"القوة والبطش لا يموتان.. دم الضحايا لا يسمح للطاغية أن يموت.. إنه باب موارب يزداد ضيقا حتى يخنق القاتل". تلخص هذه الكلمات من راوية (لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة) لـ الروائي الراحل خالد خليفة، حكايتنا كسوريين في الماضي وفي الحاضر الذي استنسخ نفسه، ليصبح "الموت عملا شاقا" على الفقراء والحالمين، وحبلا ممدودا للطغاة.
رحل خالد خليفة فجأة، تاركا مقدمات عن موت السوريين، الذين طحنتهم الحرب وابتلعتهم البحار، لتكون روايته "لم يُصلِّ عليهم أحد" قرعاً دائما على أبواب الحزن.
لم ير خليفة مدينة حلب التي تربى ودرس فيها، وتجنب الكتابة عن التدمير المهول الذي ضربها بقنابل النظام وروسيا، لأنه لم يستطع احتمال المنظر، كما قال في لقاء مع تلفزيون سوريا، ولأنه ما زال تحت وطأة الانفعال الشديد لما حدث في حلب، ولذلك لم يكتب أيضاً عنها بل راح في الزمن إلى بدايات القرن الـ 19 في رواية "لم يُصلِّ عليهم أحد".
خالد خليفة والكتابة في اللحظات "الحارة"
في رواية "الموت عمل شاق" تحدث الروائي السوري عن حالة شخصية مر بها، معتبرا أن روايته كانت استثناء لأنها جاءت من حدث شخصي، حيث تعرض خليفة لأزمة قلبية ونقل على إثرها إلى المستشفى في دمشق عام 2013، ويذكر مفارقة حزت في نفسه، وهي أنه كان في غرفة العناية المشددة يتلقى الرعاية الطبية، وعلى بعد 500 متر يقصف النظام حيي جوبر والقابون ويموت الأطفال والنساء ولا يستطيعون الحصول على حبة دواء، هنا يسأل خليفة نفسه سؤالا وهو على سرير المرض، "ماذا لو مت في هذه اللحظة.. ماذا سيحل بجثماني؟ ماذا سيفعل أصدقائي وعائلتي وإخوتي؟. (وفق حوار بثه تلفزيون سوريا ببرنامج "المنعطف").
بعد أن أصبح الموت "فعلا يوميا" في سوريا، يمكننا أن نجيب جزئيا على سؤالك، فأخوك المخرج حسن خليفة "أبو علي"، تمنى لو لم تكن مشهورا ليكون غيابك أناك الشخصي، وهو مفجوع لرحيلك، وكذلك الأصدقاء والعائلة، فقد ضج خبر الوفاة على وسائل التواصل الاجتماعي, وكثير من السوريين شاركوا صورك وتحدثوا عن ذكريات جمعتهم بك، وتداولوا كلماتك مؤكدين أن "الموت فعل شاق" حقا.
يا للخسارة ويا للفاجعة! خالد خليفة ! pic.twitter.com/tYPOCejVL5
— Samar Yazbek سمر يزبك (@SamarYazbek) October 1, 2023
خالد خليفة
— maxim khalil (@MaximKhalil) October 1, 2023
الكاتب والروائي السوري
انظر من هناك ..
لك الكثير على هذه الأرض..
السلام لروحك..
العزاء والصبر للاصدقاء والمحبين ..
خسارة كبيرة هذا الغياب#خالد_خليفة #الله_يرحمك pic.twitter.com/dovba3dyb0
خسرت سوريا اليوم واحدا من أهم مثقفيها وأعلامها في كتابة الرواية. سوريا التي وقعت في "مديح الكراهية" لعقود بعد أن استولى عليها "حارس الخديعة" ودونها في "دفاتر القرباط" مملكة للخوف والصمت لتتزاحمها سكاكين حاقدة خرجت من كل "مطابخ هذه المدينة" ومن خارجها أيضا، وخلفت قتلى، لاجئين،… pic.twitter.com/P3sr8CgBIr
— Hamzah Almustafa (@HmzhMo) October 1, 2023
خليفة المهجّر من "السيناريو"
قراءة خليفة ومتابعة أعماله تعطي انطباعا بأن الورق بيته الذي هُجر منه دراميا، فهو إضافة للرواية صاحب عدد من المسلسلات التلفزيونيّة أشهرها "سيرة آل الجلالي" (1999)، و"هدوء نسبي" (2009)، و"المفتاح" (2011).
وفي حوار نشرته صحيفة العربي الجديد في حزيران الماضي، قال متحدثا عن حال الدراما السورية: "خلال السنوات الماضية انحدر الإنتاج التلفزيوني السوري إلى أمكنة قياسية، كما انحدرت عموما كل مظاهر الحياة السورية. فقد الإنتاج السوري بيئته، ووحدته، والانقسام الذي عانت منه سوريا وصل إلى مسلسلات التلفزيون، وهذا شيء طبيعي. والنقاش خلال الموسم الماضي دليل على هذا التراشق بين جهتين، وليس جهة إنتاج واحدة. لن يعود الإنتاج التلفزيوني السوري إلى ألقه إلّا مع سوريا الحرة الجديدة".
الموقف الإنساني والسياسي
وقف الروائي السوري خالد خليفة إلى جانب الثورة السورية منذ لحظة انطلاقها، معتبرا أنها خيار لا بديل عنه لمواجهة الظلم، وإثر مواقف هذه تعرض للضرب حتى كسرت يده إثر اعتداء أجهزة أمن النظام السوري عليه، خلال مشاركته في تشييع الموسيقي السوري ربيع غزي في 26 من أيار 2012.
وبقي مصرا على البقاء في سوريا طالما أمكنه ذلك، ويقول خليفة في لقاء سابق بثه موقع أمل برلين: "عشنا 60 عاما في ظل نظام دكتاتوري وبالتالي تغريني الكتابة عن هذه الحياة نحن لم نبدأ الكتابة أصلا لتكفيك الحياة في ظل نظام ديكتاتوري"، وتابع حول بقائه في سوريا: "أنا من أصحاب الأرض ولن أفرط بأرضي".
خليفة ضمن قائمة مجلة "إيكونوميست"
رشّحت مجلة "إيكونوميست" البريطانية لجمهورها رواية خليفة "لم يُصلّ عليهم أحد"ضمن قائمتها "المختارة" للقراءة هذا الخريف.
وكتبت المجلة لمحة عن الرواية التي صدرت عام 2019 عن دار "هاشيت أنطوان – نوفل" في القاهرة، ودخلت في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2020 المعروفة باسم "جائزة بوكر العربية".
يعود "خليفة" بالزمن إلى القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، إلى تخوم مدينة حلب حيث فاض نهر عام 1907 "جرف عمراً من الحياة الهانئة على ضفتيه".
تسرد الرواية قصة مجموعة من الأصدقاء عاشوا الطفولة ونشؤوا معاً، أحدهم حنّا يصل بعد نجاته من مجزرة ماردين ليعيش في كنف عائلة مسلمة ويكبر مع زكريا وسعاد. يبني الكاتب روايته على هذا الثلاثي لكنه يزيد شخصيات أخرى كان لها أثرها ودورها الأساسي في سياق الأحداث.
من هو خالد خليفة؟
روائي وسينارست سوري من مواليد حلب 1964، تُرجمت أعماله إلى الكثير من اللغات، إذ كتب "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" (2013) التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربيّة وحازت جائزة نجيب محفوظ لعام 2013، وهي روايته الرابعة بعد "حارس الخديعة" (1993)، "دفاتر القرباط" (2000)، و"مديح الكراهية" (2006) التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربيّة كذلك.
له أيضاً عدد من المسلسلات التلفزيونيّة منها "سيرة آل الجلالي" (1999)، "هدوء نسبي" (2009)، و"المفتاح" (2011).
ويقول خليفة في حوار مع صحيفة الغارديان تعليقا على روايته "لم يُصلِّ عليهم أحد"، "إنها رواية عن الحب المفقود والموت والتأمل والطبيعة في حياتنا، عن صنع القديسين، عن الأوبئة، عن الكوارث، عن محاولة شعب وكفاحه ليكون جزءًا من الثقافة العالمية، عن الصراع بين الليبراليين والمحافظين، عن التعايش الأبدي لهذه المدينة، عن المدينة في الوقت الذي كان العالم كله يسعى فيه للانتقال إلى مرحلة جديدة. لكن حلب تم إحباطها وتدميرها بحيث لم تعد جزءاً من العالم المعاصر".