"بينما كانت أصوات المدافع تدوِّي بعيدة، طفقنا ننشد، ونرسم، ونصنع لوحات من الكولاج، ونكتب الشعر بكل ما أوتينا من قوة؛ كنا نبحث عن فن يستند إلى الأسس لنداوي به جنون هذا العصر.."- هانز آرب.
الدادائية – دادا، بين النشأة والمضمون
كردّ فعل على الحرب العالمية الأولى والقومية التي اعتقد الكثيرون أنها أدت إلى الحرب، نشأ الفن الدادائي في زيورخ بسويسرا عام 1916 على يد مجموعة من الفنانين والشعراء والأدباء المستقلين من جنسيات أوروبية مختلفة من بينهم (هوغو بول، إيمي هينينيز، ترزتن تزارا وهانز آرب) وغيرهم من الفنانين إبّان الحرب العالمية الأولى تحت هدف "الرغبة في الانتقام من كل ما له صلة بالحروب والمجازر، والثورة على كل الأكاذيب التي تبرر قتل الإنسان والإنسانية، وكل من يبرر ذلك بأي شكل من الأشكال، وخاصةً من يستعمل فنه أو أدبه ويسخّرهُ لذلك".
نشأت هذه الحركة الفنية متأثرة بحركات طليعية أخرى مثل: التكعيبية والمستقبلية، والبنائية، والتعبيرية، وكان إنتاجها متنوعاً بشكل كبير، بدءًا من فن الأداء إلى الشعر والتصوير الفوتوغرافي والنحت والرسم، وقد أثبتت جمالية "الفن الدادائي" التي تميزت بسخريتها من المواقف المادية والقومية، تأثيرها القوي على الفنانين في العديد من المدن مثل: برلين وهانوفر وباريس ونيويورك وكولونيا، حيث أصبحت أفكارها أحجار زاويةٍ لمختلف فئات الفن الحديث والمعاصر.
كما كان لها السبق المباشر لحركة الفن المفاهيمي، إذ لم يكن تركيز الفنانين على صياغة أشياء مبهجة من الناحية الجمالية، بل على صنع أعمال غالبًا ما قلبت الحساسيات البرجوازية، والتي ولّدت أسئلة صعبة حول المجتمع ودور الفنان والغرض من الفن، هل هو للعين أم للعقل؟ حيث كانت نظرة الدادائين تكمن حول رمزية الفن التي تُصنع ليراها العقل، وقد رفض "مارسيل دوشامب" وهو أحد روّاد المدرسة الدادائية، كل اللوحات في عصره ووصفها بأنها صنعت للعين وليس للعقل.
ففي عام 1961 بحديثه للصحافة في متحف الفن الحديث في نيويورك. قال دوشامب:" في عام 1913، كانت لدي فكرة سعيدة لربط عجلة درَّاجة بمقعد المطبخ ومشاهدتها وهي تدور"، حيث صنعها في عام 1917 وصُنفت على أنها قطعة فنية، وهي معروضة حالياً في متحف الفن الحديث.
وكانت معظم أعمال دوشامب الجاهزة عبارة عن أشياء فردية أعاد وضعها أو صنعها من خلال الجمع بين أكثر من عنصر وأطلق عليها اسم فن، لتصل لأقصى درجات التناقض والتأويل، بصفته جسماً عادياً يحولهُ الفنان لعمل فني فقط عن طريق إضافة فكرة مفاهيمية عليها ليتم تفسيره وتأويله بأكثر من طريقة.
وعلى هذا النهج من النمط الفني الجديد انتهج عدد من فناني أوروبا المحاربين للفن السائد ورمزيه ليوصلوا رسائلهم ويؤكدوا على بربرية الحرب التي ساندها البرجوازيون، وسعوا إلى إشاعتها لتلبي مصالحهم، حيث بدأ الفنانون أمثال كورت شويترز في صنع الفن من مخلفات ألمانيا ما بعد الحرب من شظايا القنابل والمسامير وقطع الزجاج المكسور والأخشاب والملصقات الممزقة، وجعل منها لوحة فنية تحاكي الواقع الذي يعيشونه. وقد كتب شويترز عن القمامة التي جمعها من الشوارع وتحويلها إلى مجمعات ومجموعات منحوتة: " بدافع البخل أخذت كل ما وجدته لأفعل ذلك".
انهيار الحركة الفنية الجديدة
نشأت الدادائية على الاستهزاء من جميع الحركات الفنية والأدبية والسياسية في ذلك العصر، وأثارت المقاربات الجريئة والجديدة للدادئيين الجدل داخل الثقافة المعاصرة. حيث إن انفصالهم السريع عن تقاليد ذلك العصر استحواذ، وجذب عدداً كبيراً من الجماهير في عشرينيات القرن الماضي، لكن الحركة ككل كان مصيرها الانهيار سريعاً كما كان ظهورها كذلك.
حيث وجد البعض، مثل مان راي "أحد رواد الدادائية "، ميولهم تتحرك نحو عالم اللاوعي للسريالية، ووجد آخرون أن الضغوطات على الفنان الأوروبي الحديث ثقيلة جداً بحيث لا يمكن تحملها، لا سيما في زمن الحرب وكثرة الآراء والانتماءات على جميع الأصعدة.
أما الانهيار الأقوى للدادئية كان مع صعود أدولف هتلر إلى السلطة في الثلاثينيات، حيث وجه ضربة قوية لعالم الفن الحديث بهدف القضاء على جذوره، وهو مجال اعتبره "منحطاً" وتألقه في ذلك العصر يعني القضاء على جمالية ورونق الفن الكلاسيكي القديم.
نتيجة لذلك، رأى فنانو دادا، أن أعمالهم يتم الاستهزاء بها أو تدميرها، وبالتالي اختاروا الهروب من الهواء الخانق لأوروبا في سبيل إيجاد المناخ الفني الأكثر تحرراً خارجها، لهذا كان توجههم نحو الولايات المتحدة، ولكن مع نمط جديد وهو وليد من الدادائية ألا وهو السريالية .
الدادائية في ظل الربيع العربي
يعيش اليوم في ظل مرحلة الربيع العربي مئات الفنانين من مجالات مختلفة كالنحت والرسم والزخرفة وغيرها من الفنون، فقد رسخوا أنفسهم لإيصال رسالة خالدة من خلال الأعمال التي يقدمونها، ومع صعوبة المعيشة في ظل الغلاء والحصار ونقص الموارد اللازمة لصناعة اللوحة أو المجسم في بعض البلدان، اتجه بعض الفنانين لصناعة الفن من ركام الحروب ومخلفاته لتقول أعمالهم للعالم "بأن السلام يمكن تحقيقه حتى من دمار الحروب".
وشهدنا خلال السنوات الـ 10 الماضية معارض فنية في مختلف البلدان العربية تحت مسمّى "الفن البيئي، أو الرسم على الموت" تحمل مجسماتها ولوحاتها المصنوعة من مخلفات الحروب رسائل أراد الفنان إيصالها في ظل الظروف الصعبة من قتل ودمار وتهجير، لهذا كانت أغلب الأعمال الفنية فاقدة للصبغة الجمالية التي لطالما تعودنا على لمسها في أعمال ما قبل الربيع العربي، حيث تجسدت صناعة بعض الأعمال الحالية في تصوير الدمار من آلة الدمار ذاتها.
ففي ليبيا مثلاً، اتجه الفنان التشكيلي علي الوكواك لجمع مخلفات أدوات الحرب من الشوارع كالخوذ والأحذية والقنابل والآليات والأسلحة، ونحت منها كائنات حديدية مختلفة فاقدة للخطوط الجمالية ليرسل من خلال رمزيته البشاعة والدمار التي صنعتها آلة الموت.
ولم يقتصر هذا التيار الفني في ليبيا فقط، وإنما شهدت البلدان العربية مثل فلسطين وسوريا والعراق ولبنان وجوداً ملحوظاً لهذا النمط الفني مع الهدف ذاته لإيصال رسائل الحرب.
ففي العراق قدم الفنان التشكيلي وسام الفراتي مجسمات كانت خاماتها من قذائف ومعدات عسكرية وجعل منها عملاً فنياً برمزيته ورسائله المفعمة بالأمل، الأمل الذي جال معه حسام الضابوس الفلسطيني الجنسية بين شوارع ومنازل غزة بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي عليها، حيث أخذ يبحث عن بقايا صواريخ وقذائف إسرائيلية لإعادة تدويرها وترميمها بشكل فني.
كما أن سوريا كان لها نصيبٌ أيضاً من هذه الأعمال الفنية، ففي مدينة عين عرب السورية حوّل الفنان "نشأت عمي" فناء منزله إلى ورشة لصناعة المجسمات من مخلفات آلات الموت والدمار ليجعل منها مشهداً فنياً يحاكي الواقع المؤلم الذي تعيشهُ المنطقة، وقد صرّح عمي في إحدى لقاءاته مع الجزيرة نت واصفاً دور الفنان فيما يعيشه ضمن مشاهد الدمار والتهجير حيث قال: "الناس عرفوا فن الحروب، لكن الفنان عرف فنون السلام حين صاغ فناً من شواهد الموت وصواريخها وقذائفها التي خنقت الحياة، وحولت البشر إلى أشلاء والبيوت إلى أنقاض".
وعلى الفكر ذاته وتحت مسمى "الرسم على الموت" زيّن الفنان أكرم سويدان المولود بدوما في ريف دمشق، قذائف الهاون والصواريخ برسومات فنية تتخللتها خطوط جمالية مفعمة بألوان الحياة على عكس ما اعتدنا أن نراه من هذا النمط عبر السنين الماضية، وقد وضّح سويدان هدفه من هذه الأعمال بقوله: "لست أرسم لأجمّل الموت، بل من أجل إيجاد فسحة أمل أجعل من خلالها أدوات الموت رمزا للحياة".
وعلى الرغم من اختلاف الأشكال الفنية، أراد المقبلون على هذا النوع من الأعمال في كلتا الحقبتين إيصال رسائلهم التي تكمن في صناعة الفن من الدمار، فخامات المجسمات التي جُمعت من مخلفات الحروب خلقت إلهاماً إبداعياً مفعماً برسائل إنسانية وثورية عند الفنانين، أرادوا من خلالها تصوير الواقع المؤلم الذي يعيشونه على الصعيد السياسي والاجتماعي والإنساني ليخلقوا نمطاً فنياً لا تُسدل عنه الستارة إلَّا في زمن الحروب.
مصادر: