على الرغم من المحاولات الحثيثة أو المستمرة، في الفكر الغربي، كما في الفكر العربي، للتمييز بين النقد والانتقاد، ولتأكيد إيجابية النقد، لا سلبيته، ما زال الخلط أو اللبس بين النقد والانتقاد قائمًا وبارزًا، في كثيرٍ من الأحيان، حتى في بعض النصوص التي تتضمن محاولة القيام بهذا التمييز؛ وما زالت النظرة السلبية إلى النقد طاغيةً أو حاضرةً بقوةٍ، لدرجةٍ سمحت لفيصل دراج بالقول: «النقد في زماننا شبهة، ممارسة مشبوهة، فعل سيئ الصيت». وربما كان الموسيقار محمد عبد الوهاب أكثر صراحة واتساقًا مع الذات من كثيرين، حين صرح، بما معناه: "هو في حد بيحبه للنقد. ونصابون من يزعمون أنهم يرحبون بالنقد ويتقبلونه. كل واحد بيحب اللي يمدحه".
ولمعرفة رأي شخصٍ ما بالنقد، ينبغي عدم الاقتصار على دراسة نظرته المعلنة إليه وتنظيره وممارسته له، بل ينبغي أيضًا وخصوصًا، معرفة كيف يتفاعل مع النقد الموجه له. ولعل هذا التفاعل أكثر تعبيرًا عن وجهة نظره في هذا النقد، من الممارسة والتنظير المذكورين. فعلى سبيل المثال، ارتبط اسم صادق جلال العظم بفكرة النقد ارتباطًا كبيرًا. وتبدو أهمية النقد لدى العظم واضحةً مبدئيًّا، بمجرد الاطلاع على عناوين نصوصه أو كتبه ومفرداتها. فعلى مستوى العناوين، نذكر، على سبيل المثال، "نقد الفكر الديني"، "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، "دراسات نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية". وغياب كلمة "نقد" عن العناوين الرئيسة لبعض كتبه أو نصوصه لا يعني عدم حضورها البارز والقوي في مفردات أو مضامين هذه الكتب أو النصوص. ﻓـ "حتى" كتاب "الحب والحب العذري" يتضمن نقدًا، ضمنيًّا حينًا، وصريحًا أحيانًا، لـ «الآراء الدينية والأخلاقية والاجتماعية المسبقة التي ورثناها من عهود مضت وعصور اندثرت».
لم يعد مقبولًا أو معقولًا طرح السؤال القذافوي الشهير "من أنت/ أنتم؟" في وجه النقاد والنقد. فمن حيث المبدأ، ينبغي أن يكون لكل إنسانٍ الحق في ممارسة النقد تجاه أي شيءٍ أو أي شخصٍ أو أي طرفٍ في المجال العام
كما أن العنوان الفرعي لكتاب "ثلاث محاورات فلسفية دفاعًا عن المادية والتاريخ" هو (مداخلة نقدية مقاربة في تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة). لكن ربما كان أكثر ما يميز العظم في ذلك الخصوص هو أنه يمارس النقد بكل شدة مع التقيد بالأصول والأخلاقيات المطلوبة في مثل هذه السياقات من جهةٍ، ويتفاعل بكل ودٍّ وإيجابيةٍ مع النقد أو الانتقاد الموجَّه له من جهةٍ أخرى. ففي كتابه "الفكر والحدث. حوارات ومحاور" تحدث علي حرب عن العظم بوصفه أحد المثقفين العرب الكبار الذين «يتمتعون بأصالة الموقف النقدي ويراعون قيم التحاور في علاقاتهم مع زملائهم داخل القطاع الثقافي»، وأشار إلى أن العظم عامله بودٍّ، حين التقاه، على الرغم من أن حرب كان «ناقدًا له بقسوةٍ وعنفٍ».
***
قيل إن طه حسين كان (مثل العظم) يتقبل النقد أو حتى الانتقاد، ويتفاعل معه بكل إيجابيةٍ ووديةٍ ممكنةٍ. ويمكن لمثل هذا الحكم أن ينطبق على طه حسين الناضج أو في المراحل المتأخرة من حياته، وبعد العقد الثاني من القرن العشرين، تحديدًا. لكن ما لا يعرفه كثيرون أن طه حسين في بداياته (في العقد الثاني من القرن العشرين مثلًا وخصوصًا) كان لاذع اللسان في نقده للآخرين، ومرهف الإحساس جدًّا، وذا ردود فعل حادةٍ تجاه أي نقدٍ يتلقاه أو حتى تجاه أي اختلافٍ في الرأي معه. ففي رده على عبد الرحمن شكري الذي كتب مقالًا ينتقد فيه رأي طه حسين القائل بأن "سليقة الشعر قد فسدت وأن أسلوب شعراء العصر فاسد"، كتب طه حسين، عام 1911، قصيدةً ناريةً تحت عنوان "إلى عبد الرحمن شكري"، جاء فيها:
قل لشكري فقد غلا وتمادى بعض ما أنت فيه يشفي الفؤادا
بعض هذا فأنت في الشعر والنثر أديب لا يعجز النقادا
لو تفهمت قولنا لم يكلفك هوى نقدنا الضنى والسهادا
عد إليه تجد شفاءك فيه إنما نمقت الحديث المعادا
واقتصدْ في الغُلوّ إنّ لدينا إنْ تُسائلْ بنا نِصالاً حدادا
ولم يحجم أو يتردد طه حسين، في تلك الفترة، عن استخدام تلك "النصال الحداد"، في كثير من معاركه النقدية، ليس الدفاعية منها، فقط، بل الهجومية منها، أيضًا. وبدا ذلك واضحًا في معاركه السجالية أو سجالاته العراكية مع جرجي زيدان، والمنفلوطي ومحمد حسين هيكل. فعلى سبيل المثال، اقتصر طه حسين، في نقده لكتاب جرجي زيدان "تاريخ آداب اللغة العربية"، على عرض مثالب الكتاب أو سلبياته من وجهة نظره: فانتقد، على سبيل المثال، وقوعه في أخطاءٍ لغويةٍ وأغلاطٍ تاريخية وأنه احتاج إلى أربعة عشر عامًا لإنجاز هذا الكتاب؛ كما انتقد طريقة تصنيفه للأدب العربي، من دون أن يقدم أو يقترح أي بديلٍ (أفضل). وحين اعترض جرجي زيدان على قيام طه حسين باختزال النقد إلى مجرد انتقادٍ، رد طه حسين أنه لا يرى أنه من الضروري أو الواجب أن يترافق إظهار السلبيات مع إظهار أي إيجابياتٍ، أو تقديم أي بدائل إيجابيةٍ، فعمل الناقد لديه ينحصر في "إظهار الخطأ من غير تملقٍ ولا تزلفٍ، ومن غير تحاملٍ ولا تشهيرٍ".
من المهم، في هذا السياق، الإشارة إلى مسألتين. فمن ناحيةٍ أولى، لم يكن طه حسين مجرد ضحيةٍ لمن لم يتحمل نقده الأدبي أو غير الأدبي في كتاباته النقدية اللاحقة، بل كان أحيانًا وفي كتاباته الأولى، تحديدًا وخصوصًا، تجسيدًا للنقد العنيف وللرد العنيف على النقد. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، لا يقتصر الامتياز النقدي في كتابات طه حسين على النقد الأدبي والنقد السياسي والنقد الثقافي والاجتماعي إلخ، بل يمتد أيضًا إلى النقد الذاتي. فقد كان طه حسين مميزًا في ممارسة النقد الأخير (الذاتي)، وبفضل ذلك النقد ونتيجةً له، تراجع، تدريجيًا لاحقًا، عن الرؤية الأحادية والعنيفة لمفهوم النقد، وأصبح أكثر مرونةً واستيعابًا وشموليةً في ممارسته للنقد وفي التنظير له وتلقيه، في الوقت نفسه.
***
بعد عرضي النقدي، مؤخرًا في أحد المؤتمرات، للممارسات النقدية السجالية لطه حسين مع عبد الرحمن شكري، حاول أحد المشاركين في المؤتمر أن يدافع عن موقف طه حسين بالقول إن عبد الرحمن شكري لم يكن في قامة أو مقام طه حسين ليقوم بنقده. وأرى ضرورة التخلص من "ثقافة القامات/ المقامات" هذه في سياق النقاشات الفكرية أو الثقافية (النقدية) في المجال العام. فلم يعد مقبولًا أو معقولًا طرح السؤال القذافوي الشهير "من أنت/ أنتم؟" في وجه النقاد والنقد. فمن حيث المبدأ، (ينبغي أن يكون) لكل إنسانٍ الحق في ممارسة النقد تجاه أي شيءٍ أو أي شخصٍ أو أي طرفٍ في المجال العام. والعبرة بمضمون النقد لا بقامة أو مقام الشخص الذي يمارسه أو يتلقاه. والطريف هنا أن طه حسين في بدايات حضوره في المجال العام قد وجه نقدًا لشخصياتٍ كانت أرفع منه شأنًا، آنذاك، وبسبب ذلك، اتهم بأنه مغرورٌ ولا يعرف شأن نفسه. ومع ذلك، لم يكترث طه حسين لتلك الحجة البائسة المتهافتة واستمر في ممارسة النقد، من دون اكتراثٍ كبيرٍ للتفاوت في القامات والمقامات. لكن بعض المدافعين عن طه حسين تدفعهم عواطفهم وما يتبنونه من قيمٍ أو أفكارٍ متقادمةٍ إلى أن يكونوا "طاهويين" أكثر من طه حسين نفسه، وإلى أن يدافعوا عن ممارساتٍ اعتذر، هو نفسه، عن ممارستها!