها في عام 1935 إلى "مؤسسة التاريخ التركي" Türk Tarih Kurumu لتحمل على عاتقها مهمّة صيانة هذه الصورة داخل القالب المرسوم لها، وخلق هُوية تركية جديدة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بشخصه. وليسوا كثرًا المؤرخون الذين نظّروا للكتابة التاريخية الرسمية Resmi Tarih Görüşü, RTG في بداية عهد الجمهورية الوليدة، ويمكن أن تقتصر قائمة أسمائهم على اثنين، هما أنور ضياء كرال ويوسف حكمت بايور، لكنهما مثّلا أمام غياب الرأي الآخر، مرجعًا أساسيًا ووحيدًا لما تلا من كتابات.
فالكتابة التاريخية التي وضع أتاتورك لبناتها الأولى، أصبحت بموجب تسخيرها لخدمة الأيديولوجيا الكمالية قَصْرًا كتابةً تاريخيةً متحيّزة، أو بعبارة أخرى كتابة تاريخية مسيّسة تخدم غرض تقديس شخص أتاتورك، وبناء هُوية تركية جديدة وإرساء دعائمها. وهي وإن اعتمدت على مصادر تاريخية ووثائق أرشيفية، فإنّها تدعم، من خلال عملية انتقاء المعلومة وتكريسها، رأيًا وُضع مُسبقًا.
وحين يُستغنى عن آليات العمل العلمي وتُحدّد نتيجة البحث مسبقًا، ينتهي الأمر إلى اختلاق نظريات تاريخية "شبه خيالية"، على حدّ تعبير أندرو مانغو، وانحياز أعمى لأيديولوجيا سياسية.
الرؤية التاريخية الإسلامية
عادت منذ الخمسينيات ظاهرة الفِرق الدينية والطرق الصوفية إلى الانتشار، بعد عهد قوانين منع التكايا وإغلاقها والتي كادت أن تقضي عليها، فنمت جماعات النور Nurculuk والتيجانية Ticanilik والسُّليمانية Süleymancılık التي، على اختلافها في هيكلها وتنظيمها، اجتمعت في مناداتها بإعادة مكانة الدين الإسلامي في تركيا. وإن لم يتبنَّ الحزب الديمقراطي هذه المطالب علنًا، فإنه بسياسته الليّنة تجاه المسألة الدينية، ونجاح سياسته الاقتصادية، استطاع أن يكسب أصوات هذه الفرق وأتباعها، وأصوات شريحة اجتماعية واسعة من المجتمع التركي أيضًا.
وفي هذا المناخ السياسي والفكري الجديد، تأطّرت بدايات ما يمكن أن نسمّيه الرؤية التاريخية الإسلامية للحقبة العثمانية المتأخّرة وبداية العهد الجمهوري، التي انتشرت بين عامي 1943 و1971 مع نجيب فاضل كيصاكورك ومجلّة الشرق الكبير التي صدرت في عام 1943، وكانت في بداياتها يسارية الطابع تبعًا لانتماءات الكاتب في تلك الفترة من حياته، ولكنها غيّرت ثوبها بآخر ديني تماشيًا مع تغير انتماء كيصاكورك والتحول في مبادئه السياسية؛ فغدت المجلّة أول قلم بدأ عملية مراجعة النص التاريخي الرسمي ووضع لبنة تأريخ جديد ورؤية مخالفة.
لم يكن من الممكن قبل فترة الستينيات، الحديث عن تأريخ مختلف أو خريطة للأحزاب السياسية، ولكنّ الحاجة بلغت أوجَها في السبعينيات والثمانينيات، فسعت أحزاب عدّة إلى تكريس هُوية سياسية خاصة بها من خلال عملية مراجعة تاريخية وصياغة جديدة للنص السائد. وأفرزت عملية المراجعة هذه بدورها رؤية تاريخية لا تختلف في آلياتها ومنهجيتها عن الرؤية التاريخية الرسمية، إذ يبدو أنّ المنظّرين للرؤية الجديدة، أو ما يمكن تسميتها الرؤية التاريخية الإسلامية، قد ارتأوا سلوك منهج النص التاريخي الرسمي نفسه، واعتماد آليات محاجّة مشابهة؛ لذا فإن هذا النص التاريخي الجديد هو أيضًا نص تاريخي مسيّس.
ولم تُعنَ هذه "الرؤية التاريخية الإسلامية" في النص التركي، بعملية "شيطنة" أتاتورك بصفة مباشرة، نظرًا إلى القوانين الصارمة التي تمنع المساس بشخصه، ولكنها ركّزت جهدها على عملية ردّ الاعتبار إلى شخص السلطان عبد الحميد الثاني؛ فخلقت بذلك بديلًا ورمزًا إلى هُوية جديدة. ويعتبر كيصاكورك رائد الكتابة التاريخية الإسلامية في تركيا، ويرى في شخص السلطان عبد الحميد "محرّرًا للهُوية التركية" التي اغتصبتها فئة معينة، كما يعلن أنه يكافح من أجل استرجاع الحقيقة التاريخية وحقوق مغتصبة لسلطان عظيم.
ويذهب النص التاريخي الإسلامي التركي، وكذلك العربي، إلى أنّ الأتراك الجدد الذين انتمى إليهم أتاتورك كانوا خليةً تحرّكها القوى الأوروبية لعزل الخليفة عبد الحميد، وتقويض الدولة العثمانية، وكان من بين هؤلاء المنتمين إلى الأتراك الجدد يهود وأرمن، فهم في جوهرهم واحد، ويكوّنون عصبة المتآمرين على "دولة الإسلام". ولا يخفى على القارئ هنا المنطلق النظري الذي يحلّل الأحداث ونتائجها استنادًا إلى "نظرية المؤامرة" المسيحية - اليهودية – الأرمنية على الدين الإسلامي والدولة العثمانية. ولا يخفى على القارئ أيضًا أنّ التركيز على الشخصية التاريخية في كلٍّ من المؤلفات التركية والعربية لا يُجرّدها من طابع الآنيّة؛ فهي تربط الأحداث التاريخية بالواقع المعيش وتكرّس نتائج أبحاثها من أجل نقد النظامَين السياسي والاجتماعي القائمَين.
القراءات التاريخية الأوروبية
في هذا الإطار، يُشار إلى دراسة مهمّة للمؤرّخ الألماني ماوروس راينكوفسكي، يرى فيها أنّ نظرية المؤامرة التي أصبحت مرتكزًا نظريًا للعديد من الدراسات التاريخية القومية المعاصرة، قد تسبّبت في كثير من الأحيان في تحليل خاطئ للوقائع التاريخية، إذ هي تنظُر إلى هذه الوقائع بمنظار يحجبه إرث ماضويّ تغلب عليه نظرة حنينية إليه، وتذهب إلى أكثر من ذلك فتوظّفها في كتابة نص تاريخي يخدم غرض تحديد ملامح هُوية قومية أو دينية جديدة.
وتمثّل الدراسات والقراءات الأوروبية حلقات أخرى من سلسلة الدراسات التي تتناول الموضوع من زوايا ورؤى أخرى بناءً على المصادر المختلفة، لذلك فإن ترجمة سيرة مصطفى كمال من أصلها الألماني لتوضَع بين يدَي القارئ العربي، تسعى للخروج به من دائرة الرؤية الأُحادية، لتفتح أمامه آفاقًا معرفية أوسع بإطْلاعه على رؤى وآراء مختلفة حول موضوع الدرس نفسه.
لقد تناول الكتاب حياة مصطفى كمال وإنجازاته بالدرس والتحليل، مُستندًا إلى وثائق باللغتين العثمانية والتركية. وإن كان بعض هذه الوثائق معروفًا في حدّ ذاته، فإنّ الكاتب تمكّن، من خلال استقراء جديد لها، من التوصّل إلى نتائج مقنعة، قدّمها في أسلوب سلس وشائق وسهل. ويصنَّفُ الكاتب خارجَ خريطة الانتماءات السياسية التركية، في حين كانت تؤثّر انحيازات نظرائه الأتراك "وانتماءاتهم الشخصية إلى دائرة الصراعات السياسية الراهنة على نظرتهم العلمية للموضوع".
وقد أفرد الكاتب مساحةً لعرض ودراسة مصادر أخرى باللغة الألمانية، يكشفها للقارئ أول مرّة ويسوق منها استشهادات بالغة الأهمية التاريخية، ليقدّم عرضًا ثريًا بالمعلومات الجديدة والاستنتاجات الدقيقة، فكان كتابه في جزء منه عبارةً عن صورة لمصطفى كمال أتاتورك بعيون ألمانية.