شخصياً، كنتُ باستثناء الحالات الإجبارية أو بعض المصادفات، أبتعد عن أي احتكاك مع السجانين إن كان في الفروع أو في سجن صيدنايا. كان هذا في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات خلال حكم حافظ الأسد.
في تلك التجربة تولدت لديَّ قناعة منذ الساعات الأولى لاعتقالي أن السجان الصغير يمثل ديكتاتور سوريا، وهو بصفته تلك إنما يمثل الطرف المعادي لي بصفتي (مواطنا) أولاً وسجينا ثانياً. ستزداد قناعتي تلك رسوخاً خلال الأيام التالية.
أحسست منذ الدقائق الأولى أنني أدخل عالماً معادياً بالمطلق، وهذا ما لا نعيشه، بكل تلك السوداوية، في الحياة خارج الأسر. أعتقد أنني كنت محقاً بدرجة معقولة، رغم أن المصادفات التي عاينتها من خلال تجارب الأصدقاء، قدمت نماذج مغايرة تماماً من السجانين، الذين دفع بعضهم أثمانا باهظة نتيجة تعاطفهم مع السجناء، وتقديم الخدمات السرية لهم، أو لعائلاتهم.
كانت كل فتحات جسمي تنزّ دماً، أنفي ينزف، أسناني مخلخلة ودمٌ يسيل من فمي بين لحظة وأخرى. ساقاي، وخصوصاً القدمين، لا تنتميان لباقي أعضاء جسمي، بحكم الألم وانعدام التناسب في الحجم واللون على الأقل.
كنت داخل الزنزانة في فرع الأمن العسكري بحمص، حين اضطررت للاحتكاك مع أحدهم. حدث ذلك في اليوم الثاني من التحقيق. كنت محطماً بعد جولات من التعذيب جعلت مني كائناً نازفاً (إن كان يمكن تعريف الإنسان بصفة كهذه ). كانت كل فتحات جسمي تنزّ دماً، أنفي ينزف، أسناني مخلخلة ودمٌ يسيل من فمي بين لحظة وأخرى. ساقاي، وخصوصاً القدمين، لا تنتميان لباقي أعضاء جسمي، بحكم الألم وانعدام التناسب في الحجم واللون على الأقل.
لا أدري في أية ساعة من الليل استيقظت بجفاف استثنائي في الحلق، وشعور بالعطش لم أعرف مثله في حياتي. مع التردد والتفكير بالعواقب الممكنة، لم أستطع إلا أن أغامر وأطرق باب الزنزانة. بعد رفضٍ وبضع شتائم سوقيّة من السجان، انتهى الأمر ونمت (ربما لم أفعل) منتظراً الماء في الصباح. اليوم وأنا أستعيد تلك اللحظات، يخطر في بالي سؤال افتراضي: ماذا لو حدث هذا الأمر معي، أو مع أي شخص آخر، بعد عام 2011؟ أتخيل السيناريو بدون صعوبة، سيخرجني ذاك السجان الذي نسيت اسمه من الزنزانة، ويقتلني في أحد الممرات. كما فعلوها مع آلاف السجناء. سجّاني في عهد الأسد الأب، لم يفعل ذلك. ليس لأنه أكثر رأفة وحنوّاً على المعتقلين، بل لأنه لا يمتلك أوامر بالقتل العشوائي، والإباديّ كما حدث مع معتقلي سجاني الابن.
وصلتُ إلى فرع فلسطين بقدمين متعفنتين دون تقديم أي نوع من العلاج. مساءً، أمر طبيبٌ ما بضرورة تطهير وتضميد قدماي. بعدها، كان علي كل عدة أيام أن أخرج إلى غرفة السجانين، ليقوم الممرض بتغيير الضمادات. في واحدة من المرات، بينما كان يضحك، سألني أحمد خليل رئيس النوبة، سيصبح بعد سنوات مديراً للسجن، سؤالاً احتاج مني وقتاً كي أفهم مغزاه: "إنتْ جحش ولَّا خنزير؟" لم أجب طبعاً. لكن أحد السجانين تبرّع بالإجابة: "خنزير".
بعدها، بمساعدة الأصدقاء، سأفهم معنى السؤال. ببساطة، كان الرقيب يسألني إن كنت علوياً أم سنّياً! فإما أنني علوي لكنني جحش حتى كنت ضد الأسد، أو أنني خنزير سنّي، حينذاك سيكون الأمر مفهوماً بطبيعة الحال. للمفارقة، عندما عدت بعد ثماني سنوات إلى فرع فلسطين استقبلني أحمد خليل بالعناق! مرة أخرى أتخيل، ماذا لو كان هذا السؤال جاء بعد عام 2011؟ ليس من العسير عليكم تخمين السيناريو الذي سيلي الإجابة.
في الشهور الأولى لوجودنا في سجن صيدنايا عام 1988. وكنّا معاقبين في مكان مغلق يسمّى "الباب الأسود". جناح صغير مُقتطَع، يتكون من أربعة مهاجع فقط. تصادف أنني كنت أتمشى قرب باب الجناح، عندما فُتح وأطلَّ منه رقيب جديد في الخدمة، لم أكن قد رأيته من قبل. سأعرف فيما بعد أنه مجند إجباري اسمه آصف. طلب مني أن أدخل وعاء الطعام: "تعال دخِّل الأكل ولاااا" قال لي. لا أعرف كيف ساءني تعبير "ولااا" في تلك اللحظة، مع أنني كنت قد سمعتُ، خلال التحقيق، من الشتائم والإهانات ما يصعب حصره.
بدون تردد أجبته: "لِمَ ستخجل؟ أنا سجين سياسي ولست لصاً..
خرجت وقبل أن أحمل الوعاء، اقتربت منه، وبصوت خفيض قرب أذنه قلت له: "الأشخاص هنا، قبل شهور كانت الناس تنادي لهم أستاذ ودكتور، بلاها كلمة ولااا". نظر إليّ باستغراب ودهشة. يبدو أن الشاب لم يكن يتوقع من سجين أن يوجّه له تلك الملاحظة، فأجاب بارتباك "فوت. فوت هلق بعدين بفرجيك". طبعاً توقعتُ أن العقوبة قادمة على الطريق، ويمكن أن تكون حفلة تعذيب في الدولاب، أو نزول إلى المنفردة، مترافقة مع جولات التعذيب المألوفة.
مساءً، جاء الرقيب الجديد لأخذ التفقد فلمحني في المهجع وعلّق "أنت هون؟" أي أنه عرف مهجعي. مر يوم وآخر ولم يحدث أي شيء. بعد شهور سيخبرني صديق كان قد بنى علاقة طيبة معه، أن آصف حدّثهُ بوصية أمّه عندما علمت بفرزه إلى سجن صيدنايا " الله يرضى عليك يا ابني، لا تؤذي السجناء، فهم ضعفاء". آصف، الذي التزم بوصية أمه، أمضى كامل خدمته، ولم أعرف أنه قد آذى ولو بكلمة أي سجين. بعد عام 2011، بتلك الأخلاق، آصف كان ليقتَل أو يسجن أو ينقل إلى مكان آخر على الأقل.
بعد انتهاء حكم محكمة أمن الدولة، كان يجب أن ينقلوني مع رفيق آخر إلى الفرع الذي اعتقلني "فلسطين"، قبل إخلاء السبيل. لكن هناك محطة لليلة واحدة لا بد من المرور عليها قبل الوصول إليه، في فرع التحقيق (الفرع الإداري). عند وصولي هناك، استقبلني مساعد. بعد أن أخذ بياناتي، نظر إلي وسألني بلطف "عندك أولاد؟" أجبته بأن لدي ابنتين. فتابع هل كانت تزورك في السجن؟ أجبت نعم. عاد ليسأل: "أما كانت تخجل أن أباها سجين؟" بدون تردد أجبته: "لِمَ ستخجل؟ أنا سجين سياسي ولست لصاً". تابع النظر إلي بهدوء، وكأننا نخوض حواراً طبيعياً، وعلّق: "بشرفي، بشرفي إنتْ رح ترجع لعنّا. ويومها أنا رح حطّك بالدولاب، وما رح أتركك لو بيشفعلك العميد كمال"، يقصد كمال يوسف رئيس فرع التحقيق.
باستثاء سجّاني تدمر خلال حقبة الأسد الأب، حيث تم ترويض هؤلاء، وتحويلهم لآلات تعذيب وقتل، فإنه كان يُلمَح سجانون لم تلوثهم مهنتهم بالكامل، فتبقى آثار البيت والأسرة والنشأة والتربية عالقة بهم، وهو ما كان يظهر في العلاقة مع السجين في بعض المواقف. أما حين احتاج الابن، وريث أبيه، لتحويل أجهزته لآلات موت وإبادة كاملةَ الصَلَف، فإنه لم يكشف عن وجهه الحقيقي فقط، وإنما اضطر لرفع الغطاء عن قبر أبيه ووجهه.