في نهاية العام 2010، حين هبت من تونس بوادر الربيع العربي، لتنتقل سريعا إلى دول أخرى ومنها سوريا، استبشرت الجماهير العربية الغفيرة بقرب كنس عصر الاستبداد من منطقتنا العربية، والانتقال إلى أوطان جديدة، يكون لتلك الجماهير رأي ودور في تشكيلها وحكمها ونصيب من ثروتها، وهي الأشياء التي ظلت طوال عقود ما بعد الاستقلال، حكرا على الأقلية الحاكمة في الداخل، والمحكومة من الخارج.
ومع النجاح في إزاحة رأس الحكم، بسلاسة نسبية في تونس ومصر، بدا وكأن التخلص من الأنظمة الفاسدة مسألة وقت ليس إلا، غير أن بقية الأنظمة المتجذرة في السلطة، أدركت سريعا الدروس المستخلصة، فشنت هجوما مضادا على ثورات الربيع العربي، تمكنت خلاله بمساندة ضمنية من الغرب والولايات المتحدة، وبطبيعة الحال إسرائيل التي تحرك الأخيرة، من إعادة الأنظمة المهزومة في تونس ومصر بحلة جديدة أشد وطأة من السابق، وعملت على تحويل الثورات في بقية الدول إلى وبال على أهلها، لتتحول إلى حروب أهلية لا تبقي ولا تذر، لا غالب فيها ولا مغلوب، والخاسر فيها الوطن الذي جرى تدميره بأيدي أبنائه بدعم من قوى خارجية تبدو مختلفة في توجهاتها، لكنها تلاقت في النتيجة عند هدف واحد، دوام الاحتراب الداخلي إلى ما لا نهاية، كما حصل في سوريا واليمن وليبيا والسودان.
أما بالنسبة للأنظمة العربية، فأرادت أن تجعل من مصير هذه البلدان عبرة لشعوبها، كي لا تتجرأ على الثورة عليها
وبطبيعة الحال، الهدف بالنسبة للقوى الخارجية، أي التي تعمل بوحي من مصالح إسرائيل، هو تدمير تلك البلدان وإشغالها بنفسها، وصرفها عن إسرائيل. أما بالنسبة للأنظمة العربية، فأرادت أن تجعل من مصير هذه البلدان عبرة لشعوبها، كي لا تتجرأ على الثورة عليها، من منطلق أن الحاكم السيئ، خير من حالة الدمار والفوضى والقتل والتشرد والذل، على نحو ما حصل في البلدان التي شهدت ثورات ضد حكامها.
ومع اندلاع الحرب في غزة قبل أشهر، كان الوهم السائد أن أي معركة ضد إسرائيل لا بد أن تهيج الجماهير العربية، وتدفعها لمساندة الطرف الذي يقاتل إسرائيل، وهو ما لم يحصل، ولو بالحد الأدنى، بل إن المظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها بلدان غير عربية، وحكوماتها مناصرة لإسرائيل، للتضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة، أكثر عددا وأكبر حجما من تلك التي حصلت على استحياء في مجمل الدول العربية، باستثناء اليمن، الذي لا يخفى أن المظاهرات هناك تتناغم مع الموقف السياسي للحكم الحوثي.
لا شك أن إحباطات الربيع العربي، ألقت بظلالها على المزاج الشعبي العربي الذي لمس بحسه العفوي أن حكوماته لا تكترث بما يجري في غزة، وأن أي تحرك شعبي غير منضبط باتجاه مناصرتها، سوف يتم التعامل معه، كتحرك ضد النظام الحاكم، بل إن بعض الأنظمة عمدت بالفعل إلى اعتقال بعض الشبان والناشطين ممن حاولوا في الأسابيع الأولى للحرب، تجاوز حدود التعاطف الإعلامي الرمزي، باتجاه تنظيم مظاهرات حاشدة، قد تضغط على تلك الأنظمة لاتخاذ مواقف أكثر قوة حيال ما يجري.
ومن هنا، فإن النظام في مصر مثلا، لا يجد حرجا في المساهمة الفعلية في حصار غزة، وإشاحة وجهه عن مشاهد مئات آلاف المتضورين جوعا خلف سور معبر رفح، بينما تتكدس آلاف الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية، أمام المعبر، بحجة أنه لا يستطيع المجازفة بالسماح بدخول الشاحنات خشية أن تقصفها إسرائيل.
لقد كان مشهدا لافتا أن يقوم طيار أميركي بإحراق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن احتجاجا على دعم حكومة بلاده للعصبة الحاكمة في إسرائيل، بينما لم تخرج مظاهرة واحدة ذات وزن في مصر، الدولة العربية الكبيرة المتاخمة لغزة، لتطالب برفض الإملاءات الإسرائيلية، وإدخال الطعام للجياع في غزة، خاصة أن المعبر مصري- فلسطيني، ويفترض أن ألا يكون لإسرائيل رأي فيما يدخل أو يخرج منه، بغض النظر عن المماحكات حول الالتزامات بموجب اتفاقية المعابر الموقعة عام 2005 لتنظيم الحركة على المعبر، والتي انهارت عمليا مع انسحاب الاتحاد الأوروبي منها عام 2007، بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة.
ما يستعصي على الفهم هو هذه السلبية المريعة على الصعيد الشعبي، خاصة أننا بصدد قضية يفترض أن عليها إجماع سياسي وشعبي
قد يكون مفهوما تخاذل الأنظمة العربية عن نصرة غزة، بسبب ارتهان معظمها للإرادة الأميركية- الإسرائيلية، واعتقادها أن صمام الأمان لدوام حكمها هو في مجاراة هذه الإرادة، لكن ما يستعصي على الفهم هو هذه السلبية المريعة على الصعيد الشعبي، خاصة أننا بصدد قضية يفترض أن عليها إجماع سياسي وشعبي ولطالما سكنت الوجدان العربي طوال العقود الماضية، ولا يمكن تفسير هذه السلبية بمعزل عن حالة الهزيمة لتلك الشعوب أمام طغيان أنظمتها، المتأرنبة حيال الخارج، والمستأسدة على شعبها فقط.