قبل أربعة أشهر، وفي أثناء احتفالاتها بمرور عام على عودتها لحكم أفغانستان، بدا من الواضح أن طالبان تعاني من مشكلات كبيرة في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. مما جعلها تبحث عن إثارة مشكلات جديدة تشغل المجال السياسي العام في البلاد، وتبعده عن التركيز على عجز حكومة طالبان في إدارة البلاد ونيل رضا الأفغان. وفي هذا السياق تأتي خطوة طالبان الأخيرة منع الفتيات من دخول الجامعات في كل أنحاء البلاد لتزيد من أوجاع الأفغان وهمومهم المعيشية والحياتية.
تعود مشكلة طالبان الأساسية إلى وجود شبه اجماع داخل المجتمع الدولي بمختلف أطرافه (أميركا، أوروبا، روسيا، الصين) على عدم الاعتراف بحكم طالبان حتى تستجيب لشروط أساسية تتعلق بتحسين أوضاع حقوق الإنسان والنساء، وإعادة الحياة البرلمانية، واحترام حرية التعبير وحقوق الأقليات، ومكافحة المخدرات، وعدم التعاون مع تنظيم القاعدة.
وقد تسبب هذا الوضع، الذي لم تكن تتوقع طالبان أن يطول الأمد به، تسبب بمشكلات كبيرة للخزانة الأفغانية. وهذا ما صرح به ذبيح الله مجاهد المتحدث باسم الحكومة الأفغاني الذي اشتكى أكثر من مرة من الضائقة المالية، والوضع الاقتصادي والتجاري الصعب بسبب رفض المجتمع الدولي الاعتراف بهم.
تقول طالبان إنها حققت الأمن للبلاد، وحافظت على سعر صرف العملة المحلية، وأبقت على الإنترنت، وسمحت للصحفيين بإجراء مقابلات مع المسؤولين، وسمحت بدخول الفتيات للمدارس الابتدائية، وأنهت علاقتها مع القاعدة، ولكن هل من أجل هذا فقط أتت طالبان؟
القضية التي زادت في إحراج طالبان هي إعلان الولايات المتحدة قبل أشهر أنها قتلت أيمن الظواهري في غارة جوية استهدفته في شرفة منزله في كابول
الأمم المتحدة تقول إن دخل الفرد تراجع إلى مستويات عام 2007؛ أي أننا أمام ضياع جهود تنموية امتدت لنحو 15 عاما. كما أن أخبار التضييق على وظائف النساء ما زالت مستمرة، مثلما واصلت أرقام الفقر ارتفاعها بوتائر عالية، أما حرية الصحافة فما زالت تعاني من التضييق على الصحفيين حيث يضربون أمام عدسات الكاميرا بشكل تعسفي. من دون أن ننسى اعتقال المعارضين وتعذيبهم. أما القضية التي زادت في إحراج طالبان فهي إعلان الولايات المتحدة قبل أشهر أنها قتلت أيمن الظواهري في غارة جوية استهدفته في شرفة منزله في كابول.
يحدث كل ذلك على الرغم من تعهد طالبان، عندما آل الحكم لها قبل ستة عشر شهرا، بأنها ستحكم البلاد "بطريقة مختلفة" عن طريقة حكمها في فترة التسعينات. حيث أقيمت المباريات الرياضية في كل مكان، وظهرت العبارات الرنانة على ألسنة قادتها من قبيل "نحن بحاجة إلى أجهزة كمبيوتر وليس إلى الأسلحة"، و"إننا نعيش في زمن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي"، وغيرها من العبارات التي فهم منها أن طالبان غيرت في طريقة تفكيرها وتعاطيها مع أساليب الحكم، وأنها ستدير البلاد بشكل مقبول من قبل مختلف أطياف الشعب الأفغاني.
اليوم طالبان أغلقت أبواب الجامعات الحكومية والخاصة أمام النساء، ويبدو أنها مستمرة في تنفيذ قرارها على الرغم من الدعوات للتظاهر في ساحات الجامعات وأعترض بعض أساتذة الجامعة على القرار. القرار خطوة تصعيدية غير متوقعة، لأن طالبان تعرف أكثر من غيرها خطورة هذه الخطوة وتأثيرها على سمعتها ومكانتها الدولية. فالقرار سيصعب كثيرا من احتمالات الحصول على اعتراف دولي، أو على الأقل شق صف المجتمع الدولي المجمع على عدم الاعتراف بحكومة طالبان إذا لم تف بتعهداتها.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ألا تعرف طالبان بهذه العواقب، وأن مسألة حقوق النساء تحتل مكانة مهمة في أولويات أميركا وأوروبا، وإنها لن تتسامح مع هذه القضية؟ إذا كان الجواب نعم، فلماذا إذن أقدمت طالبان على هذه الخطوة؟
من الواضح أن طالبان تريد ممارسة السياسية عبر اختلاق مشكلات جديدة تنسي الأفغان المشكلات القديمة المتعلقة بارتفاع نسب الفقر والتضييق على حرية الصحافة وإغلاق سوق الوظائف أمام النساء. بحيث يتمحور النقاش السياسي داخل البلاد حول هل ستعيد طالبان الفتيات إلى الجامعات أم لا؟ وليست حول لماذا لا تفعل طالبان شيئا للتخفيف من الفقر وإعادة الحياة السياسية للبلاد؟ ولا سيما أن طالبان عللت خطوتها بمنع الفتيات من دخول الجامعات بأنها تتعلق باستكمال بعض الأمور الإدارية والتنظيمية. ويبدو من هذا التعليل أن طالبان يمكن أن تتراجع عن هذه الخطوة إذا وجدت مقاومة عارمة من قبل المجتمع الأفغاني لهذا القرار.
مثلما يمكن تفسير ذلك القرار بأنه استغلال لانشغال المجتمع الدولي بقضية أوكرانيا وجائحة كورونا اللتين أخذتا حصة الأسد. حتى إن القرار يمكن أن يكون في إطار الاستعداد لاستخدامه كورقة يمكن التخلي عنها إذا وافق المجتمع الدولي على الاعتراف، بطريقة ما، بحكومة طالبان، وقدم لها بعض التسهيلات المالية والبنكية على أقل تقدير.
طالبان ستركز جهودها لفك عزلتها الدولية والمالية عبر التعاون مع الدول التي ليس لديها مشكلة مع انتهاكات طالبان لحقوق النساء، ولا سيما إيران وروسيا والصين
وفي كل الأحوال فقد بات من الواضح أن حكومة طالبان لم تعد مهتمة بوعودها، وتغيير نهجها، وهو أمر شكك به كثير من الأطراف الأفغانية والدولية. والنتيجة التي يمكن استنتاجها من وراء ذلك أن كل من لا يستمد سلطته من شعبه فإنه لن يهتم يوما بمصالح هذا الشعب، سواء تعلق الأمر بالتعليم أم الفقر أم حرية الصحافة.
النتيجة الثانية أن طالبان ستركز جهودها لفك عزلتها الدولية والمالية عبر التعاون مع الدول التي ليس لديها مشكلة مع انتهاكات طالبان لحقوق النساء، ولا سيما إيران وروسيا والصين. إذ تشير الأخبار إلى وجود صفقات تجارية تتعلق بالنفط والقمح مع روسيا، مثلما هناك عقود للتنقيب عن النفط والغاز وقعت مع الصين.
أما النتيجة الأخيرة فيمكن ملاحظتها فهي أن طالبان متمسكة بنهج مغاير لروح الأديان الإنسانية والمدنية الحديثة؛ وهذا يعني أنها لن تأبه بالانتقادات التي صدرت من شخصيات إسلامية رفيعة تتهم طالبان بأنها اتخذت قرارا يخالف الإسلام ويقدم صورة مغلوطة عنه، وأنه لا وجود لمثل تلك الطرق في التفكير في تاريخ الحضارة الإسلامية.