الاحتفاء باليوم العالمي للشعر، الذي يتزامن مع احتفالات عيد النيروز (21 آذار من كل عام)، ليس مناسبة لدفق العواطف والتغزل بالشاعر والقصيدة كيفما اتفق، فالشعر هو في حقيقته ليس (كيفما اتفق) أيضا. بل تلك مناسبة للتذكير بعدد من القيم الإنسانية التي تكمن في مفهوم (الشعر) سواء في كتابته أو قراءته أو ما يتعلق به من مسائل وقضايا. وسوف نرى أن تلك القيم التي يعنيها الشعر هي نفسها وبصورة حرفية القيم الجمالية الخالدة المرافقة لتاريخ الإنسان. وسوف نجد أن الشعر يعادل الإنسان نفسه بعد أن ينغمس في تلك القيم ويتمثّلها!
على سيبل المثال لا يوجد شعر يدعو للقتل، والاستبدادِ بكل أصنافه (من السياسي إلى الديني إلى الاجتماعي والعائلي...) لا يوجد شعر يحرض على تشويه الطبيعة، أو إلى قيام الحروب والغزوات (إلا ما كان منه ثورات لتحرير البلاد من استعمارٍ ما)، لا يوجد شعر يدعو لتغييب العقل والوعي، وحين يوجد مثل هذه الأنواع من الشعر فهو مدان ومرفوض ولا مصداقية إنسانية ولا جمالية له. لا يرحّب الشعر بالطغاة ولا يمدحهم مهما أظهروا من بعض الاستعراضات لتحسين جزء من أوضاع البلاد، كما جرت العادة مثلا مع شعراء مدحوا زعماء عربا ديكتاتوريين بحجة أنهم قاموا بمهمّة (المقاومة والممانعة) أو جرت مشاريع اقتصادية في عهودهم هي من حق الشعوب وليست من باب التكرّم على الناس. والشعر لا يمكن لكل تلك الأسباب إلا أن يدافع عن (الحرية).
لذلك نحتفل باليوم العالمي للشعر، أي بعيدِ الشعر، حيث يمكننا استعادة السؤال المتناسل بلا انقطاع، السؤال الذي تحول إلى لافتةٍ يتناوب على رفعها من هبّ ودبّـ، أو من لم يهب ويدب بعد، وهو: ما جدوى الشعر؟ مع استطالات السؤال وظلاله من مثل: ما دور الشعر في عصر العلوم والانفجارات المعرفية والحداثية الموغلة في الانطلاق بكل جموح ممكن؟ ماذا تفعل القصيدة في مقام الحرب والمذبحة؟ ما القصيدة وما أهميتها وهي الكائن الضعيف النحيل، في عصر روما الجديدة أو روما القادمة؟
سؤال يحاول كثير ممن يطرحه ادّعاء أنهم هم الشعراء المعنيون بخلاص العالم ونجدة الكون. لأن السؤال يوحي بمكر خفيّ بأن من يطرحه ذو مسؤولية وجودية في تغيير وجه البشرية.
في عيد الشعر، في الواحد والعشرين من آذار، نتذكر ميلاد نزار قباني، شاعر الجمال والأناقة والوجع النبيل والصلاة المجروحة في هيكل الكون، شاعر القصيدة الشفافة الأخيرة
حسناً... من حق الجميع، شعراء وغير شعراء، مبدعين وزائفين، نقادا ومتلقين، طرح السؤال... ولكن من حقنا أن نشمّ من ثناياه، وتبعا لخلفية من يطرحه، أن بعضا ممن يتصدّى له هم جزء من المشكلة وجزء من السؤال: ما جدوى الشعر؟ أي ما جدوى شعرهم وما أهميته؟ لأن واقع الشعر وتاريخه القريب والبعيد يقدم لنا حالات واضحة ولا تحتاج لبرهان ولا مساجلات لا طائل منها، تدل على أن ثمة شعراء يسيئون بحجم موهبتهم الضعيفة أو الهشة أو التي انتفخت بعوامل خارجية ومؤثرات بيئية واجتماعية وسلطوية وتسويقية، يسيئون للشعر... وثمّة هناك من يعبث بأعمدةِ النور الصافي التي رفع عليها ملكوت الشعر... فما أهمية هؤلاء وما جدوى الشعر لديهم؟ نعم هناك دور لهم وحيد: الإساءة للجمال وتعكير صفو آلهات الشعر اللطيفات المحلقات في سماوات من الزرقة واللازورد...
الذين يصرون على حشر أنفسهم في خانة من يتلقى حكمة نار الشعر الخالدة، وهم عاجزون عن استقبال ولو وهجِ عود كبريت سريع الزوال... هؤلاء يقدمون نتاجا رديئاً يزيد غمة الكون ويخنق صدر العالم أكثر... نتاجاً دون طعم ولا رائحة ولا أية نكهة، مع أنه ما زال يقرأ على المنابر وينشر في كل وسائل النشر الممكنة... ودور هذا النتاج فقط تنفير المتلقي الذواقة للشعر، والإيحاء للكثير من القراء البسطاء بأن هذا هو الشعر، مما يسهّل المعنى الحقيقي للشعر لدى هؤلاء، خاصة لدى من تستيقظ فيهم شهوة الكتابة من باب الغيرة والتقليد ونزوع الشهرة وإضافة المزيد من العلامات الفارقة (للبريستيج) الاجتماعي لديهم... وما أكثرهم وما أشدّ لمعان بدلاتهم التي خرجت للتو من موعد قسري مع ربة الشعر المسكينة...
***
في عيد الشعر، تستعاد تلك الأسئلة، نعم... ومع كل سؤال نستنبط جوابا نولّد منه سؤالا آخر... أي لأن العالم يمشي نحو الهاوية فلا بدّ من الشعر. ولأن المذابح تفرخ وتفرخ بلا حياء ولا أمل في التقليل منها، فلا بد من الشعر، ولأن المجاعات تمتد بظلالها عبر القارات، ولأن وحش روما ما زال يصرخ هل من مزيد، ولأن ليل الدم يرتفع كل يوم بوصة ضوئية؛ لكل ذلك يزداد الإلحاح على الشعر... وقيمته وجدوى حضوره لتنقية عوالم الإنسان من أشباح الحروب والطغاة وظلال التوابيت وأصوات القنابل الذكية... مع كل مذبحة تقام، وكل قنبلة تحفر في وجدان التراب والروح والطفولة يزداد صوت القصيدة ارتفاعاً وجمالاً حزينا وأليماً.
***
في عيد الشعر لنقف صادقين - وقلّما نكون صادقين - مع أنفسنا وبجرأة متناهية - معظمنا عاجز عنها - ولنسأل أقلامنا: ما الذي جنته على الشعر؟ وماذا أضافت من معنى حقيقي أو معنى هجين وكذاب؟ فمن كان على بيّنةٍ من أنه قدّم حقا ما يستحقّ دخوله في عالم القيم الجمالية الكبرى والنبيلة، فليقدم بيّنته... وسوف يكون من السهولة كشفه وتصديق حجته. أما من اكتشف - هذا إذا اكتشف - أنه ينبغي عليه أن يخلص الشعر منه قبل أن يتجرأ ويفكر بخلاص العالم، فليعلن ذلك وسوف يكون الشعر ممتنا له ويقدم له الاحترام... ولكن...
***
في عيد الشعر، في الواحد والعشرين من آذار، نتذكر ميلاد نزار قباني، شاعر الجمال والأناقة والوجع النبيل والصلاة المجروحة في هيكل الكون، شاعر القصيدة الشفافة الأخيرة، نتذكره لأنه من المصادفات ذات المعنى أن يقترن يوم الشعر بيوم ميلاده، ليكون العيد عيدين: عيدا للشعر وعيداً للشاعر، ولأن نزار قباني ليس شاعراً عابراً فليكن ميلاده لحظة احترام لميلاد لأي شاعر كبير مؤثر... ولأن ذلك كذلك فليكن عيد الشعر وعدا جديداً نطلقه لنزار بأن نظل أوفياء لنداء الجمال الأنيق والنبيل الذي أطلقه في وادي الوجود...
في عيد الشعر/ في ميلاد الشاعر، من منا قادر بجدارة على مواصلة نداء الشعر؟
***
اليوم العالمي للشعر، وليس (يوم الشعر العالمي). لأن الجملة الثانية تخدع من لا يعرف وتوهمه بأنه احتفال بالشعر الذي أصبح (عالميا). وبعض هواة المهرجانات العالمية يصرون على تسميته بيوم الشعر العالمي ليخدعوا قراءهم السذج بأنهم صاروا شعراء عالميين. في حين أن المقصود هو أنه يومٌ عالميّ للشعر، مثله مثل اليوم العالمي للمسرح، وللمرأة، وهكذا...
***
يقال أعذبُ الشعر أكذبه. وذلك من باب التشهير بأخلاق الشعر والشاعر، وإدانتهما.
في عيد الشعر يجب أن ندعو إلى إعادة النظر في هذه الفكرة، لأنها مفتاحٌ أساسي من مفاتيح طبيعة الشعر. فالكذب هنا لا علاقة له بالموقف الأخلاقي. بل مرتبط بطبيعة الشعر نفسها. القائم على التوهّم والتخييل والمجاز والاستعارات بأشكالها وتطورها. بل لابدّ من هذا الكذب الفنيّ وإلا أصبح الشعر نقلاً للواقع أو الفكرِ منطقيا وكما هو، من غير أي تنشيط للخيال والتصوير الشعري.
والكذب هنا ولأنه ليس مرتبطا بالموقف الأخلاقي، فهو لا يسيء ولا يسبب أذى للآخر. بل يعطيه متعة وإحساساً جميلا ويساعد روحه على الفعل. وتلك هي رسالة الشعر والفن بشكل عام.
أما الكذب الأخلاقي فهو مثلا أن أكون مؤيداً لحاكمٍ قاتلٍ وديكتاتوري وأكتب فيه قصيدة جميلة أو رديئة. عندها سأكون لا أخلاقيا ليس لأن أعذب الشعر أكذبه، بل لأني أنا كاذب بالأساس سواء أكنت شاعرا أم غير ذلك.
***
وفي سيرة الكذب، هناك شعرٌ مكتوب حديثا في مديح طغاة وقتلة، من أمثال حافظ وابنه، نحن في مناسبة اليوم العالمي للشعر ينبغي أن نعيد اتهام كل شاعر كتب في مديح الطغاة بأن مديحه ذاك هو موقف لا أخلاقي، ولا يصبّ في معنى الشعر بعد أن تطور وتخلى عن أدواته وموضوعاته التقليدية المستهلكة والموروثة. حتى لو كان هذا الشاعر شاعرا كبيرا مشهودا له بالتميز والتأثير، لكنه في ساعة سقوطٍ وانتهاز شوّه جمال الشعر بتقبيل أيادٍ ملوثة بالدماء.
ولا نستثني من ذلك أي شاعر حتى أولئك الذين كتبنا في جمال شعرهم وأهميته.
وفي الوقت نفسه ترى شعراء حداثة سوريين يعيشون في الداخل، لم يكن مطلوبا منهم أن يقوموا بخسران حياتهم والضرر بها في هذه المرحلة السورية الدموية، لكن أيضا لم يكن مطلوبا منهم أن يمجدوا رئيسا قاتلا ويتغزلوا بأدائه العسكريّ ويعتبروا ذلك عيدا للقيامة!
وهم أنفسهم كانوا قد أغرقونا بشعر الحرية والمرأة والدفاع حتى عن حقوق الحيوان. طبعا نحن معهم في دفاعهم عن حقوق الحيوان، ولكن أين اختفى صوتهم الجمالي في الدفاع عن حقوق السوريين الذين ذبحهم أسدٌ حيوانٌ بشريّ؟