العنف السياسي هو أحد أقدم سمات العنف عبر التاريخ الإنساني، وما يتوارث عبر العقول السياسية عبر الزمن أنه لا سلام مع السياسة، بل هناك سلام مؤقت بشعور الهدنة لا أكثر ولا أقل. وما بين حرب وحرب هناك مقتطع من الوقت يلتقط فيه المفجوعون صور أحبائهم، وتحاول النساء إحياء بيوت ينبض فيها بعض الدفء من الحطب.
يخترع العنف السياسي الحروب لأسباب تخدم سرديته ومصالحه وثقل عقل خبثه البارد، إذ تسعى دول عبر أهوال عصابية إلى ترسيخ أحلام عسكرية للتوسع والعبث بالحدود الجغرافية من أجل النفوذ والمال والأوسمة. والمصيبة الأكبر أن يرى البعض أن التشرد والتهجير والتنكيل بالمدنيين والعزّل جزء أساسي وطبيعي من هذه الصراعات. يُختزل مآل العنف السياسي بأنه "حق مشروع" تمارسه جهة سياسية ما بكيفية تراها واجبة لمزاعم محاربة الجيران والأعداء والخصوم.
ينهش في ذاكرتنا شريط الاجتياحات الإسرائيلية للبنان وفلسطين، لسنوات من صور الأشلاء والصراخ والمقابر الجماعية، ما يعيد الصدمة تلقائياً من آلة الدمار الإسرائيلية. لكن الفارق اليوم أن اللبنانيين ليسوا وحدهم، بل النازحون السوريون يتقاسمون المشهد معهم، ويفترشون الأرض تاركين بيوتهم فارين بحياتهم على قارعة الطريق وبعض أشياء لملمت على عجل يتعكزون بها في ضيم بائس، ويتأملون البحر أمامهم، ولعل بعضهم يتذكر أولى سنوات النزوح السوري إلى لبنان فجروح الحرب على السوريين مازالت مفتوحة تتأثر بكل ما حدث بعدها من عطب ولعل بعضهم الآخر يتذكر انفجار ميناء بيروت قبل سنوات قليلة والضحايا الكثيرة.
السوريون لا يملكون ملاذاً أمام وحشية المشهد العام وقسوته، فلا هم بعائدين خشية حمل السلاح في خدمة عسكرية لا تؤمّن لهم أقل مقومات الكرامة الإنسانية، أو لأنهم مطلوبون لأفرع الأمن، ولا هم قادرون على مغادرة لبنان وسط حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، حيث لا ثمن للمراكب ولا إمكانات مادية تأخذهم إلى مكان آمن.
تتحول الحياة بشكل مخيف إلى ضرب من ضروب الدهاليز التي تسكنها العفاريت وترقص عليها الشياطين، ما بين الخطاب العنصري اللبناني الذي لا يتعظ من الواقع، وما بين الملاحقات الأمنية السورية، وما بين الضربات العسكرية الإسرائيلية. فالسوريون لا بواكي لهم، وأحلامهم في الاستقرار تذهب أدراج الرياح.
القلق من القادم
الشتات يتسع يوماً بعد يوم، والاحتياجات الإنسانية تتزايد، وكذلك الحاجات الإغاثية العاجلة مع أول هطول للأمطار وبدء صقيع الشتاء. ستتضاعف أحجام المخيمات في ظل التزايد في موجة النزوح واشتداد القصف الإسرائيلي. فكل الأماكن غير آمنة من الحدود السورية اللبنانية إلى قلب العاصمة. وفي هذا السياق، تصبح فرق الاستجابة الإنسانية معرضة للخطر وللقصف وسط الهمجية التي لا تفرق بين مدني وعامل إغاثة، والإعلام العربي والعالمي خير شاهد، يوثق، وما رأيناه في الآونة الأخيرة منذ 7 أكتوبر الماضي في غزة ما ينذر بشؤم على المنطقة.
ليس الطقس الشتوي هو وحده ما يقلق، بل المناخ السياسي العام المشحون بمشاريع ديمغرافية قادمة إلى المنطقة. إذ يجعل كل محاولات للحلول تتشظى في اللاحتمية واللامخرج، إلا الذي تفرضه الأصوات الممزوجة بالنار والبارود في حناجر من لا يرغب ما يرغبه صاحب آلة الموت! مخيفة تلك الحقبة من الحياة عموماً، إذ تعيد تشكيل العقل العربي والجمعي بتقديم نماذج تشوه التصور الذهني عن قيم الحرب والسلام والقوى المتحكمة.
القلق من القادم هو عنوان المرحلة الحالية. لأن ما يحدث بشكل ممنهج في دول المنطقة من استهداف للمدن والقرى باستخدام القوة العسكرية المفرطة، وتصفية الملفات بين الأطراف المتصارعة،ما يجعلنا نركز بشكل أساسي على مصير الشعوب ومستقبلهم. فكل يوم يتفاقم الوضع الإنساني والمعيشي للفئات الهشة. ستتحول الحياة إلى ضروب من العوز والبدائية والاستغلال بأبشع إمكانيات التوحش على الأرض.
ماذا لو كانت الخطط التوسعية الإسرائيلية الاستيطانية قاب قوسين أو أدنى من التحقق على أرض الواقع، بعد هذا العنف المتوالي لتفريغ المساحات العمرانية، كما نراه كل يوم في غزة والجنوب اللبناني؟
يدفعنا كل هذا الجلل اليوم إلى تلاقي ثلة من الحكماء الاستثنائيين لتشكيل مجموعة عمل مناصرة مشتركة للمنطقة تفتح مساراً دبلوماسياً تفاوضياً وتدعو لوقف التداعيات العنفية والعسكرية. ليُتاح بعد ذلك للفواعل الإنسانية فتح ملف "إعادة الإعمار" ليشمل سوريا وفلسطين ولبنان، حيث تستعاد شروط الحياة الآمنة لمن بقي حياً من هذا الصراع الدموي.
الملف معقد بالتأكيد ويبدي استحالة في محطات ما بسبب تداخل الأطراف المتصارعة في المنطقة، وبحجم التحديات التي جلبتها هذه القوى من صراعات مذهبية وطائفية. من فواعل سياسية رسمية ومن فواعل ما دون الدولة لها تمظهرات مليشياوية، يضاف لتلك السياقات في هذه الدول الثلاث مشروع إيراني ومشروع إسرائيلي، نظام مستبد يقتل شعبه ولا يؤجل أي فرصة لتكون سابقة في المزيد من عذاباتهم.
لكن التفكير بمبادرة عقلانية انطلاقاً من المسارات المغلقة لمحاولة فتح أفق محتملة لإنقاذ ما بقي أمر يستحق المحاولة بجدية كبيرة. لأن السؤال الذي يؤلم حقاً: كم ستبلغ فاتورة إعادة الإعمار إذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن لجبهة مفتوحة بلا سقف زمني لوقف إطلاق النار وبلا خطة لحماية المدنيين؟
من جهة أخرى، ماذا لو كانت الخطط التوسعية الإسرائيلية الاستيطانية قاب قوسين أو أدنى من التحقق على أرض الواقع، بعد هذا العنف المتوالي لتفريغ المساحات العمرانية، كما نراه كل يوم في غزة والجنوب اللبناني؟ في حال خرج هذا السيناريو إلى العلن، هل يمكن تصور المشهد القادم ومآلاته من عمليات "تغيير ديموغرافي" كبرى تطول المنطقة باستبدال سكان الجنوب اللبناني وقطاع غزة بمستوطنين إسرائيليين؟ هل يمكن التفكير في مستقبل مئات الآلاف من البشر حينها؟ ويضاف إلى ذلك سؤال مهم يتعلق بموجات النزوح الجماعي من الطائفة الشيعية إلى الدولة السورية. ألن يتسبب ذلك بتغيير ديموغرافي في بنية المجتمع السوري على المدى المتوسط والبعيد؟ فضلاً عن أن سوريا نفسها مليئة بالأزمات السياسية الخانقة وتحتاج إلى مشاريع إعادة إعمار جدية بعد القصف الممنهج الذي طال المدن والبلدات بفعل الدكتاتورية مرة وبفعل الزلزال المدمر مطلع العام الفائت.
المنظومة السياسية الحالية أصبحت أكبر خطر على كافة المجتمعات الإنسانية ككل.
النكبات الناتجة عن العنف السياسي، فكل حرب تتفجر هي موجة هجرة جديدة تزيد من تعقيد قضايا الهجرة الحالية حول العالم. فمن خلال فترات التوترات الساخنة التي شهدناها في السنوات الأخيرة، تنمو خطابات الكراهية حول وجود اللاجئين والنازحين، وهذا مؤشر خطير. فالعالم يفقد توازن تعايشه المجتمعي، وإمكانية استمرار قبول الآخر نتيجة ظروفه السياسية والدبلوماسية في بلاده ذات السياقات المعقدة. وبدأ الخلل يتسرب إلى الخطابات اليمينية المتطرفة، وتغذيها الأنفاس الشعبوية التي تحمل نوايا معلنة وغير معلنة تمزق بيئات المجتمعات المحلية في العديد من الدول التي تستقبل لاجئين على أراضيها.
طرح الأسئلة الوجودية وتحليل التفاصيل الحية هنا من منظور له بعد أخلاقي وإنساني عميقان، ما يكون نواة لتشكيل حوامل مبادرة فهذا دعوة جادة وغير قابلة لأن تكون ترفاً فكرياً ولا جدلاً فلسفياً على الإطلاق. فالجميع يعلم أن العالم متورط في أكثر من ساحة حرب مستمرة في الآونة الأخيرة، وسط غياب الرادع الدولي وشلل شبه تام للإنصاف الدبلوماسي والسلمي، ما يسبب على الدوام مآزق إنسانية وديموغرافية تدفع لها الدول واحدة تلو الأخرى. وهذا ليس بالمجان، بل له تكاليف اقتصادية كبيرة، إذ يتطلب المزيد من الإنفاق العسكري لشراء الأسلحة والطائرات وتزدهر معها صفقات المخدرات العابرة للقارات. وتتراجع استراتيجيات التنمية مقابل استراتيجيات التدخل العاجل. وهذا بحد ذاته محرك للتفكير في ماهية المبادرة التي عليها أن تنفذ كل ما يمكن إنقاذه اليوم، وتحمل هذه المسؤولية مؤسسات سياسية ومدنية تؤمن بالسلام العادل وتملك الرادع لوقف مثل هذا التعدي السافر على حياة وكرامة الشعوب. فالمنظومة السياسية الحالية أصبحت أكبر خطر على كافة المجتمعات الإنسانية ككل.