في ظل تصاعد الحديث عن قرب وقوع الهجوم المضاد الربيعي للقوات الأوكرانية ضد جيش الاحتلال الروسي في سعيِ لاستعادة أراضٍ أوكرانية محتلة، وفي ظل تدفق السلاح الغربي على أوكرانيا تهيئة لهذه العملية، انتشر شريط مصوّر مضمونه لافت للنظر. فقد ظهر فيه المدعو يفغيني بريغوجين، الرئيس المؤسس لمجموعة فاغنر، وهي مجموعة المرتزقة الأشهر في العالم في يومنا هذا، يرغي ويزبد ويشن هجوماً شديد اللهجة ضد القيادات العسكرية الروسية مشيراً إلى جثث مرتزقته التي تحيط به والذين قتلوا في مواجهات أخيرة مع الجيش الأوكراني وهو يعزو تلك الخسائر لنقص توريد الأسلحة والذخائر من قبل القوات النظامية الروسية. وقد ذكر بالاسم رئيس الأركان ووزير الدفاع ناعتا إياهما بألفاظ نابية.
بريغوجين هذا، وهو الرجل المقرّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اختار لمجموعته تسمية فاغنر وذلك في إحالة واضحة إلى المؤلف الموسيقي الألماني الشهير ريتشارد فاغنر (1813 ـ 1883). فاغنر هذا، كان ارتباطه قوياً بالأساطير الجرمانية ومقتنعاً بتفوق العرق الجرماني الصافي. كما عرف عنه أنه كان معادياً للسامية ـ من منطلق موسيقي على الأقل ـ حيث توضّح ذلك بعد أن كتب نقداً لاذعاً لموسيقار كان معلمه وعنونه "اليهودية في الموسيقا".
يعتقد سيد الكرملين أن وجودها كقوات رديفة غير رسمية يمكن له أن يساعد القوات الروسية النظامية على تجنّب إمكانية المساءلة القضائية الدولية
وتنتشر قوات مجموعة فاغنر المرتزقة في كل من سوريا وليبيا والسودان وإفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو ومالي بشكل علني وفي بلدان أخرى بين إفريقيا وآسيا بشكل خفي. ومقابل نفي سلطات الكرملين السابق لعلاقتها بها وإشرافها عليها، والتعريف بدورها رسمياً على أنه محصور في تأمين الحماية الخاصة لبعض الشخصيات وبعض المواقع، فقد أدّت الوقائع من خلال متابعة ممارساتها وحتى تصريحاتها إلى أن يتبيّن للقاصي والداني بأن الاعتماد عليها أساسي، ليس فقط في تنفيذ المجازر، وإنما أيضاً في التعويض عن ضعف الروح المعنوية لدى أفراد الجيش النظامي وقلة الخبرة القتالية لديهم، وذلك مقابل وحشية في الأداء وانصياع كامل للأوامر الصادرة لأفراد المرتزقة الذين يأتي معظمهم من السجون. إضافة إلى ذلك كله، يعتقد سيد الكرملين بأن وجودها كقوات رديفة غير رسمية يمكن له أن يساعد القوات الروسية النظامية على تجنّب إمكانية المساءلة القضائية الدولية.
أرسلت الشريط المصور إلى صديق عزيز في الداخل السوري، وهو عميق الثقافة وواسع الاطلاع، وذلك رغبة مني في أن أحصل، في أحسن الأحوال، على إدانته. ولو الخجولةـ لمثل هذا الدور الإجرامي الذي تلعبه مجموعة فاغنر في الحرب الروسية على أوكرانيا. ولماذا الإدانة الخجولة كانت لتكون كافية من قبل هذا الصديق؟ إن ذلك مردّه إلى قناعة سبق له أن شاركني بها في جدال بيزنطي حول العدوان الروسي على أوكرانيا. تُختصر هذه القناعة بأن روسيا - المعتدية- تخوض حرباً فُرضت عليهاـ من قبل المعتدى عليه وحلفائه ـ وبأن موقف قياداتها السياسية على الأقل تحتوي على جرعة وافية من "الوطنية" الراسخة في القدم منذ قياصرتها مروراً بشيوعييها ووصولاً إلى بوتينييها.
وبعيداً عن محتوى الشريط الذي نشرته صفحة المجموعة المرتزقة ذاتها كما تناقلته جميع وكالات الأنباء، وبنت الصحافة العالمية تحليلات وافية تتعلق بمدلولاته وبعواقبه، وبمعزل عن أثره الذي لم يتأخر إلا ساعات ليخرج المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية مُعلناً إرسال دفعات جديدة من الأسلحة والذخيرة إلى الميليشيات القاتلة. بعيداً عن هذا كله وسواه، يكون التساؤل عن موقف الصديق المثقف مشروعاً، خصوصاً أن إمكاناته اللغوية والتحليلية كما الأخلاقية، لا غبار عليها في المطلق. وقبل التسرّع في الحكم على موقفه السيئ والذي واجه به حقائق لا تقبل الشك، أتوقف عند عبارة أدرجها في مستهل تعليقه وهي تتمحور حول أهمية المتحدث المدعو بريغوجين ومحله من الهرمية القيادية الروسية. كما أضاف للشعر بيتاً باستغراب تجرُّئه على مهاجمة القيادات العسكرية في بلد عرف بسلطته غير المنفتحة على الانتقادات من أي نوع في بلد يحكمه بقبضة من حديد زعيم أوحد منذ عقود.
المتلقي الذي يشك عموماً بالمصادر الآتية من وراء الحدود لتمسكه بإيديولوجيا أفقرت تحليله النقدي، سيتأثر ولو بشكل خفيف بأكاذيبها المتواصلة
انطلاقاً من هذا "الجهل" بالشخصية الرئيسية اليوم في معركة موسكو على كييف، يتبين بأن الإعلام الموجه السائد في سوريا، محلياً كان أم إقليمياً أم دولياً، محصورٌ بإعلام الخطاب الواحد الذي يتبنى منذ فجر الاحتجاجات الشعبية على الأنظمة العربية المستبدة خطاب المؤامرة. فمن شبه المؤكد أن تلفزيون دمشق أو روسيا اليوم أو الميادين لن يشيروا في نشراتهم إلى نقم زعيم المرتزقة الروس على القيادات العسكرية لأنهم ما فتئوا يقدمون آلة القتل الروسية على أنها منظومة متطورة تتمسك بمبادئ الحروب "النظيفة"(...). كما تستمر هذه "الأبواق" الإعلامية بتشويه الحقائق بطريقة تتجاوز العقل والمنطق، ولكنها تعرف بأن المتلقي الذي يشك عموماً بالمصادر الآتية من وراء الحدود لتمسكه بإيديولوجيا أفقرت تحليله النقدي، سيتأثر ولو بشكل خفيف بأكاذيبها المتواصلة.
يكاد أحدكم يستنكر التناقض الواضح بين وصفي لصديقي بأنه من النخبة المثقفة وامتناعه بالمقابل عن الحذر في تلقي الأنباء، أو على الأقل، عدم سعيه الى توسيع زاوية النظر إلى خارج الحدود عبر الفضائيات والإنترنت. ودفاعاً عن صديقي أرجع بكم إلى حقبة النازية حيث الألمان المثقفون كانوا يتلقفون غالباً خطاب سلطتهم النازية لقناعة وزير الدعاية حينذاك، جوزيف غوبلز، بأنه "كلما كبرت الكذبة، سهل تصديقها".