البث المباشر
كانت نتائج الانتخابات المحلية في تركيا صادمة للجميع رابحين وخاسرين مهتمين وغير مهتمين، إذ لم يكن حزب العدالة والتنمية يتوقع هذه الهزيمة السياسية التاريخية الأولى من نوعها، ولم تكن أحزاب المعارضة لتحلم بمثل هذا التقدم وحيازة معظم بلديات ولايات ومدن ومقاطعات البلاد.
يعد المجتمع التركي من بين أكثر الشعوب تسييساً وممارسة للسياسة خصوصاً في العقدين الماضيين في ظل حكم حزب العدالة والتنمية ورئيسه القوي رجب طيب أردوغان، والذي استطاع الحفاظ على سير العملية الديمقراطية بمواعيدها المحددة وهو ما استطاع ترسيخ التجربة الديمقراطية في بلد متعدد الأعراق والتوجهات السياسية، رغم ما واجهته تركيا من تغيرات كبرى محلياً وإقليمياً ودولياً.
وبحسب نتائج الانتخابات المعلنة، حل حزب العدالة والتنمية في المرتبة الثانية في الانتخابات بعد حزب الشعب الجمهوري المعارض بفارق أكثر من 2%، حيث حصل "الشعب الجمهوري" على 37.77% متقدماً على حزب العدالة والتنمية الذي حصل على 35.49% لأول مرة منذ تأسيس الأخير.
هذه الانتخابات الأولى التي يخسر بها حزب العدالة والتنمية استحقاقا انتخابيا أمام أحزاب المعارضة وإن مر بتراجع سابق بمعدل أصوات الناخبين المؤيدين له عموماً، إلا أن النتائج الأخيرة كانت صادمة ومفاجأة ولم يكن يتوقعها أي مراقب داخلياً أو حتى خارجياً، فقد خسر الحزب العديد من حواضنه، وصعدت أحزاب جديدة وتقدمت أحزاب تقليدية وتراجعت أحزاب أخرى كان من المتوقع أن تحرز انتصارات في مدن ومقاطعات متعددة.
خسارة في أبرز المعاقل
كل القراءات واستطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات لم تتحدث عن خسارة بهذا الحجم لحزب العدالة والتنمية وصعود لحزب الشعب الجمهوري خصوصاً أن الشركات التي تصدر الاستطلاعات في تركيا مسيسة إلى حد كبير ومعظم استطلاعاتها تبوء بالفشل عادة.
حقق حزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة) نصره التاريخي الذي لم يحقق مثله منذ عام 1977، وحصد 37.7% من إجمالي الأصوات، بعد أن كانت نتيجته في انتخابات 2019 لا تتجاوز 30.1%، وانتزع 35 بلدية في عموم تركيا، منها البلديات الثلاث الكبرى: إسطنبول وأنقرة وأزمير، بعد أن كان رصيده 21 بلدية فقط في انتخابات 2019، بينما حصد حزب العدالة والتنمية الحاكم 35.5%، بعد أن كانت نتيجته في انتخابات 2019 هي 44.3%، وحصد 24 بلدية بعد أن كان يحكم 39 بلدية في انتخابات 2019.
اللافت أن حزب العدالة والتنمية خسر كذلك مجالس البلديات الكبرى، وعددا من بلديات المقاطعات، كما أنه قد خسر بلديات ولايات كانت محسومة من قبل مسبقاً له مثل بلدية ولاية "مانيسا" التي لم يخسرها حزب العدالة أبداً منذ تأسيسه، ومثل بلدية بورصة التي لم يخسرها أبداً أيضاً، ومدينة "بارتين"، ومدينة "دينزلي" و"كلس" و"أفيون" و"كوتاهية" وغيرها.
في المقابل حقق العدالة والتنمية اختراقاً طفيفاً في بعض مناطق الزلزال المدمر فأخذ من الحزب الجمهوري بلدية "هاتاي" أحد معاقل الحزب التاريخية.
ورغم كل حملات التحريض على اللاجئين السوريين والأجانب التي قادتها أحزاب المعارضة في الانتخابات الرئاسية وبدرجة أقل في الانتخابات البلدية وقناعة بعض العاملين في "العدالة والتنمية" أن اللاجئين والمهاجرين لهم تأثيرات سلبية للغاية في البلاد، حافظ "العدالة والتنمية" على العديد من البلديات التي تضم مئات آلاف اللاجئين مثل "غازي عنتاب" أحد معاقله المهمة، وكذلك الحال بالنسبة لقونية وكهرمان مرعش.
الأحزاب القومية.. خسائر ومفاجآت
لا شك أن سياسة الباب المفتوح التي انتهجتها حكومة العدالة والتنمية بما يخص اللاجئين والمهاجرين بشكل عام كان لها بعض التأثيرات السلبية على صورته محلياً بعد أكثر من 13 عاماً، خصوصاً مع تسيس الملف والزج به في السباقات الانتخابية إلا أنه لم يكن ملفاً مهماً بالنسبة للشعب منذ الانتخابات السابقة وفق كثير من الاستطلاعات التي كانت تولي الأهمية القصوى للاقتصاد ثم التعامل مع ملف الزلزال وغيره من الكوارث الطبيعية التي ضربت تركيا بين عامي 2019 - 2023 مثل الزلزال المدمر والسيول والحرائق ووباء فيروس كورونا المستجد.
وكان لافتاً أن حزب النصر الذي يقوده اليميني المتطرف أوميت أوزداغ والذي جعل حملته الانتخابية في البلديات قائمة على إنهاء وجود اللاجئين والمهاجرين في تركيا، لم يحظ بأي بلدية واحدة وحصل على أصوات قليلة لم تتجاوز نسبتها 1,74% من عموم الأصوات في تركيا.
والحال نفسه بالنسبة لحزب الجيد المنشق عن الحركة القومية الذي لم يحصل سوى على بلدية ولاية صغيرة واحدة هي "نيفشهير" وسط الأناضول، وهي ولاية لا يتجاوز عدد اللاجئين السوريين فيها الـ 13 ألف شخصاً متوزعين على عدة مدن وبلدات أصغر.
والتراجع نفسه شمل حزب الحركة القومية أحد حلفاء "العدالة والتنمية" الحاكم والذي حصد 4.99% من الأصوات حائزاً ثمانية مدن فقط، بعد أن كان لديه 11 بلدية في انتخابات 2019.
هذه النتائج أظهرت أن ملف اللاجئين السوريين في تركيا رغم أهميته وحساسيته لم يكن له أي تأثير يذكر في انتخابات 2024، حيث لم يكن يشغل بال الناخب التركي وجود اللاجئين أو الأجانب على أرضه بقدر ما يهمه وضعه الاقتصادي ورفاهيته، خاصة أن ملف اللاجئين كان يثار على شكل "ترندات" على مواقع التواصل الاجتماعي.
الصاعد الجديد
تكبد كل من حزب الديمقراطية والتقدم وحزب السعادة وحزب المستقبل (أحزاب محسوبة على التيار الإسلامي أو المحافظ) خسائر فادحة، وباتت هذه الانتخابات نقطة تحول بالنسبة لهذه الأحزاب وسط صعود مباشر لحزب الرفاه من جديد الذي يقوده فاتح أربكان نجل رئيس الوزراء التركي السابق نجم الدين أربكان "أبو الإسلام السياسي" في تركيا.
وحصل حزب الديمقراطية والتقدم على 0.33%، وحزب السعادة 1.09% وحزب المستقبل 0.07% في تراجع أوضح الحجم الحقيقي لهذه الأحزاب في تركيا، والتي سبق أن دخلت البرلمان التركي في انتخابات 2023 على أكتاف حزب الشعب الجمهوري مقابل دعم المرشح الرئاسي للمعارضة كمال كلتيشدار أوغلو الذي خسر الانتخابات مقابل أردوغان.
ولم تتمكن هذه الأحزاب مجتمعة من تحقيق النسبة التي حصل عليها حزب "الرفاه من جديد"، وبلغت 6.19%، والذي كان ينافس حزب العدالة والتنمية في كل معاقله، وأخذ منه ولاية "تشانلي أورفة" بالجنوب، ويوزغات بالوسط، في صعود استثنائي ومفاجئ ومؤثر على الحزب الحاكم حتى في بلديات المقاطعات، خصوصاً في إسطنبول وأنقرة التي كانت فيها الخسائر فادحة.
حل حزب الرفاه من جديد ثالثاً بالانتخابات البلدية من إجمالي الأصوات، وانتزع مقعده في السياسة التركية من أحزاب تقليدية مثل "الحركة القومية" وحزب الديمقراطية والمساواة الشعبية (ديم) أقوى الأحزاب الكردية بتركيا.
لماذا خسر الحزب الحاكم؟
رغم أن نتائج الانتخابات كانت صادمة بالنسبة للحزب الحاكم ومؤيديه وحتى لمعارضيه، إلا أن وراءها العديد من الأسباب والتي يمكن تحديد بعض عناوينها مثل الاقتصاد وغزة والمقاطعة الحزبية ودخول السويد إلى حلف الناتو، وأسباب أخرى تتصل بتغير مزاج الناخبين وتأثيرات الزلزال المدمر وتداعيات كورونا والسعي للتغيير وما إلى ذلك.
يعد العامل الاقتصادي من أبرز الأسباب التي تغير عادة وجهة نظر الناخبين بمختلف الدول الديمقراطية وتركيا ليست بعيدة عن ذلك، في ظل الوضع الاقتصادي المتراجع مع ارتفاع نسب التضخم وزيادة سعر الفائدة وتراجع قيمة العملة؛ الأمر الذي انعكس سلباً على حياة المواطنين وقدرتهم الشرائية، رغم الزيادات الكبيرة التي طالت الموظفين، إلا أن استمرار التضخم بالارتفاع جعل زيادة الرواتب تدور في حلقة مفرغة.
ولعل الأصوات العقابية جاءت بشكل مباشر من فئة واسعة من المتقاعدين (16 مليون متقاعد) الذين لم يحصلوا على زيادة مرضية كالتي حصل عليها الموظفون الأمر الذي انعكس سلباً في صناديق الاقتراع.
ورغم ذلك يصر الرئيس أردوغان ووزير ماليته محمد شيمشك على الاستمرار بالسياسة المالية القاسية والبرنامج الاقتصادي المعتمد لخفض التضخم والعودة بالبلاد إلى وضعها الطبيعي.
وألقت أزمة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بظلالها على الانتخابات البلدية التركية، وتم استخدامها واستغلالها من قبل العديد من الأطراف وسط مزاعم باستمرار عقود التجارة بين "إسرائيل" وتركيا رغم دعوات المقاطعة الكثيرة ويبدو أن حزب "الرفاه من جديد" استفاد من هذه الدعاية وأخذ كثيرا من الأصوات بحجتها متوعداً بنصرة غزة رغم أن البلديات ليس لها أي سلطة لإيقاف العداون الإسرائيلي على غزة أو أي مكان في العالم.
ولعل الصدمة الأكبر لدى العدالة والتنمية كانت بإحجام الملايين من كتلته الانتخابية عن استخدام أصواتها وإفساح المجال للمعارضة للفوز المريح، إذ بلغت نسبة التصويت نحو 78.3% في مقابل 84.7% بانتخابات عام 2019.
تقدر الأصوات التي لم تلب دعوة "العدالة والتنمية" للتصويت في 31 آذار 2024 بـ 7 ملايين صوت في عموم تركيا، وهي أقل نسبة تصويت حصل عليها الحزب في مسيرته منذ تأسس عام 2002.
وكان الخطأ في اختيار بعض المرشحين وابتعاد العدالة والتنمية عن جس نبض الشارع بشكل حقيقي ومباشر سبباً في تراجعه إضافة إلى الترويج لملفات فساد تخص بعض المرشحين.
فعلى سبيل المثال فاز مرشحا حزب الرفاه من جديد برئاسة البلدية في كل من مدينة شانلي أورفا ومدينة يوزغات، علماً بأن كلا الرجلين كانا رئيسي البلديتين عن حزب العدالة والتنمية، إلا أن الأخير لم يرشحهما لفترة جديدة، وكانت النتيجة أن الرجلين حصلوا على أصوات عشرات الآلاف من حزب العدالة والتنمية الذي انشقا عنه بعد انضمامهما لحزب الرفاه من جديد.
وأدى الحشد الحزبي الكردي بشكل غير المعلن خلف مرشحي حزب الشعب الجمهوري في إسطنبول وأنقرة إلى خسارات مدوية لحزب العدالة والتنمية الذي خسر رئاستي البلديتين ومعظم المقاطعات داخلهما.
فعلى الرغم من تراجع الخدمات في إسطنبول برئاسة أكرم إمام أوغلو وعدم وجود برنامج انتخابي ضخم مقارنة بالذي قدمه مرشح العدالة والتنمية مراد كوروم إلا أن الالتزام الأيديولوجي لمناصري حزب الشعب الجمهوري وفئة الشباب وانحياز المكون الكردي وبعض الجماعات الإسلامية خلف إمام أوغلو مكنته من الفوز بفارق تجاوز 10 بالمئة.
وهذا الفوز قد يفتح الطريق لإمام أوغلو للاستمرار بمشروعه الأساس بالترشح لرئاسيات 2028، وتحقيق حلم حزب الشعب الجمهوري بالعودة للحكم وإنهاء حقبة العدالة والتنمية لأكثر من ربع قرن تغير به وجه تركيا.
وفي السنوات الـ 5 الأخيرة، مرت تركيا بالعديد من الكوارث الطبيعية التي تركت آثارها على الناخبين مثل السيول الجارفة في مدن البحر الأسود، والحرائق الهائلة التي أكلت الأخضر واليابس في مدن وقرى البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه، إلى جانب عدة زلازل كان أشدها الزلزال المدمر الأخير في 6 شباط 2023 جنوبي تركيا وشمالي سوريا، مخلفاً عشرات آلاف الضحايا ودماراً هائلاً وكلفة اقتصادية ضخمة للغاية.
كل تلك الكوارث رافقها وباء فيروس كورونا المستجد والغزو الروسي لأوكرانيا والأزمات الاقتصادية العالمية واستغلال أزمة اللاجئين السوريين ونشاط الهجرة غير الشرعية بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، ما جعل المهمة على الحكومة التركية أشد صعوبة ووضعها أمام تحديات كبيرة، ومع ذلك عملت على تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية وبلدية في موعدها محافظة على العملية الديمقراطية نازلة عند خيارات الشعب في تصويتها.
