في كتابه الجديد "فلسفة الاعتراف وسياسات الهوية" يقدم لنا حسام الدين درويش رؤيته النقدية لقضيتين حساستين ما يزال التوافق حولهما فلسفياً بعيد المنال.
من العنوان الرئيسي "نقد المقاربة الثقافوية للثقافة العربية الإسلامية" يتبدى الاتجاه النقدي للكتاب في مسألتين ما زالتا من أكثر المسائل المتداولة تعقيداً والتباساً، مسألتي الاعتراف والهوية. وكون الباحث ينطلق من خلفيته الأكاديمية، فقد تناول المسألتين وعشرات النقاط المتعلقة بهما بطريقة أكاديمية رجعت بالمفاهيم موضع الدرس والنقد إلى بواكير نشوء المصطلح وتطوره وطرق معالجته أو تناوله لدى العديد من الفلاسفة والمفكرين المعاصرين، ليضع الدارس هذا النص أمام مائدة غنية تمكنه من اختيار ما هو أقرب لمفاهيمه أصلاً، أو لتدفعه لمراجعتها.
من البداية سنجد أن تناول مفهوم الاعتراف فلسفياً يحيلنا إلى اتجاهين، الأول الاعتراف بحق الآخر في الحرية والعدالة والكرامة، وجملة من القيم الإيجابية التي هي حق لكل إنسان بمعزل عن هويته، كالحب والتقدير والعرفان. الاتجاه الثاني يحيلنا إلى الاعتراف بكونه إقراراً بالذنب أو بالتقصير، وهو ينطوي على انحياز عميق للاعتراف بقيمة الإنسان بصفته الفردية، وحقوقه المرتبطة عضوياً بالقيمة الأسمى "الحرية" والتي تشكل شرطاً أساسياً لتحقق سائر الحقوق، كما يلتصق مفهوم الاعتراف بنظرتنا للآخر الذي هو موضع الاعتراف أصلاً، والذي تدور معظم الأزمات المعاصرة اليوم، سيما في عالمنا العربي، حول موقفنا من هذا الآخر المختلف بالضرورة.
وربما تكمن مسألة الاعتراف بالآخر وسبيل التعاطي معها فردياً ومجتمعياً، في صلب مشكلاتنا في العالم العربي. فما Yن أطلت ثورات الربيع العربي التي طالما تشوقت إليها نفوس المقهورين، حتى انتصبت مسألة الآخر والموقف التاريخي منه، كمسألة تنتظر الحسم، هذا الموقف الذي ما زال منسحباً على تفاصيل مواقفنا الآنية، والتي لم يجرؤ أحد بعد على مواجهتها نقدياً، إما بالقطع معها أو بمراجعتها بشكل يفضي إلى فتح الأفق أمام عالم متغير ومختلف، يشكل فيه الاختلاف وقبول الآخر المختلف معه حجر الأساس.
يزخر الكتاب بكثير من التفاصيل المهمة، التي يمكن أن تكون تأسيساً ومراجعةً لمفاهيم محورية في الدراسات الحديثة التي تلزمنا في مقارباتنا لثورات الحرية التي بدأت في أقطارنا العربية
وما إن نقترب من مفهوم الاعتراف بالآخر حتى نجد أن قضية التسامح لا تقل جوهرية عن قيمة الاعتراف، بل إن الاعتراف بافتقاره للتسامح لن يعدو عن كونه موقفاً فيزيائياً يفتقر إلى الروح وإلى حافزه الأخلاقي.
"ما زالت تستفزني عبارة التسامح، لأنها توحي أنها منّة وتكرمة تمنح من الأعلى للأدنى، وهي كما أرى تتنافر بشكل حاد مع مفهوم المساواة، التي تستلزم رفض التفضل بالتسامح من أي أحدٍ على أحدٍ آخر يساويه".
وكما يشير الكاتب في مقدمته، فإن الكتاب يناقش أطروحتين اثنتين؛ الأطروحة الأولى التي يتبناها الكتاب يصفها بـ "الإيجابية/ البنائية"، حيث نجد كثيراً من الإيجابيات في ذلك الترابط الوثيق بين مفهومي العدالة والاعتراف، وهي من أهم الرؤى التي قدمتها العدالة خلال العقود الأربعة الأخيرة، وهذا ما جعلها أقدر على الدخول في الحوارات السياسية والأخلاقية والحياتية المعاصرة بشكل عام.
الأطروحة الثانية "سلبية/ نقدية"، تنبه لضرورة التحفظ تجاه الخلط الذي انتشر بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، بين مفهومي الاعتراف والهوية. ففي الوقت الذي يركز فيه مفهوم الاعتراف على قيمة جوهرية هي المساواة بين جميع البشر من دون النظر إلى أي تفصيل ثانوي أو أساسي آخر، وفي الوقت الذي يكتسي فيه مفهوم "الاعتراف/ المساواة /العدل" معنى أكثر تحديداً ويمكن قياسه إلى حد كبير، ما يزال مفهوم الهوية والهويات الثانوية يكتسي كثيراً من الالتباس ويمكن التحايل على تفاصيله وما يقتضيه بالضرورة عند كثير من المتصلبين حوله. بالطبع هذا لا ينفي أهمية النظر إلى القيمة التي تحملها الخصوصية الجماعاتية، في إطار التنوع والغنى الثقافي. لكن كل هذا يأتي بالدرجة الثالثة بعد حقوق الفرد والقواسم المشتركة بين جميع الأفراد وبعد حقوق المواطنين المنتمين الى بلد معين تتساوى فيه حقوق جميع مواطنيه قبل التفكير بالخصوصية الإيجابية للهويات الفرعية.
هذا ينبع بالطبع من تبني مفهوم تقدم الوجود على الهوية، ولذا تقدم الانتماءات الحرة المبنية على الاختيار على الانتماءات الموروثة، كما تلاحظ الدراسة الخصوصية الثقافية في العالم العربي والإسلامي بصفتهما يعرفان الفرد بما ينتمي إليه هذا الفرد من مجموعات أو تكوينات "كعربي أو إسلامي أو قومي أو طائفي"، وهذه النقطة ارتكزت عليها العديد من الديكتاتوريات والمجموعات القمعية والأيديولوجية، في طمس حقوق الفرد، واعتبار هذا التعدي أو الطمس مشروعاً، حين يكون في خدمة الجماعة أو الحزب أو الطائفة.
يقول (أحمد برقاوي) في تقديمه للكتاب:
"أن يؤلف فيلسوف عربي كتاباً في الاعتراف في تعييناته، ومحاوراً الخطاب الغربي في الاعتراف، فهذا من شأنه أن يمد الثقافة العربية، لا سيما الفلسفية، بساحة حوار ليس مع الآخر فحسب، بل مع الذات أيضاً".
يزخر الكتاب بكثير من التفاصيل المهمة، التي يمكن أن تكون تأسيساً ومراجعةً لمفاهيم محورية في الدراسات الحديثة، التي تلزمنا في مقارباتنا لثورات الحرية، التي بدأت في أقطارنا العربية، والتي تتعرض لنكسات وخيبات وارتدادات، لن تغير من الحقيقة الحتمية أن الثورات تعبر للأمام أبداً، عبر الزمن الطويل بحسب تعبير الرئيس التونسي السابق (منصف المرزوقي)، ومن الصعوبة بمكان الإحاطة بهذا العمل الواسع والعميق، بمراجعة مختصرة لكنها تكفي ربما للإشارة إليه.