الإعلام هو من يصنع الرأي العام، وليس سواه. ومن المؤسف أن العالم كله، بقضه وقضيضه وكأنه غير معني بالسؤال عن المستفيدين الاستراتيجيين من القضايا التي تطرح في وسائل الإعلام. فالإعلام بمختلف أشكاله، المرئي والمكتوب والمسموع، أصبح فاعلا أساسيا، ومؤثرا في تشكيل الرأي العام، واتجاهاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لا بل هو من يرسم السياسات، ويصنع القرارات، من حيث إنه هو المؤطر لعملية البناء الاجتماعي والثقافي والسياسي، ويلاحظ في هذا الإطار كيفية تكامل الأدوار بين وسائل الإعلام على اختلاف أشكالها، بحيث يمكن ملاحظة استغلال الوسائل الإعلامية لخصوصياتها التي تمكنها من القيام بالدور المنوط بها، فهي القاسم المشترك بين الجمهور وقادة الرأي.
هذه الإشكالية تقتضي معرفة العلاقة بين الإعلام كوسيلة، والرأي العام كقوة كامنة، وهذه القوة إن تحركت أو استغلت، يمكن أن تتغير الكثير من المواقف على أرض الواقع، وهذا ما جعل الإعلام مجالا دائم التغيير، وخاصة بعد انتشار الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، ذلك الابتكار الهائل. إذ يمكنك أن تجوب البلاد، وتتعرف على العباد، تستقبل وترسل كل ما تريد وأنت في سريرك.
مفهوم الخذلان متأصل في الوجدان العربي، لا بل يكاد ينسحب حتى على العلاقات الاجتماعية. فهو غريب عن فرحة النصر ومختلف عن انكسار الهزيمة
وهذه الثورة بدورها كانت أداة مهمة للقيام بثورات أخرى، قامت فعلا. نجح بعضها، وفشل بعضها الآخر، إلا أن فكرة الثورة لم تمت. بقيت في أذهان المنتصرين والمهزومين على حد سواء. هذا كلام عام يلامس واقع الحال في أي ثورة، وفي أي مكان. إلا ثورات العرب، فهي مستثناة من ذلك التعميم، لأن مفهوم الثورة مستلب، ومستولى عليه. فكل الانقلابات العسكرية اعتبرت ثورات! وهذا ما جعل فكرة ثورة الشعوب -غالبا– محكومة بالخذلان. حدث هذا في أغلب دول الوطن العربي، وما آلت إليه الدول التي شملها الربيع العربي خير مثال.
لذلك ترى أن مفهوم الخذلان متأصل في الوجدان العربي، لا بل يكاد ينسحب حتى على العلاقات الاجتماعية. فهو غريب عن فرحة النصر، ومختلف عن انكسار الهزيمة، فالفرح الذي يعقب النصر، والانكسار الذي يعقب الهزيمة، مفهومان مفاعيلهما النفسية على المستوى الزمني تكاد تكون آنية، أما الخذلان فتأثيره في النفس أعمق، ومداه الزمني أطول. والعرب بشكل عام هم ورثة هذا المفهوم، لذلك تراه يحتل حيّزا كبيرا في ذاكرتهم. فهو قائم على تراكمات منذ معركة "ذي قار" إلى الآن. تلك المعركة التي خلدها الأعشى بقصيدة عصماء، كان وصفه للتخاذل العربي من أشهر أبياتها:
"كانَت وَصاةٌ وَحاجاتٌ لَنا كَفَفُ لَو أَنَّ صَحبَكَ إِذ نادَيتَهُم وَقَفوا
لَو أَنَّ كُلَّ مَعَدٍّ كانَ شارَكَنا في يَومِ ذي قارَ ما أَخطاهُمُ الشَرَفُ"
***
هذا هو الماضي الذي يمسك بنا، وكأن الشعر والتاريخ مفاتيح معرفة الحاضر. عناوين ثابتة لواقعنا. ووهم النجاة هو القارب الذي ليس معدّا لمواجهة عاتيات الموج، هذا الوهم الذي نعيشه اختبرناه عقودا طويلة، وما زلنا نلوذ به علما أننا نعرف أنه مجرد وهم. بينما هناك من يصنع الحقائق التي يحتاجها، دون سند تاريخي، أو واقعي، أو منطقي، أو حقوقي.
خير مثال على ذلك فيلم "قائمة شندلر" Schindler's List، وهو فيلم أميركي أنتج عام 1993، من إخراج ستيفن سبيلبرغ، ويحكي قصة رجل أعمال ألماني مسيحي يدعى أوسكار شندلر، أنقذ 1100 يهودي بولندي من المحرقة النازية "الهولوكوست" وأخفاهم في مصانعه، إبان الحرب العالمية الثانية.
هذا الفيلم يروج له الآن بقوة، علما أنه أخذ حقه من العرض والجوائز منذ عام 1993، فما القصة؟ وما الغاية من ترويجه الآن؟
أولا: ثمة خلط متعمد بين اليهود كأتباع ديانة، وإسرائيل ككيان مصطنع. إذ أن إسرائيل التي قامت من دون حق تاريخي، تريد أن تجعل من تاريخ الديانة اليهودية تاريخا لها.
ثانيا: لاستبدال صورة الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة، بصورة الجرائم النازية بحق اليهود إبان الحرب العالمية الثانية.
ثالثا وهو الأهم، أن الفيلم -ويعتبر الآن من أكثر الأفلام مشاهدة- حصد الكثير من الجوائز (سبع جوائز أوسكار)، أي أنه كصناعة سينمائية محكم الصنع، بمعنى آخر أنه مقنع، ومؤثر، بينما الصور التي تتسرب من قطاع غزة إلى الإعلام الغربي هي مجرد مقتطفات يسيرة من المجازر الإسرائيلية، وبالتالي سينحاز العقل الواعي الحيادي للصورة الأكثر تأثيرا. ما يعني أن القصة ستتحول إلى مقارنات بين صورة وصورة أخرى، وبهذه المقارنة سيخسر الفلسطينيون صورة مأساتهم التي ما زالت دماؤها طازجة، أمام صورة فيلم قائمة شندلر Schindler's List التي مضى عليها أكثر من 75 سنة.
رابعا: إعادة الاعتبار لمحرقة الهولوكست، لاستعادة التعاطف مع اليهود الذين اعتبرت إسرائيل نفسها ممثلتهم الوحيدة، وبالوقت نفسه لإيقاظ الشعور بالذنب في المواطن الغربي نفسه.
خامسا: لا يوجد وجه للمقارنة بين الحالتين، إلا أن ذلك لا يهم، ثمة صورة سيطغى تأثيرها على صورة أخرى، وهو المطلوب. المهم أن لا تؤثر صور المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة على الرأي العام الغربي. وعلى ما يبدو أن هذا قد حصل.
***
أما المواطن العربي فرأيه إن كان له رأي، هو أبعد ما يكون عن التأثير في قرار الحاكم العربي، لأن مرجعية القرار السياسي العربي لا تستند إلى الرأي العام، ولا تأخذه باعتبارها. لذلك شاعت "عقدة الذنب التضامني" التي نلاحظها بوضوح في دعاء خطبة الجمعة في المساجد، وهذه الحالة ليست جديدة على خطباء المساجد في بلادنا، فالدعاء على إسرائيل، وتمجيد الحاكم، هما ثيمة دائمة في كل الخطب! ذكرتُ خطبة الجمعة لأن المساجد هي المكان الوحيد الذي يجتمع فيه المسلمون دون مساءلة أمنية عن سبب الاجتماع، كما أن الحكام قد أمنوا تلك الخطب، والخطباء، واختبروهم زمنا طويلا.
وتبع الشعراء خطباء المساجد في أمسياتهم، وكتبت آلاف القصائد عن فلسطين وغزة، وكأن خطبة الجمعة، والأمسيات الشعرية نافذتان لتفريغ شحنة الموقف العربي مما يحدث في غزة وليسا منبرين لتشكيل رأي عام مؤثر، وفاعل.
أما على مستوى الشارع العربي فهو لا يحتمل تشكيل رأي عام، وخاصة بعد الربيع العربي، فقد فطن الحكام العرب لذلك، واحتاطوا له كل الحيطة..