عن اللعب في النقطة العمياء

2024.07.15 | 06:18 دمشق

عن اللعب في النقطة العمياء؟
+A
حجم الخط
-A

في ظل انشغال العالم بالانتخابات المصيرية في كل مكان، يسارع الكثير من قادة الدول لاستغلال هذا الوضع لصنع تحالفات وتوسيع نفوذ دولهم، وحماية أمنهم القومي.

ففي فرنسا حقق اليسار مفاجأة للعالم بفوزه، وإبعاد اليمين المتطرف عن الحكم، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من استلام السلطة، وفي بريطانيا خسر حزب المحافظين بعد  14 عاماً من الحكم، وفاز حزب العمال البريطاني، وفي الولايات المتحدة يدور صراع كبير حول هوية الرئيس الأميركي المقبل، وهناك ضغوط على الرئيس بايدن - المتمسك بترشيح نفسه للانتخابات - من قبل قادة ديمقراطيين، لحثه على سحب ترشيحه، والبحث عن مرشح أفضل منه، بعد الأداء السلبي الذي ظهر فيه أمام ترامب، والمشاكل الظاهرة التي تشي بمشكلة في ذاكرته، وتعلن سؤالا جوهريا، هل هو مؤهل للحكم أم لا؟، وهناك أيضا الألعاب الأولمبية التي ستستضيفها فرنسا بعد أقل من أسبوعين تقريبا.

في ظل كل ذلك، يحاول البعض في شرقنا الأوسط المثخن بالجراح والآلام، التحسين من فرصهم في معادلات الصراع العالمية، وتحقيق زيادة في النفوذ، وتمدد هنا أو هناك.

نقطة عمياء

النقطة العمياء (بالإنجليزية: blind spot)‏ هي جزء بسيط جدا من شبكية العين، لا يحتوي خلايا مستقبلات بصرية، وبالتالي لا يعكس هذا الجزء الصورة التي تقع عليه، لكننا لا نشعر بذلك، لأن الدماغ يقوم بتحليل الصور المحيطة، وتعبئة الفراغ من تلقاء نفسه.

من هنا استخدم هذا المصطلح الطبي في عدة مجالات، كقيادة السيارة، والعلوم السياسية، وخلافه، ويشار فيه إلى حجب في مجال الرؤية.

يمكن أن نستذكر من التاريخ بعضًا من الأحداث التي كانت تشغل العالم، واستخدمها قادة دول من أجل القيام بأعمال توسعية أو تحالفات، مستغلين انشغال العالم بهذه الأحداث.

فحين كانت ألمانيا في عز تحضيراتها للألعاب الأولمبية الصيفية عام 1914، حصلت حادثة اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانتس فرديناند، والتي كانت شرارة اندلاع الحرب العالمية الأولى.

وفي عام 1939، وبينما كان العالم منشغلا بالحرب العالمية الثانية التي كان قد مر على اندلاعها ثلاثة أشهر، غزا الاتحاد السوفيتي فنلندا، بسبب خوف ستالين من التقارب الفنلندي النازي، واحتمال استخدام هتلر للأراضي الفنلندية.

تغيير المعادلات

ففي إيران، وبعد الجرائم التي نفذتها بحق شعوب المنطقة، برعاية وغض نظر عالمي، بقيادة أوباما وخليفته بايدن، تتعرض حاليا لضغوط بعد قرار الحكومة الصهيونية المتطرفة إبادة شعب غزة، ردا على عملية 7 أكتوبر، وإعادة هندسة التواجد الإيراني حول إسرائيل، بما يحقق حماية أمنها القومي ودورها في المنطقة.

انفتاح شهية الحرب والقتل لدى اليمين الصهيوني، دفعه للقول بأن حدوده الشمالية غير آمنة، وعليه أن يسعى لضمان أمن المستوطنات الشمالية، كي لا يتكرر سيناريو 7 أكتوبر ثاني من الشمال، لهذا فعلى حزب الله أن ينسحب إلى ما وراء نهر الليطاني وأن يوقف "حرب المساندة" التي يقوم بها لمساعدة حماس في غزة، دون أن يكون لها أي تأثير حقيقي على مجريات العمليات المجرمة بحق أهلنا في غزة، بل تسببت هذه العمليات في تصفية ما يفوق 360 عنصرا من مقاتلي حزب الله على امتداد الجغرافيا السورية اللبنانية، وكان آخرهم ثلاثة من أهم قيادات حزب الله العسكرية، بالإضافة طبعا لتدمير هائل في البنية التحتية المدنية بجنوبي لبنان، وتشريد الآلاف من بيوتهم وعيشهم نازحين ضمن بلدهم عبئ على الدولة المجتمع، فبينما يعيش الإسرائيلي النازح من بيوته في الشمال بفنادق مدعوم ومتابع من حكومته، يعيش اللبناني النازح من الجنوب في مآوي مؤقتة، وهناك تسريبات بأن عدد منهم نقله حزب الله ليعيش في بيوت السوريين، والتي قَتَلَ أصحابها، وهَجرَهم في طريقه إلى القدس، عبر القصير وحلب، وغيرها من المدن التي تشارك في دمارها مع بشار الأسد وبقية العصابة.

وبينما كانت الحكومة الصهيونية المتطرفة مستعجلة على بدء حرب كبيرة في الشمال، عادت التسريبات لتقول إنها ستستمر في عملياتها التي تقوم بها حاليا، لفترة بانتظار قدوم ترامب - كما هو متوقع – إلى الرئاسة، وهذا يعني استمرار الاستنزاف الكبير لحزب الله، دون أن يقابله رد رادع من الحزب يوقف هذا الاستنزاف، فلقد خسر الحزب حتى الآن ثلاثة من أهم قيادات الحزب العسكرية، وهم قائد وحدة الرضوان وسام الطويل، وقائد وحدة عزيز أبو نعمة ناصر، وقائد وحدة نصر سامي عبد الله "أبو طالب"، بالإضافة إلى عدد كبير من قادة الصف الثاني، ومقاتلين، وخبرات عسكرية في الصناعات العسكرية المختلفة، وفي قطاع الدعم اللوجستي ونقل الأسلحة، خبرات تم مراكمتها عبر سنوات طويلة وحروب عديدة، ومن الصعب تعويضها.

بنفس الوقت الذي تستهدف فيه إسرائيل قيادات حزب الله وحماس وكوادرهم، عملت أيضا على استهداف ضباط الحرس الثوري الإيراني بسوريا، وكان آخرها اغتيال سعيد آبيار القيادي في الحرس الثوري الإيراني في حلب، واستهداف إمدادات السلاح الإيراني القادم إلى مليشياتها في سوريا ولبنان.

في السياق ذاته، انتقلت تركيا للعمل على تشكيل "ممر أمني" بعمق 30 إلى 40 كيلومتراً على طول الحدود مع العراق وسوريا، وتطهير المنطقة من "الإرهابيين"، حسب تصريحات وزير الدفاع التركي أثناء حضوره قمة الناتو، وتقدمت قواته في شمالي العراق في ظل صمت حكومة العراق المركزية، والذي فسر كموافقة ضمنية على العمليات.

وتسعى تركيا - حسب تقرير لمنظمة أميركية نشرته صحيفة العرب اللندنية - إلى رسم خط أمني يبدأ من منطقة شيلادزى ويمتد إلى قضاء "باتيفا"، ويكون كل ما خلف هذا الخط تحت سيطرة الجيش التركي وساحات قتال، ويسعى الجيش التركي – حسب تقرير المنظمة الأميركية - إلى احتلال سلسلة جبال گارا، مما يتسبب بفقدان حكومة إقليم كردستان العراق لعزل ما يقارب من 70 – 75 % من محافظة دهوك، ويحاصر قوات قسد من الشرق ليغلق الحدود العراقية عليها.

وعلى المقلب الآخر، تحاول حكومة أردوغان التفاهم مع الأسد، لإرضاء حلفائه الإيرانيين والروس، لتحقيق أي مكاسب خارجية تغطي على الفشل الاقتصادي لحكومته، وتراجع تأييد الناخبين له، خصوصا على جبهة قسد، وحزب العمال الكردستاني.

تغيير محدود

محاولات جادة لاستغلال النقطة العمياء لتغيير الخرائط، وإنشاء واقع جديد في الشرق الأوسط، لكنها ستبقى في إطار المحاولات، إذ أن كمية المصالح والتعقيدات التي تحتويها هذه الجغرافيا، لن تسمح بهذا الأمر بهذه البساطة، بل ستقاومها بشدة.

في شمالي سوريا، حيث المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، والنفوذ التركي الكبير، اصطدمت محاولات التقارب التركي مع الأسد بمظاهرات كبيرة رافضة من قبل سكان المنطقة، وصلت إلى قيام البعض بإحراق العلم التركي، وإنزاله من على المقار الحكومية والمعابر، واشتباكات وهجوم على نقاط عسكرية تركية.

وقبلها بأيام اصطدمت محاولات تركيا فتح معبر شرعي مباشر مع النظام، بمصالح أمراء الحرب، فأرسلوا عناصر وأغلقوا المعبر، دون الإعلان عن علاقة مباشرة بينهم وبين من قام بهذا الفعل.

وفي العراق، لم ينفع تركيا صمت الحكومة المركزية في بغداد على عمليات التوغل لإضفاء الشرعية عليها، فقط علت الأصوات، وحصل غضب سياسي وشعبي، اضطر السوداني بعده لإرسال وفد برئاسة مستشار الأمن القومي، إلى إقليم كردستان "للخروج بموقف موحد من هذا الموضوع، الذي يمسّ السيادة العراقية" حسب الناطق باسم الجيش العراقي الذي ندد في بيان صحفي بهذه التوغلات. 

وخرجت عدة تصريحات من سياسيين عراقيين، منددين بالعمل العسكري البري التركي، منها تصريح رئيس برلمان العراق بالإنابة، محسن المندلاوي الذي دعا تركيا إلى "احترام كامل السيادة، ومبادئ حسن الجوار بين البلدين الجارين".

إن محاولات استغلال النقطة العمياء لتحقيق مصالح تكتيكية على حساب المصالح الاستراتيجية لن تنجح، فحسابات صناديق الانتخابات لا يجوز أن تصرف من دون حساب.