للعدالة عين عمياء لا تميز بين غني وفقير ولا أبيض وملّون، هكذا يوحي التمثال الذي يراه المحامون والمتظلمون لدى دخولهم قاعات المحاكم في كثير من الدول، تمثال لامرأة معصوبة العينين تسمى سيدة العدالة تمسك بيدٍ ميزاناً لتحقيق العدل وبالأخرى سيفاً له دلالة الجزاء والردع.
الأقاويل الشائعة تؤكد أن هذا الرمز، الذي يمثل العدالة في كثير من البلاد، يرجع أصله إلى آلهة العدل عند قدماء المصريين التي كانت امرأة تدعى "معات" أو "ماعت" التي تم نحتها على شكل امرأة رأسها عبارة عن ريش نعام، حيث كانت تحمل رمز الحقيقة وبعضهم يقول إنها تمثل آلهة العدل اليونانية.
في الحالتين وأياً كان أصل سيدة العدل تلك فهي لم تعرف طريقها إلى سوريا على ما يبدو، ذلك أنها ـالعدالةـ كانت مطلبهم الوحيد الذي تمنوه ودفعوا لأجله أثماناً لا تُقدّر لكنهم لم يحصلوا عليه، بل ظلّوا يُقتلون بسيف خذلانه يومياً وبأشكال متعددة.
ليست مجزرة التضامن استثنائية لم تكن الأولى ولا يمكن أن تكون الأخيرة، هناك عدد لا يحصى من الحفر التي صنعها لنا الأب وابنه وحاشيته الأمنية كسوريين، رمَوا بأجسادنا جميعاً فيها وأطلقوا علينا رصاصهم وهم يفترّون عن ابتسامات ساخرة ومنتقمة وكأننا لسنا أبناء جلدة واحدة.
لسخرية المصادفات منذ زمن ليس بعيداً أصدر النظام السوري قانون تجريم التعذيب وكأنه يسخر من العالم علانية ويسخر من آلام السوريين المستمرة، ونصّت موادّه على عقوبات مشددة، لكن لا يمكن لعاقل أن يجد تبريراً منطقياً في أن يصدر مثل هذا القانون عن نظام متهم بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية بحق شعبه، ما جعل هذا السلوك المنفصل عن الواقع هيومن رايتس ووتش تسخر منه وتصفه بأنه كذبة أبريل وأنه مجرّد واجهة لتلميع انتهاكات النظام للحقوق والحريات.
عرّفت المادة الأولى من القانون التعذيبَ بأنه "كلّ عمل أو امتناع عن عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسديًا أو عقليًا.. كما يشمل الأفعال التي تقع من قبل شخص أو جماعة تحقيقا لمآرب شخصية أو مادية أو سياسية أو بقصد الثأر أو الانتقام".
وعلى أن وجود مثل هذا القانون هو أمر أقلّ من طبيعي لأن سوريا منضمّة إلى اتفاقية مناهضة التعذيب وغيرها من ضروب المعاملة أو العقوبة اللا إنسانية التي صدرت بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عام 1984، وذلك منذ عام 2006، وبموجب بنود الاتفاقية يجب على أي دولة تنضم إليها تعديل تشريعاتها بما يتلاءم مع الاتفاقية، إلا أن الحكومة في سوريا قد أرجأت إصداره إلى وقت تنجز فيه ربما أكثر ما يمكن من العمليات الإجرامية، لأنها تحتل مرتبة متقدمة في التعذيب في السجون والمعتقلات الأمر الذي نتج عنه وفيات بالجملة ومقابر جماعية عدا آلاف من المفقودين الذي قضَوا تحت سوط الجلادين من دون أن يثبتوا وفاتهم بشكل رسمي.
منذ زمن ليس بعيداً أصدر النظام السوري قانون تجريم التعذيب وكأنه يسخر من العالم علانية ويسخر من آلام السوريين المستمرة
حالة حمّى تشريعية يعيشها النظام السوري في الفترة الأخيرة فمن تعديلات قانون العقوبات المتعددة والمتعاقبة إلى قانون تجريم التعذيب إلى العفو المزعوم عن جرائم الإرهاب، وكأنه يقول للعالم ما زلت أحكم هذه البلاد وإن كانت خراباً فهي خراب صنعته عن سبق إصرار وترصّد، خراب منظّم صنعته على طريقتي أنا ومن يؤمن بي.
حدث ذلك بالتزامن تقريباً مع تحذير المبعوث الأممي إلى سوريا "جير بيدرسن" بألا تصبح القضية السورية قضية منسية، بسبب نقص الاهتمام العالمي والدولي بالمسألة السورية وصعود قضايا كثيرة إلى صدارة الأخبار في وسائل الإعلام المتنوعة.
في المقابل يموت السوريون من دون ضجيج، إذ لن يحرك العالم ساكناً مثل عادته، الموت أمر عادي ومرتقب بشكل يومي لدينا، لكننا نختلف في إبداعنا لشكل الموت، وفي كل يوم تظهر فيه مجزرة إلى العلن نكتشف أنواعَ موت جديدة لم نجرّبها فنموت مجدداً مع كل شهيد ومع كل ضحية.
الغريب أننا كلّما متنا ابتسمَ لنا القتلة ومارسوا حياتهم بشكل طبيعي وكأن شيئاً لم يكن، إنهم ينامون ويفكرون ويتكاثرون وكأن العالم ملك لهم وكأنهم لم يرتكبوا آثاماً تؤرق مضاجعهم ومن دون أن تظهر صور ضحاياهم في نومهم بين مدة وأخرى، بل ويزيد عدد مؤيديهم ومشجعيهم والمدافعين عنهم وكأنهم أبطال حقيقيون.
ما يقوم به النظام بمساعدة أجهزة أمنه ليس تعذيباً إنه نوع آخر من القهر لم تعرفه البشرية، لأنه لا يقتصر على صرخات المعذبين فحسب، فهم يعلمون حق المعرفة أننا نعيش الألم ذاته في كل مرة يظهر فيها شيء من إجرامهم للعالم، نوع من القهر الذي يجعل صاحبه أخرسَ ليس قادراً على الصراخ والاحتجاج، وربما لم يعد معنيّاً به لأنه فقد ثقته بما يسمى العدالة.
ليست الحكاية جديدة لقد عشنا تلك المجازر برمّتها وبشكل يومي لكن كل تسريب جديد ينكأ جراحنا ويذكرنا أننا ما زلنا عالقين في تلك الحفرة، وأن القضية السورية وإن أصبحت منسية في المحافل الدولية لكنها ستبقى ندبة تؤلم المؤمنين فيها على الدوام ولطخة عار في جبين العالم المنافق؛ لأن العدالة معصوبة العينين لم تكفها القرابين التي قدمتها بلادنا بعد وما زالت تريد المزيد من دون أن تفتح عينيها لتبصر الحقيقة.