يبدو أنه قد طفح الكيل، هذا ما نفهمه من خطاب الرئيس أردوغان الأخير وتصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان وزعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي مؤخرا، وتتالي هذه التصريحات ليست بصدفة، بل تعبر عن مخططات تركية جديدة بالنسبة إلى سوريا ولا سيما بعد محاولة إنشاء ممر تصفه أنقرة بالممر الإرهابي الذي يربط شمالي سوريا بشمالي العراق بهدف محاصرة تركيا من حدودها الجنوبية وتطبيق الأجندة الأميركية ضد تركيا عبر قوات قسد وحزب العمال الكردستاني بحجة محاربة داعش.
التمسك بالمسار السياسي
سياسة تركيا الجديدة تتسم بخفض التصعيد، وتطبيق سياسية صفر مشكلات ولكن لتطبيق هذه السياسة يتطلب من جميع الأطراف أن ينتهجوا هذه السياسة، وليس فقط الجانب التركي، وإلا لن نستطيع التقدم بالمسار السياسي، وهذا ما تحاول أنقرة منذ سنوات إقناعه للأطراف المتنازعة في سوريا، ونجحت الجهود التركية خلال السنوات الماضية بعقد بعض الاتفاقات كاتفاق وقف إطلاق النار في إدلب بين الرئيس التركي أردوغان والرئيس الروسي بوتين، ولكن للأسف هذا النوع من الاتفاقات يبدأ بداية جيدة ثم يبقى حبرا على ورق، ويتم اختراقه من بعض الميليشيات التابعة للنظام السوري، تركيا لا تريد التصعيد في سوريا لأن لديها ما تخسره أما النظام السوري فليس هناك ما يخسره فهو بالحضيض، لذلك يبقى الخيار الأول لتركيا هو المسار السياسي الذي حاولت من خلاله في السنة الماضية، التطبيع مع النظام السوري لتطبيق القرار الأممي 2254 المتمثل بإنشاء حكومة سورية جديدة تضم شخصيات من المعارضة، ومن النظام السوري وإعداد دستور جديد يضمن الأمن والأمان لجميع الأطراف، ومن ثم الذهاب إلى انتخابات حرة نزيهة لانتخاب الرئيس السوري الجديد الذي سيكون رئيسا لكل الشعب السوري من دون استثناء، ولكن يبدو أن إيران لم يعجبها هذا السيناريو، وعملت على عرقلته بشكل غير مباشر، عبر حجج واهية كضرورة انسحاب الجيش التركي من الشمال السوري قبل أي مفاوضات، وهذا ما رفضته أنقرة لأن انسحاب الجيش التركي يعني سيطرة الميليشيات على الشمال السوري مما يؤدي إلى تدفق المزيد من اللاجئين إلى تركيا ما يشكل خطرا على الأمن القومي التركي، وفي تقديري أنقرة ستحاول محاولة سياسية أخيرة في هذا العام، وستحاول إيضاح الصورة للرئيس بوتين خلال زيارته المرتقبة لتركيا وستحاول أيضا إقناع إيران خلال زيارة الرئيس الإيراني لتركيا التي تأجلت مرتين، ومن جانب آخر تركيا تنتظر انتهاء الانتخابات الأميركية أيضا فمن الممكن أن تستطيع تركيا إقناع الرئيس الأميركي الجديد بالتخلي عن المنظمات الانفصالية في سوريا والمضي قدما نحو تطبيق القرار الأممي 2254، بعد كل هذه الأمور ستتبلور صورة واضحة للمشهد في سوريا وستقرر أنقرة إذا كانت ستبقى على المسار السياسي أم ستصعد المسار العسكري.
توسيع رقعة العمليات العسكرية النوعية
نفهم جيدا من تصريحات المسؤولين الأتراك مؤخرا أن صبر تركيا بدأ ينفذ، وهذا ما قاله الرئيس التركي مؤخرا بشكل واضح، حيث إن الدول الغربية تتجاهل مخاوف وحساسية أنقرة تجاه المنظمات الانفصالية في شمالي سوريا والعراق، وهذا ما دعا تركيا للقيام بعمليات نوعية في تلك المناطق، من خلال تحييد بعض القادة الكبار، واستهدفت مرافق البنية التحتية الحيوية ونقاط للتفتيش وقواعد عسكرية، أي نستطيع أن نقول إنَّ تركيا بدأت بالعمليات العسكرية منذ زمن طويل، وهي مستمرة بهذه العمليات النوعية وتكثيف هذه العمليات مرتبط بالتقدم بالمسار السياسي مع الأطراف المعنية في الملف السوري، وفي بيان لوزارة الدفاع التركية لعام 2023 صرح البيان بتحييد أكثر من ألفي عنصر في شمالي سوريا والعراق، ومن جانب آخر تمت الموافقة من قبل البرلمان التركي على تمديد مهمة القوات التركية في سوريا لعامين إضافيين، وهذا دليل على إصرار أنقرة بالدفاع عن مصالحها ومصالح الشعب السوري، حيث تؤمن أنقرة بوحدة الأراضي السورية على عكس بعض القوى التي تسعى جاهدة لتمزيق سوريا حفاظا على مصالحها في المنطقة، وتسعى أنقرة بتوسيع رقعتها في المناطق الشمالية في سوريا لتوسيع مناطق المعارضة السورية لذلك شهدنا بعض الأخبار حول مخطط اسمه نموذج حلب، يهدف لضم مناطق ريف حلب وما حولها إلى مناطق المعارضة السورية، وإعمار هذه المناطق سكنيا واقتصاديا واجتماعيا، وأمنيا لتكون مناطق آمنة للناس هناك يتوفر بها كل الخدمات والبنى التحتية اللازمة لإحياء المناطق في الشمال السوري وتحويل مناطق محافظة حلب إلى مراكز تجارية كبيرة في الشرق الأوسط.
عملية عسكرية برية
خيار العملية العسكرية البرية هو الخيار الأخير الذي لا ترجحه أنقرة، بسبب أنه من الممكن أن ينطوي على خسائر مادية وبشرية، وهذا الشيء الذي لا ترجحه الحكومة التركية الجديدة التي تعمل على القرن التركي هذا القرن الذي يتميز بالازدهار الاقتصادي بعد معاناة عانى منها الاقتصادي التركي من ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع سعر الدولار، ولكن إذا استنفذت أنقرة كل الحلول السياسة ستبدأ بخيار العملية العسكرية البرية التي سيكون هدفها الدخول بعمق 30 كم إضافية من مواقع وجود القوات التركية في الشمال السوري، وخلال السنوات الماضية شهدنا الكثير من العمليات التركية البرية في شمال سوريا والعراق أيضا، كعملية درع الربيع التي أسفرت عن تحييد مئات العناصر من قوات النظام السوري، فضلا عن 3 طائرات و8 مروحيات وطائرة مسيرة مسلحة و93 دبابة و36 عربة مدرعة و67 مدفعا و10 أنظمة للدفاع الجوي وعملية "غصن الزيتون" لاستعادة السيطرة على منطقة عفرين التي سيطرت عليها وحدات حماية الشعب الكردية السورية. وعملية "درع الفرات" التي تمكنت من خلالها تركيا من طرد مسلحي تنظيم الدولة، وكذلك مسلحي وحدات حماية الشعب الكردية السورية من المنطقة الحدودية. ونفهم من هذه العمليات السابقة، أن تركيا جادة وتستطيع القيام بعمليات عسكرية برية، ولكن هي لا ترجح هذا الخيار، وثمة فرق بين عدم الرغبة وعدم القدرة.
سياسة خفض التصعيد وسياسة صفر مشكلات لا تتعارض مع حماية الأمن القومي التركي، فإن لم تكافح أنقرة اليوم هذه التنظيمات والميليشيات على الحدود التركية، ستضطر مستقبلا إلى المكافحة ضد هذه التنظيمات داخل تركيا، لذلك قرار مكافحة الإرهاب قرار حازم لا رجعة فيه، وهدف أنقرة هو هدف مشروع، يتمثل بتنظيف جميع الميليشيات والتنظيمات على الحدود التركية، وإقامة علاقات صداقة وأخوة مع دول المنطقة من دولة لدولة فقط بعيدا عن جميع التنظيمات التي تعيث فسادا بالعلاقات التاريخية التركية مع دول المنطقة والقوات التركية في سوريا بمهمة أمنية إنسانية، وستنسحب من الأراضي السورية بعد تحقيق الاستقرار السياسي في سوريا.