في قلب الأحداث الإنسانية وسراديب التفاصيل اللانهائية في هوية الشعوب المعاصرة، يمر بعضهم بقليل من العثرات، أو كثيرها، ويصبح على الإنسان العاقل تقدير مفارق الطرق فالتاريخ مليء بسرديات الحروب الأهلية والنزاعات العنيفة والانقلابات والثورات العارمة.
ومنه، على ضوء تلك المنعطفات التاريخية والسياسية، هل نسأل أنفسنا عن الحاجة المعنوية الماسة للحفاظ على الرواية الحاضرة؟
كلنا تعلمنا من مناهج التاريخ الرسمي المكتوب في محافل الملاك الجامعي والمدرسي لأجل البناء الثقافي والإنساني، وشكّل ذلك جزءاً من المعرفة الجمعية التي تلقيناها في ريعان أبجديات بناء شخصيتنا المعرفية.
لكن بكل ما يحمل التاريخ المكتوب بشكل رسمي يوجد فرع آخر ألا وهو التاريخ غير الرسمي، أو ما يعرف بالتأريخ الشفوي، وهو التوثيق بالوسائل السمعية أو البصرية أو المكتوبة للرواية المهمشة من دون تشويه أو تزييف الحقائق المجتمعية والتاريخية .
وهنا تبدأ الأسئلة بماهية الرواية المهمشة وعلاقة التأريخ الشفوي معها، ولماذا اختار هذا الفرع من التأريخ تلك الجزئية، والذهاب في تفكيكها وإعادة الربط بينها وبين كل القيم المجتمعية والسياسية والثقافية للشعب الذي يغوص فيها .
إن عبقرية التأريخ الشفوي تكمن في مزج قالب التجربة الشخصية للإنسان العادي الذي يعيش ضمن المجتمع المتداخل التجارب، مع ما يحوي ذلك المجتمع من جعبة التقاليد والتابوهات المجتمعية والقيم الحميدة، وبوتقة الأدب والحكايات الشعبية والأغاني البسيطة، واللهجات وتعدد اللغات، وفسيفساء التراث في آثار الأجداد وحاضر الأبناء، والملابس المنقوشة بحب الأمهات، وأذواق الطعام والحرف اليدوية.. تضاف كذلك الأمر الحكايات البكر في استخدام التلفاز والمذياع والاطلاع على العالم من حيث أنت جالس .
الرواية المهمشة هي سمات العدالة الاجتماعية في شقها المعنوي والانتصار للأصوات المنسية التي تتكلم في الظل وتكافح في الظل وتكبر وتموت في ظلال لا أحد يعرف أين شمسها وإشراقها، فهي الحقيقية التي لا يمسها أحد في الأزقة البعيدة والأحياء المترامية في دكاكين التوابل والصابون والعطور..
ولعل ما يحدث الطابع المميز في أروقة العمل في التأريخ الشفوي، هو الحفاظ على نوعية السرديات التي تضم تقاليد الأفراح والأتراح وطقوس الحب والزواج، الموت والولادة، السجن ونميمات الفراق والوداع والسفر، العمل والنجاح، ويضاف عليها امتداد قائمة التابوهات الشرقية .
إنها الرواية التي لم تزوّرها فسحات الإعلام يوماً؛ ففي الحروب تتناثر جذور الناس ويتفرعون مع جذور جديدة من الضياع والبحث عن الذات والخوف على الهوية الإنسانية والوطنية سواء كانوا في وطنهم الأم أو في دول اللجوء والتهجير القسري.
من الثابت بأن التأريخ الشفوي هو حالة متكاملة ومتناغمة من وصف الثقافة الشعبية والوجدانية للمجتمعات الإنسانية وإدخال التفاصيل الحياتية الشخصية والاجتماعية إلى أرشيف متكامل يحمل سمة الوجود لتلك الشعوب المكتوب عنها بكل وجوه الوصف عن مساراتها .
المبادرات الواعية التي تُعنى بالبحث والتوثيق في هذا المجال، تذهب باتجاه القصص التي تخبّئها الشعوب داخل بيوتها، وفي ذكرياتها وعلاقاتها الاجتماعية، وتركز على مسارات تحول حياة أفرادها وخططهم مع متغيرات مصير بلادهم في التحولات التي لا تخلو حقبة زمنية إلا ولها فرضيات سياسية وواقعية ما.
الحالة السياسية السائدة في مناخ البلاد التي يقوم الباحثون فيها بإجراء توثيقات التأريخ الشفوي في جغرافية محددة؛ هي الإيقاع القائد لسيمفونية الحقائق للإنسان
تتوالى السنوات في التقاويم وتقلّب صفحاتها بهدوء، ولكن بعض المجتمعات لا تقلب صفحات الزمن بهدوء، لأن الحالة السياسية كفيلة بتغيير كل الحالات التي تعتري الإنسان مذ كان في رحم أمه إلى أن يدرك وينخرط في منظومة مجتمعه المحيط .
فالحالة السياسية السائدة في مناخ البلاد التي يقوم الباحثون فيها بإجراء توثيقات التأريخ الشفوي في جغرافية محددة، هي الإيقاع القائد لسيمفونية الحقائق للإنسان وإعادة التشكيل الفكري الذي كان عليه فيما بعد.
والحالة السياسة الديمقراطية تنتج توثيقاً غنياً في صدق الحالة للرواية، أو لربما تقص أشد الألم والقهر في ثنايا الأحياء البعيدة، وتتقبل تذمر النساء والأقليات والمنسيين. فمن الجيد بمكان أن نذكر المصداقية الأعلى للإنسان إذ يكون مطمئناً بأن لا رقابة على صوته وحريته في التعبير .
وعلى العكس في الحالة الديكتاتورية، حيث التسطيح المستسهل لعمق المشكلات، فالجميع يخيفه البوح ويخشى الإعلان عن الحقائق المجتمعية ومشكلاتها .
فالكل تبعاً لحالة سياسية تخلق أعرافاً مجتمعية جديدة ترتبط بالثقافة الشعبية، فتظهر وضوحها في ملامح القصص والمحفوظات التوثيقية التي تسلك الطرق لتحول هذه القصص إلى أعمال أدبية ومسرحية تعبر عن هموم عامة الناس عندما تكون الحاجة إلى إعادة التمسك بما هو حقيقي نابع من أفواه الشعب .
ولا يفوتنا أن نشير إلى تجارب التوثيق في التأريخ الشفوي إلى النشاط الفلسطيني في توثيق الحياة الفلسطينية وكفاحها السلمي والمسلح أيضاً، وتحويل كل ما هو شخصي إلى تفصيل سياسي، وكل تفصيل إنساني لديهم وضِع في مواجهة الكيان الصهيوني، فحرب الهوية والتهويد لا تقل خطراً عن حرب القنابل والقتل، وأحقية الرواية الفلسطينية المحكية بألسن فلسطينية نقية حية في نفوس البشرية، من رمزية المفتاح الفلسطيني إلى الوشاح الأبيض والأسود المسدل على الأكتاف، فالحياة لديهم هي تماماً كما تلك الألوان؛ إما أن تبقى أو تزول.
والتجربة التركية لها وقعها ذلك الأمر بعد زوال الإمبراطورية العثمانية وخوض تركيا سنوات طويلة لإعلان الجمهورية التركية في عام 1923 التي وثقت القصص الاجتماعية عن عدد حالات الأطفال الذين ذهبوا بمفردهم إلى دائرة النفوس لإعلان وفاة والديهم في سنوات الحروب القاسية، وتوثيق أرشيف لغاية تخليد الذكرى للجنود الأتراك والعرب وغيرهم من القوميات المشاركة في سنوات الحرب، وتخصيص أجزاء من الأماكن العامة في جميع المدن التركية لأجل أن يبقى ذكرهم حياً في نفوس الشعب، كتعبير عن رمزية جبر الضرر لذوي الشهداء .
وبالطبع لن يغفل عن أذهاننا قضيتنا السورية طرفة عين، وعن كيفية تعاطي التأريخ الشفوي معها. فالجدل لا حد له منذ عام 2011 إلى يومنا هذا، والروايات ليست مختلفة فحسب بل ومنقسمة على ذاتها، ففي شطر من الأرض السورية من يقول بأننا نواجه "إرهابيين" وشطر آخر يقول نحن في زمن الثورة وثورتنا ضد القمع والظلم والطغيان.
نحن إذاً في الحالة السياسية الأكثر تعقيداً، فهي تفرض شروطها على الوجدان الشعبي وكل ما يدور حوله من ثنائية الروايات من أكبر القضايا إلى أدق التفاصيل. فكل سنوية لحدث ما وجهان لسوريا واحدة، فلا ذكرى سنوية إلى يومنا هذا منذ عقد من الزمن تجمع ذاكرة السوريين والسوريات على دقة ساعة واحدة للألم أو الفرح أو الاحتفال بنصر واحد.
لعلي أعيد ذكر ما قلته بإن الحالة السياسية هي الإيقاع القائد لسيمفونية الحقائق للإنسان وإعادة التشكيل الفكري، فما العمل اليوم؟ وما شكل المبادرات الوطنية التي هي أقرب ما تكون إلى الانقسام؟
وفي أي زمن نخرج من عنق معضلة الحالة السياسية إلى يوم تخليد ذكرى الشهداء على كامل التراب السوري وأرشفة صفحات أسمائهم في ألواح العهد والوفاء؟
متى ينصف التاريخ الرسمي الرواية غير الرسمية لعامة الشعب ، فيعطي الحقوق وترجع العافية إلى الحياة المدنية في سوريا؟
ويحق للرواية المنسية ما لا يحق لغيرها، فهي بصمة الشعوب للكفاح والبقاء واللانسيان مهما امتد الزمان والآوان.