تعتبر الجهود الساعية لخلق تقارب بين تركيا والنظام السوري بوساطة روسية ثاني أهم لعبة دبلوماسية في الشرق الأوسط، بما أن الشيء الوحيد الذي دفعها نحو الخلف قليلاً هو محاولة التطبيع بين إيران والسعودية بوساطة صينية.
قبل يومين، عُقد اجتماع رباعي حاسم بموسكو ضم وزراء الدفاع ورؤساء الاستخبارات في كل من روسيا وتركيا والنظام وإيران، وهذا التحول من الاجتماع الثلاثي الأولي الذي ضم كلاً من روسيا وتركيا وسوريا، إلى الصيغة الرباعية، بين بأن هنالك اعترافاً بقدرة إيران على تقويض الاتفاقيات في حال تم تهميشها، ولهذا أضاف إشراك إيران في المحادثات مستوى جديداً للتعقيد الذي شاب عملية التفاوض.
على الرغم من مشاركة دول عديدة، وعلى رأسها الإمارات والأردن والسعودية ومصر والجزائر وتونس في محاولات التقارب المختلفة مع سوريا، إلا أن التقارب بين أنقرة ونظام الأسد يحمل أهم ثقل بالنسبة لتقرير مستقبل سوريا ونفوذ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في المنطقة مستقبلاً.
وقد أعلنت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن وقوفهما ضد أي محاولة للتطبيع مع الأسد في بيان صدر في الذكرى الثانية عشرة لقيام الثورة السورية، ولكن على الرغم من اعتراضهما، ماتزال عملية التقارب جارية، حتى بوجود تحديات وعقبات تعترض طريقها.
احتل التقارب بين أنقرة والنظام السوري مركز الصدارة خلال العام الفائت، عقب عمليات تواصل على مستوى رؤساء الاستخبارات تمت بين الطرفين، بعد ذلك تطورت العلاقات إلى محادثات ثلاثية بين وزراء الدفاع في كل من تركيا والنظام وروسيا خلال شهر كانون الأول الماضي.
استعجال تركي
سعى الرئيس التركي أردوغان للقاء الأسد في أسرع وقت ممكن، مدفوعاً بثلاثة أسباب أساسية، أولها، ضغط الناخبين الذي بلغ ذروته مع تنامي عداء الشعب التركي تجاه اللاجئين السوريين. إذ على المستوى الداخلي في تركيا، رغب أردوغان بعقد هذا الاجتماع قبل الانتخابات ليستعرض ما يبذله من جهود لإعادة اللاجئين السوريين بهدف التخفيف من ردود الفعل الاحتجاجية التي تبديها القاعدة الشعبية التي تؤيده.
أما السبب الثاني فهو اعتقاد أردوغان بأن الأسد قد أصبح ميالاً لتقديم تنازلات أكثر قبيل انتهاء العزلة الدبلوماسية عليه، إثر ابتعاد الدول العربية عن الخط الأميركي وتواصلهم مع الأسد، ولهذا لم ترغب تركيا بأن تتخلف عن الركب.
ثالثاً: سعى أردوغان للضغط على الكرد قدر استطاعته، إلا أن الجيش التركي رفض ذلك حتى بوجود دعم أو تسامح من قبل القوى الدولية، وعلى الرغم من الدعم الواسع الذي تم حشده في الحملات المناهضة للإدارة الكردية في شمال شرقي سوريا، إلا أن تركيا لم تتمكن من نشر الاستقرار في المنطقة لتسحب بذلك البساط من تحت الكرد.
النظام السوري يتريث
بخلاف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لم يكن بشار الأسد في عجلة من أمره للقاء، لأنه اعتقد بأن الوقت لصالحه، وبأنه كلما تريث أكثر، أصبحت ورقة الضغط على تركيا بيده أقوى، كما أن العزلة الدبلوماسية المفروضة عليه أخذت تتحلحل في تلك الأثناء.
والأهم من كل ذلك هو أن لعبة الانتظار والتريث كانت أهم لعبة لعبها النظام طوال فترة النزاع، فقد نجح النظام بالتريث وانتظار حدوث انفراجات على المستوى الداخلي والإقليمي والعالمي وذلك فيما يتصل بمعاداة النظام، وشهد خلال تلك الفترة تفكك التحالفات المحلية والإقليمية المناهضة للأسد.
ثم إن الأسد لم يرغب بمساعدة أردوغان على كسب نقطة أخرى لصالحه في الانتخابات في حال توصله إلى اتفاق معه، إذ على الرغم من ضغط بوتين عليه، يفضل الأسد الاستعاضة عن أردوغان بحكومة من المعارضة التركية، بما أنه يود التعامل مع تركيا بعد حقبة أردوغان لإعادة بناء الثقة بشكل تدريجي وصولاً لتطبيع العلاقات بين البلدين.
أهداف متسلسلة: عقبات في ترتيب الأولويات
ثمة عقبات وتحديات أخرى كثيرة تعترض طريق التقارب، أولها وأهمها مسألة الثقة، وذلك لأن كلا الطرفين يضمران الشك تجاه بعضهما، فضلاً عن تشكيك الأسد بأردوغان على وجه الخصوص.
أما نقطة الخلاف الثانية فتتمثل بترتيب الأولويات الأساسية لكلا الطرفين، إذ تولي تركيا أولوية لتفكيك الإدارة الكردية في شمال شرقي سوريا، مع السعي لعقد اتفاق يفضي لترحيل اللاجئين السوريين المقيمين حالياً في تركيا، وذلك لأن الشعب التركي بمختلف أطيافه بات يكره وجود اللاجئين السوريين، وهذا ما دفع أنقرة للإسراع في طرح حلول لهذه المشكلة.
وبالمقابل، أخذ نظام الأسد يطالب تركيا بسحب قواتها من سوريا قبل مناقشة فكرة تفكيك الإدارة الذاتية، وذلك لأن النظام لا يشاطر تركيا في نظرتها لتلك الإدارة الكردية، كما أن دمشق قد تبدي عدائية أقل تجاه الوضع الكردي في سوريا مقارنة بنسبة عدائها للوجود التركي، وهذا الاختلاف في الموقف يعود لمشكلات كردية داخلية حدثت في تركيا ورسمت شكل المقاربات الإقليمية لهذا البلد.
مشاركة إيران.. الاجتماع الرباعي وتداعياته على تركيا
ظهرت مشكلة أخرى عندما تحولت الاجتماعات الثلاثية التي ضمت روسيا وتركيا وسوريا إلى اجتماع رباعي بعد إشراك إيران فيه، إذ في البداية تم تهميش طهران واستبعادها من تلك المفاوضات، وهذا ما دفعها للاحتجاج علناً، حيث أعلن وزير الخارجية الإيراني بأن سمع عن المفاوضات من خلال الصحف.
اقرأ أيضا: طهران تؤكد مشاركتها في اجتماع روسيا وتركيا والنظام السوري في موسكو
تطورت الاجتماعات على مراحل، حيث بدأت باجتماعات عقدت بين رؤساء الاستخبارات في كل من تركيا وسوريا، ثم تطورت لتشمل وزراء الدفاع لدى النظام وتركيا وروسيا. ثم تم تأجيل الخطط الساعية لعقد اجتماعات على مستوى وزراء الخارجية في شهر شباط الماضي عدة مرات، كما دفع إشراك إيران إلى مراجعة المفاوضات السابقة، ونتيجة لذلك، اقتصرت الاجتماعات التي كان من المفترض لها أن تعقد على مستوى وزراء الخارجية، على رؤساء الاستخبارات ووزراء الدفاع.
واليوم، لم يعد شكل الاجتماعات يصب في مصلحة تركيا، إذ في الاجتماعات الرباعية ستتحدث تركيا بصوت واحد، في حين يمكن لسوريا أن تتحدث بثلاثة أصوات: صوتها، وصوت إيران، وصوت روسيا. بيد أن موسكو ،عند مقارنتها بطهران، تبدو أكثر انفتاحاً على فكرة تلبية المطالب التركية.
الإدارة الذاتية في مرمى نيران التقارب التركي مع النظام السوري
وضع التقارب التركي مع النظام السوري الكرد في موضع الخاسر، إذ لم يستفيدوا من كل القنوات المتاحة من أجل التوصل إلى حل مع النظام السوري، كما لم يستغلوا إيران والدول العربية ليتوصلوا إلى اتفاق مع تركيا أو سوريا، بل إن تركيا هي من يبحث في كل القنوات الممكنة ولعلها ستتفاوض مع الكرد عبر أوجلان وقيادات حزب العمال الكردستاني.
بيد أن خسائر الكرد قد لا تكون كبيرة كما تتمنى تركيا، ولكن في الوقت الذي تسعى فيه تركيا لإزالة خطر قسد، تبدي جهات فاعلة إقليمية أخرى مثل إيران والنظام وروسيا رضاها عن المعالجة التركية للمشكلة الكردية، بيد أن نظام الأسد لابد وأن يعرب عن قلقه إزاء ديناميكيات السلطة المحلية في حال زوال الإدارة الذاتية من شمال وشرق سوريا.
الدور الأميركي الملتبس
مع تكشف الأمور، مايزال الدور الأميركي في المنطقة مبهماً، فالإشارات المختلطة التي أطلقتها الولايات المتحدة خلال الأشهر الماضية، مثل الزيارات التي قامت بها شخصيات عسكرية أميركية رفيعة إلى المنطقة، زادت من قلق الجهات الفاعلة الإقليمية، خاصة تركيا وإيران. كما أن احتمال تجديد الولايات المتحدة لالتزامها بالمنطقة وتدعيم وجودها فيها قد يضيف مستوى آخر من التعقيد لشبكة العلاقات الإقليمية المعقدة أصلاً.
لذا، حتى يكون للولايات المتحدة أثر إيجابي على المنطقة، يجب عليها أن تكون واضحة وأن تعمل بشكل استراتيجي، وذلك لأن الوجود الأميركي في شمال شرقي سوريا وشراكتها مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) يعتبر أحد أهم أوراق الضغط التي تمتلكها الولايات المتحدة في هذه المنطقة.
المصدر: Forbes