لا يمكن اعتبار حالة التحريض اليومية ضد اللاجئين السوريين في لبنان حالات فردية أو موجة عابرة، فهي خطة سياسية مدروسة تقودها أحزاب يمينة متطرفة (فاشية) تلقي بكل فشل الدولة اللبنانية على اللاجئين السوريين.
كان لبنان منذ تأسيسه حديقة خلفية لسوريا ضمن نظرية العلاقات الدولية، باعتباره جزءاً من الفضاء الجيوسياسي لبلاد الشام الذي تعد سوريا أكبر دوله بالإضافة إلى الأردن وفلسطين، وتحول منذ الحرب الأهلية عام 1975 إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، وسط تغول واضح للنظام السوري ثم إيران.
وأدى التنوع الطائفي والاجتماعي في لبنان إلى تسهيل عملية التدخل الدولي في قراراته وعدم تمكنه من فرض سيادة الدولة المستقلة على أراضيه وحدوده التي يشترك بها مع سوريا بـ 375 كيلومتراً، ومع فلسطين المحتلة بـ 120 كيلومتراً.
كان للثورة السورية تأثير كبير على محيطها، ولا سيما لبنان الذي قدم إليه ما يصل لـ 1.5 مليون لاجئ سوري، منهم 950 ألفاً مسجلون لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (تابعة للأمم المتحدة)، حيث يستضيف أكبر عدد من اللاجئين في العالم بالنسبة إلى عدد السكان المقدر بنحو 5.3 ملايين نسمة.
تعاملت السلطات اللبنانية مع ملف اللاجئين السوريين منذ بدايته بطريقة رافضة لوجودهم، حيث لم تؤسس أي هيئة لإدارة شؤونهم وتنظيمها، تاركة الملف برمته لوكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والمحلية والجمعيات الخيرية، وسط وجود انتهاكات بحقهم بدءاً من إطلاق تسمية "نازحين" عليهم لحرمانهم من أي حقوق رغم اعتراف الأمم المتحدة بهم كلاجئين وتقديم المساعدات الدورية على أساس ذلك، مروراً بمنعهم من العمل بمعظم الوظائف والأشغال، إلى جانب عمليات الاعتقال التعسفية والترحيل القسري، وصولاً إلى قرارات منع التجول الليلية بالعديد من المناطق والمدن.
واقع لبنان
لم يكن وضع لبنان قبل قدوم اللاجئين السوريين إليه بحال أفضل، فقد منعت التجاذبات السياسية والمحاصصات الطائفية بين الأحزاب بناء حالة استقرار فعلية للدولة على مدار عقد ونصف تقريباً، فقد غادر رئيس الجمهورية السابق ميشال عون منصبه في 30 تشرين الأول عام 2022، ولم يتمكن مجلس النواب اللبناني حتى هذه اللحظة من انتخاب رئيس جديد، رغم كل ما تمر به البلاد من أزمات وانقسامات وتهديد حقيقي لوجوده.
وسبق أن صنف مرصد الأزمة في "الجامعة الأميركية في بيروت"، لبنان من أكثر الدول فشلاً في العالم، موضحاً أنّ "خطر سقوط لبنان في مرتبة الدول الفاشلة بات واقعاً، بعد تراجعه 36 مركزاً على مدى 5 سنوات، ليصبح ترتيبه في عام 2021 بين الدول الـ 34 الأكثر فشلاً من أصل 179 دولة".
وقبل ذلك حذّر تقرير دولي من سلوك لبنان "السيناريو المتشائم"؛ حيث تتمحور الافتراضات حول عدم قيام الحكومة بتطبيق الإصلاحات الضرورية المطلوبة، ما سيلغي الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وسيتسبب في استنزاف احتياطات مصرف لبنان، وفي ارتفاع نسبة الدين إلى ما يفوق 200 في المئة من الناتج المحلي. وبالتالي سيتم تصنيف لبنان دولة فاشلة (Failed State)، كما هي حالة فنزويلا والصومال وسيريلانكا مؤخراً.
ما هي الدولة الفاشلة؟
في أعقاب الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي شهدت الساحة السياسية الدولية ظهور فواعل ومصطلحات جديدة نتيجة التحول الذي بدأ مع العقد الأخير من القرن العشرين، إذ صار العالم أكثر تعقيداً وغموضاً وخطورة، وفي خضم ذلك ظهر لأول مرة "مصطلح الدولة الفاشلة" الذي بدأ مع تفكك يوغسلافيا وغيرها، إذ أدت هذه التحولات إلى ثورة في المسار الأكاديمي تجسد في دراسات ونظريات تحلل ظاهرة فشل الدول.
ومن المهم التمييز منهجياً بين مصطلح الدولة الفاشلة، والمصطلحات الأخرى مثل "الدولة الضعيفة" (State Weak)، و"الدولة المنهارة" (State Collapsed) و"الدولة الهشة" (Fragile State) حيث إن "الدولة الضعيفة" هي التي تجد صعوبة في توفير حاجيات السكان مثل "الصحة، التعليم، الدفاع الوطني، والخدمات الاجتماعية الأساسية وتوفير الأمن".
وتعتبر "الدولة المنهارة" بمنزلة النسخة الراديكالية للدولة الفاشلة، والتي تكون السلطة (القوة الشرعية)، والقانون والنظام السياسي قد تعرضت كلها للانهيار التام وأصبحت بحاجة إلى إعادة البناء.
أما بخصوص "الدولة الهشة" فتعرف بأنها الحالة التي تكون فيها الحكومة والهيئات العمومية ليس لها الإمكانات أو الإرادة السياسية لضمان الأمن وحماية المواطنين، وغير قادرة على التسيير الفعال للقضايا العمومية وغير قادرة كذلك على مكافحة الفقر الذي يعاني منه السكان، ولذلك يمكن القول إن مصطلح "الدولة الفاشلة" أشمل من مصطلح "الدولة الهشة" الذي يتناول ظاهرة فشل الدولة من منظور اقتصادي ومؤسساتي فقط.
وفي حالة لبنان، نجد أن كل المصطلحات السابقة تنطبق على البلد المتهاوي اقتصادياً وسياسياً، ومع ذلك تصب معظم الأحزاب اللبنانية كل أسباب الفشل الذي تعيشه لبنان على رأس اللاجئين السوريين، للإفلات من مغبة ما يحصل من انهيار.
أسباب حقيقية للانهيار الاقتصادي
وبدل العمل على حل المشكلات الكبرى العالقة في البلاد، بدءاً من تفشي الفساد وغياب منطق الدولة، مقابل تغول حزب الله اللبناني في كل مفاصلها، ونفوذ إيران والنظام السوري اقتصادياً للقفز على العقوبات الأميركية توضع كل التهم على عاتق اللاجئ الذي يكاد لا يجد قوت يومه.
ويقدر حجم الاقتصاد الموازي في لبنان بـ 24 مليار دولار، في الوقت الذي يصل الناتج القومي الرسمي للدولة اللبنانية بـ 56 مليار دولار.
وفي تقرير لصندوق النقد الدولي، بلغ معدل الاقتصاد غير الشرعي في لبنان نحو 31.6 في المئة سنوياً من الناتج المحلي، في الفترة بين 1991 و2015، ليحلّ لبنان في المرتبة 86 عالمياً ضمن لائحة أكبر اقتصادات غير شرعية في العالم والتي تضمّ 158 بلداً، وهي الحالة الأكثر تهديداً للاقتصاد الوطني على عكس ما يروج له.
واعتمد النظام السوري خلال العقد الأول من الثورة السورية على لبنان كحديقة خلفية للالتفاف على العقوبات الأميركية والغربية المفروضة عليه، أسس خلالها آلاف الشركات بواجهات لبنانية، تقوم بإدارة تجارة دولية لصالحه وصالح إيران، ما عاد بآثار سلبية على لبنان.
وفي عام 2019 انطلقت مظاهرات شعبية تطالب بإسقاط النخب السياسية الحاكمة للبلاد، تزامناً مع طفو الانهيار الاقتصادي في لبنان على السطح، ثم جاءت أزمة وباء فيروس كورونا بدايات 2020، وانفجار مرفأ بيروت في شهر آب من العام نفسه، والبلاد أمام أزمات تتفاقم يوماً بعد يوم.
وتراجعت على إثر ذلك الليرة اللبنانية إلى مستويات تاريخية وصلت اليوم (2 تشرين الأول 2023) إلى 89500 ليرة مقابل كل دولار، في حين لم يكن يتجاوز سعر الصرف الـ 1500 ليرة مقابل كل دولار عام 2019.
لماذا اللاجئون السوريون على أجندة التأجيج؟
وفي كل التقارير الدولية والدراسات الاقتصادية حول لبنان، لا يشير أي منها إلى تأثير اللاجئين السوريين السلبي على الاقتصاد اللبناني، إنما هم ضحية واقع مفروض على الجميع، بل هم أكثر المتضررين من أي تراجع اقتصادي في لبنان لأن احتياجاتهم أعلى باعتبارهم لا يملكون أي بيوت أو عقارات ولديهم مصاريف كبيرة سواء كانوا في بيوت مستأجرة أو في مخيمات.
ويعد السوريون عماد العمالة الرخيصة في لبنان، في قطاعات الزراعة والبناء بشكل أساس، كما ساهموا من قبل في إعادة إعمار لبنان بعد الحرب الأهلية في تسعينينات القرن الماضي.
وفي إطار ذلك، يعيش 90 في المئة من اللاجئين السوريين في لبنان تحت خط الفقر، ويبلغ عدد المخيمات الخاصة بهم 3100 مخيم، تعاني أوضاعاً مزرية لاسيما في فصل الشتاء، وتتعرض لجملة من الاعتداءات منها الطرد والتعنيف وإحراق الخيم، مع تعرضهم للطرد والتعنيف وإحراق مخيماتهم التي تعاني أوضاعاً مزرية لا سيما في فصل الشتاء حيث تتراكم الثلوج.
ويحرض السياسيون اللبنانيون ومعظم الأحزاب والمحللون التابعون لها وعموم الطبقة السياسية ضد اللاجئين السوريين، بطريقة تشبه التأجيج الذي سبق الحرب الأهلية اللبنانية التي كانت شعلتها في الأساس موجهة ضد الفصائل الفلسطينية بحجة تهديد الوجود المسيحي في لبنان وبعبع التوطين.
وفي ظل الأوضاع الراهنة وحجم التضييق من قبل السلطات اللبنانية ضد اللاجئين، يضاف إلى ذلك التحريض ضدهم، لا يرغب معظم السوريين بالبقاء في الأراضي اللبنانية، إلا أنهم لا يجدون مكاناً آخر يمكن الذهاب إليه، مع تعثر الحل في سوريا.
وتنتقد الحكومة اللبنانية والأحزاب اليمنية المتطرفة أي تصريح من قبل الولايات المتحدة والدول الغربية التي تؤكد على أن الظروف ما زالت غير مواتية لعودة السوريين إلى بلدهم.
اللاجئ عيشته أفضل
ويعمل المحرضون على نشر الأخبار الكاذبة والشائعات بخصوص تلقي كل اللاجئين دعماً مالياً مباشراً من طرف المفوضية عبر تضخيم هذه المبالغ والتهويل منها، وهي في الواقع لا تتعدى سقف 200 دولار للعائلة متعددة الأفراد وضمن شروط معينة ودراسة قامت بها مفوضية اللاجئين لكي تحصل العائلة على مساعدة بدل معيشي وإعانة تغذية.
وبسبب انهيار الليرة اللبنانية، قررت المفوضية صرف البدل المعيشي للاجئين بالدولار بدلاً من الليرة، إلا أنها أبدت رفضها لذلك، ومنذ ذلك الوقت تضاعف حجم التحريض وزادت مشاعر العداء ضد السوريين في لبنان الذين أصبح ينظر إليهم من طرف البعض على كونهم يتمتعون بظروف أحسن من بعض المواطنين اللبنانيين الذين يتعين عليهم تحمل التقلبات الكبيرة لصرف سعر الليرة اللبنانية الى الدولار.
ومؤخراً تراجعت إمدادات الدول المانحة بما يقارب 25 بالمئة مقارنة بعام 2022، ما انعكس بشكل مباشر على الخدمات الأساسية المقدمة للاجئين، والذي سيظهر بشكل أكبر خلال فصل الشتاء.