بينما تعيش المنطقة أجواء الحرب التي تشنها إسرائيل في غزة ولبنان وعموم المنطقة، في لحظة يرى البعض أنها تاريخية قد تعيد تشكيل "الشرق الأوسط" كما يقول قادة إسرائيل، نجد أن فصائل المعارضة في سوريا، التي عزلت نفسها منذ البداية عن هذه التطورات حتى على الصعيد السياسي والإعلامي، تسرب عبر معرفاتها والناشطين المقربين منها أنها تحضر لشن معركة كبيرة ضد قوات النظام السوري والميليشيات التي تقاتل إلى جانبه، في شمالي البلاد، في خطوة لا تبدو محسوبة جيدًا، وقد يكون لها عواقب وخيمة على قاطني الشمال السوري، خاصة النازحين والمهجرين عدة مرات.
ويبدو أنه يسود اعتقاد لدى "هيئة تحرير الشام" وبعض الفصائل الأخرى القريبة منها، أن الأوضاع في الشمال أمام فرصة لتغيير التوازنات بعد سحب حزب الله لجزء من عناصره من سوريا، وأن الميليشيات المدعومة من إيران التي حضرت لسد الفراغ غير مؤهلة قتاليًا.
إذا لم تكن هناك جهة خارجية داعمة، فسوف تنتهي هذه المعركة على الأرجح لصالح قوات النظام التي لديها مخزونات كبيرة من الذخيرة.
كما تعتقد هذه الفصائل أن النظام في دمشق سيكون منشغلًا على جبهة الجنوب تحسبًا لخرق إسرائيلي محتمل من الجولان باتجاه البقاع الغربي لقطع طرق إمداد حزب الله، إضافة إلى توقع انشغال القوات الروسية بمراقبة الأوضاع في جنوبي سوريا.
والواقع أن هذا التقدير ينطوي على خطأ فادح، فتوازن القوى لا يزال لصالح النظام عسكريًا، كما أن الجانب التركي الذي يمثل قوة وازنة عبر ما يقدمه من غطاء عسكري وسياسي، لن يكون فاعلاً على الأرجح، وربما ينتهز الفرصة للتخلص من بعض القوى المعارضة لخيار التطبيع مع النظام، الذي بات أولوية استراتيجية لتركيا.
وتشير تقديرات عسكرية إلى أن كل الذخيرة الموجودة في الشمال السوري بالكاد تكفي لخوض معركة كبيرة على جبهات عدة لمدة شهر واحد، وإذا لم تكن هناك جهة خارجية داعمة، فسوف تنتهي هذه المعركة على الأرجح لصالح قوات النظام التي لديها مخزونات كبيرة من الذخيرة، فضلًا عن استنادها إلى إمدادات حليفيها الإيراني والروسي، خاصة أن مثل هذه المعركة لا تحتاج بالنسبة للنظام إلى أسلحة نوعية يصعب تأمينها، فضلًا عن أن إسرائيل وأميركا لن تعترضا أي شحنات أسلحة تتوجه للنظام، ما دامت موجهة لخوض معارك بعيدة عن إسرائيل.
ووفق ما تنشره وسائل إعلام النظام، فإن الأخير مستعد جيدًا لهذه المعركة، وهو يتوعد بأنه لن يوقفها إلا في باب الهوى على الحدود مع تركيا.
أفضل خيار يمكن أن تقدم عليه الفصائل هنا هو العمل الجاد على توحيد مناطقها تحت حكم مدني رشيد.
وفضلًا عن الجانب العسكري المحفوف بالمخاطر، فإن فتح معركة كبيرة من دون حسابات عسكرية وسياسية دقيقة يشكل استهتارًا بحياة أكثر من أربعة ملايين من المدنيين ممن يعيشون في مناطق سيطرة المعارضة بالشمال، ونصفهم من المهجرين والنازحين، الذين لن يجدوا مكانًا ينزحون إليه إلا إلى تركيا التي لن ترحب باستقبالهم بكل تأكيد، وهي التي تبذل كل جهدها للتخلص من اللاجئين الموجودين أصلًا على أراضيها، وأحد أهم دوافع تحركها التطبيعي مع النظام هو إقناعه باستقبال هؤلاء اللاجئين.
ويضاف إلى ما تقدم، أن محاولة الفصائل انتهاز فرصة أجواء الحرب في المنطقة لمهاجمة النظام لا تبدو فكرة صائبة، وسوف تغذي اتهامات ومزاعم النظام للمعارضة بأنها "غير وطنية"، لأنها تهاجم النظام بالتزامن مع القصف الإسرائيلي شبه اليومي للأراضي السورية.
والواقع أن مثل هذه الخطوة ستجعل فصائل المعارضة، من حيث تدري أو لا تدري، في وضع معزول على المستوى الشعبي العربي، وسوف تسرع في خطوات التطبيع معه على المستوى الرسمي، خاصة إذا لم تتمكن من تحريك الأوضاع الميدانية بشكل ملموس، يتعدى احتلال بضع قرى أو مدن صغيرة في مرحلة الاندفاعة الأولى.
وبعد 13 عامًا من الحرب في سوريا، والتجارب المختلفة للمعارك غير المنتجة ضد النظام، التي يدفع ثمنها المدنيون بالدرجة الأولى، من المفترض أنه بات واضحًا أن النظام لا يمكن أن يسقط عسكريًا إلا في دمشق، وحتى لو فقد العديد من المدن والمحافظات خارج العاصمة، كما حصل في سنوات سابقة، فإن ذلك لن يدفعه لتسليم الراية، ما دام ممسكًا بزمام العاصمة التي تعطي من يحكمها الشرعية السياسية كأمر واقع.
ومن المفيد التذكير هنا أن تجارب حكم الفصائل للمناطق التي خرجت عن سيطرة النظام ليست مشجعة، ولن تجعل المدنيين في مناطق النظام، على الرغم من أزماتهم المستفحلة، يتوقون للعيش تحت حكم الفصائل بمختلف مسمياتها، التي عجزت حتى الآن عن تقديم نموذج ناجح للحكم. ولعل أفضل خيار يمكن أن تقدم عليه الفصائل هنا هو العمل الجاد على توحيد مناطقها تحت حكم مدني رشيد، يشكل نموذجًا يحتذى لبقية المناطق التي ستتوق للانضمام إليه، من دون حتى خوض أية معارك عسكرية.