لقد اصطُلِحَ في تعابير البعض من عموم الناس، على أن ارتكاب الكذب هو فعلٌ مشروعٌ ومستحسنٌ إلى درجة ربطه بتميّز ذكوري المنبع لتقدّم مكانة الرجل عن مكانة الأنثى، وليصير بالتالي ارتباط الرجل بأقبح الصفات محموداً. فالكذب إذاً لدى البعض هو ملحٌ يُضاف إلى طبق تصرّفات الرجال الأقوياء وحدهم دون النساء الضعيفات، حيث إنهم يجرؤون في حين تخشى النساء، أو هكذا خيّل لهم. وانطلاقاً من ذات المنطق، فقد استسهل البعض من البسطاء في الوعي ـ ومن غير البسطاء أيضاً ـ اعتبار أن صفة الكذب هي ملاصقة بصلابة للنشاط السياسي عموماً ولمن يمتهن السياسة من الرجال خصوصاً. كما وأنه من المتعارف عليه، ليس عربياً فحسب، بل كونياً حتى، أن يختلط الأمر على العامة دائماً والنخبة أحياناً، بين السياسة وعلم السياسة، وهذا ما يجعل علم السياسة ضحيةً لمن "يُجرّم" السياسة، مضيفاً معاناة أخرى لمعاناة هذا العلم الحديث نسبياً والذي يعاني من أحكام مسبقة يشترك في إطلاقها بعض مريدي العلوم الإنسانية الأخرى كعلم الاجتماع وعلم التاريخ. وكثيراً ما يستهزئ المؤرخون بمن يطلق على اختصاصه علوماً سياسية والذي يرفضون وجوده كعلم مستقل حتى اليوم. مع أن الأدبيات الجادة، ومنذ ما يفوق نصف قرن، أوضحت أنه صار علماً قائماً بذاته يتقاطع ويتفاعل مع العلوم الإنسانية الأخرى، مما يجعل من الحتمي على باحثيه ومدرسيه، الإلمام بأسس العلوم الإنسانية الأخرى والقريبة من منطقه التحليلي.
منذ بضعة أسابيع، وفي خضم تهافت أنظمة عربية على التصالح مع الحاكمين في دمشق، قامت صفحة تلفزيون سوريا في وسائل التواصل الاجتماعي بعرض شريط مصور مشغول بشكل مكثّف ومتقن، استعرض وبجلاء، الاختلاف الصارخ إلى حد التناقض بين كلام مسؤولي دولة عربية متهافتة في السنوات الأولى من عمر الثورة السورية، حيث كانوا يدّعون وصلاً بها ويدعون إلى دعمها ويتصدرون المنددين بعمليات القمع الدموية التي تعرّض لها المتظاهرون السلميون في بداياتها من قبل أجهزة السلطة الحاكمة القمعية من جهة، وبين مواقفهم المعلنة بعد تطبيع علاقاتهم مع المؤسسة الحاكمة في دمشق بدءاً من عام 2018 وحتى يومنا هذا، وحيث توّج هذا التقارب بزيارات رسمية استعراضية حَفِلَت بمظاهر الودّ وحُمِّلَت بكل ما تيسر من المعاني الرمزية التي تجعل من هذا التناقض بين مواقف السياسيين أنفسهم فجّاً ووقحاً، وكان يكاد المريب يقول خذوني.
علّقت على الشريط بأنه يمكن أن يُستخدم كوسيلة "تعليمية" فعالة لإيضاح قدرة الإنسان عموماً والسياسي خصوصاً على تغيير المواقف بشكل جذري معتمداً على خاصيّة الكذب، متحججاً بالواقعية السياسية، إنه درسٌ مجانيٌّ عظيمٌ
وبتلقائية تتماشى مع سرعة استعمال وسائل التواصل، قمت بمشاركة الشريط المصور مع أصدقائي الحقيقيين كما الافتراضيين الذين منهم ما يمكن اعتبارهم بأنهم متربصون موهوبون لتصيّد الهنّات وللانقضاض على صاحبها كما ينقض أبناء آوى على بقايا جثث الحيوانات. وإضافة للمشاركة المتسرّعة نسبياً، اجتهدت سردياً، فعلّقت على الشريط بأنه يمكن أن يُستخدم كوسيلة "تعليمية" فعالة لإيضاح قدرة الإنسان عموماً والسياسي خصوصاً على تغيير المواقف بشكل جذري معتمداً على خاصيّة الكذب، متحججاً بالواقعية السياسية، إنه درسٌ مجانيٌّ عظيمٌ. وقد نجم عن هذه المشاركة، كما هي العادة، سيلٌ هادر من عبارات الإعجاب والمشاركات من كل حدب وصوب.
مصدر إصراري على رفض هذا الاستنتاج مرتبط بتمييز أتمسك به بين علم السياسة وممارسة السياسة، وبين ممارستها في ظروف معينة وممارستها في ظروف أخرى، وبين فهم مكنوناتها في ظرف تاريخي محدد وفهم مكنوناتها في ظرف تاريخي مختلف
في مساء اليوم ذاته، تواصلت معي صديقة منتقدة تصرفي هذا، أي مشاركة الشريط المصور، معتبرة بأنني أقع في فخ وسائل التواصل التي تشدّ إلى ما تعتقد بأنه مهم وتكون النتيجة إضاعة الوقت والجهد فيما هو ليس محورياً. كما واقترحت أن ابتعد عن نشر مادة كهذه على الرغم من جاذبيتها الآنية وقدرتها على فضح كذب سياسيين عرب لم ينشف حبر تصريحاتهم الأولى بعد، وإذ بهم "يلحسون" ما سبق ليأتوا بنقيضه تلبية لمصالح مستجدة أو إفصاحاً عن دورٍ مشبوه كانوا قد التزموا به منذ البداية على أن يتم تمويهه لفترة زمنية تتمكن من خلالها قوى الثورات المضادة من هدم المسار بعد تفخيخه. ما وجهة النظر خلف النصيحة التي أتتني من الصديقة؟ لم تصهب بالكلام، ولكنني ربطت الأمر بالدخول المتعاظم في الموقف "القيَميّ" أثناء استعراض مواقف سياسية وانتشار الرأي ـ الذي أخالفه ـ بأن كل السياسة كعلم وكممارسة هي مرتبطة بالكذب. ففي العلم، هي تزوّد بالأدوات اللازمة للفهم وللتحليل، وفي الممارسة، فهي أحياناً ما تستخدمها وأحياناً أخرى تقوم بتحييدها لتستعمل أدوات خارجة عن التصنيف السياسي، وما أكثرها. وهذا يعني أنك إن قمت بمحاسبة هذا الطرف اليوم ستضطر لكي تحاسب ذاك الطرف غداً، مما يدخلك في حلقة مفرغة غير منتجة. لكن مصدر إصراري على رفض هذا الاستنتاج مرتبط بتمييز أتمسك به بين علم السياسة وممارسة السياسة، وبين ممارستها في ظروف معينة وممارستها في ظروف أخرى، وبين فهم مكنوناتها في ظرف تاريخي محدد وفهم مكنوناتها في ظرف تاريخي مختلف، وإلى آخره...
وفي العودة إلى تطبيع الأنظمة العربية مع النظام السوري، فإنه يجب أن يكون درساً أو عبرةً لمن ظن يوماً بأن نادي الأنظمة التسلطية يتخلى عن أحد أعضائه لأسباب قيمية وأخلاقية وإنسانية. ولفهم ظاهرة الطرد ثم العودة "الميمونة" نحتاج إلى علم السياسة حتماً.