بقيت وعد الخطيب على قيد الأمل دوماً، ولكن في أثناء تحضيرها لفيلمها الوثائقي الأخير "موت بلا رحمة"، بات العثور على ثوان من الزمن مسألة صعبة. إذ بعد الزلزال الكارثي الذي هز سوريا وتركيا في شباط 2023، أحست بالعجز وهي تعد الثواني والساعات والأيام في بيتها بشرقي لندن وهي تنتظر استصدار التأشيرة العاجلة لتزور أهلها في مدينة غازي عنتاب القريبة من الحدود السورية التي قطعتها قبل سنين هرباً من نظام الأسد، وعن ذلك تقول هذه المخرجة التي أصبحت لاجئة في المملكة المتحدة والدموع تملأ عينيها: "قد نكون مكانهم".
عند بلوغها الثانية والثلاثين، برزت موهبة وعد المتمثلة بتحويل الجانب الشخصي الذي طاله كثير من الدمار إلى جانب يحس به المرء في كل زمان ومكان، إذ في فيلمها الأول: "من أجل سما" وثقت حياتها في ظل الحصار بحلب، فحظي الفيلم بإعجاب واستحسان كبيرين. ولكن عند تصويرها لفيلمها الوثائقي الثالث، الذي يتعقب ما جرى لأسرتين سوريتين، وهما عائلتا صديقيها العزيزين فادي الحلبي وفؤاد السيد عيسى، على مدار عشرة أيام وهما يواجهان الدمار الذي ألحقه الزلزال الذي حصد أرواح أكثر من 60 ألف شخصاً، شعرت وعد بأنها لن تقابل لهذه التجربة مثيلاً في حياتها.
الجميع مسؤول
وبالنتيجة، خرجت بفيلم صنع بدافع المسؤولية لا الأمل، وعنه تقول: "تعلمت من خلال تجربتي في أمور كثيرة بأن كل شيء يمكن أن يحدث، ولهذا أحاول أن أستبق الأمور بخطوة حتى لا يحصل ذلك لأشخاص آخرين"، بما أن وعد أصبحت تعاني من الكوابيس التي دفعتها لطلب العلاج خلال إعدادها للفيلم، لكنها تضيف قائلة: "علي أن أفعل ذلك لأني أحمل مسؤولية على عاتقي".
بعد مرور أكثر من عام على الزلزالين الذي بلغت شدة أحدهما 7.9 والثاني 7.8 درجة واللذين هزا جنوبي تركيا وشمال غربي سوريا، وتسببا بنزوح الملايين، معظمهم من اللاجئين السوريين الذين نزحوا قبل ذلك بسبب الحرب في بلدهم، لم يجب أحد على أية تساؤلات تتصل بالمسؤولية، ولهذا تقول وعد: "لا عدالة بوسعها أن تعيد هؤلاء الناس، لكن الوقت لم يحن بعد، ولهذا من الضروري أن يتحمل كل شخص مسؤول منا مسؤوليته، حتى يمنع وقوع ذلك في مناطق وأماكن أخرى، أي أن الولايات المتحدة مسؤولة، والحكومة التركية مسؤولة والحكومة السورية مسؤولة".
وفيات كان بالإمكان تفاديها، وجهود إنقاذ امتدت لفترة طويلة، ودمار لا معنى له، والمعنى المجرد للحدود، وعدم توفر ما يكفي من المساعدات الإنسانية، والفساد السياسي، كل تلك الأمور تحتل قلب فيلم: "موت بلا رحمة" الذي يصعب على المشاهد متابعته تماماً كما يشق على النفس قراءة اسمه.
يبدأ الفيلم بتصوير فيديو يتخلله اهتزاز كبير يظهر المباني وهي تسوى بالأرض خلال دقائق، وذلك خلال الساعات التي سبقت طلوع فجر السادس من شباط. في الفيلم، نرى أشخاصاً دفنوا تحت البلاط المكسور، وغطاهم غبار الإسمنت المسلح في أثناء محاولتهم تسجيل آخر ما قالوه من كلام. فيما نسمع آخرين وهم يصرخون طلباً للمساعدة، من دون أن يهب لنجدتهم أحد، وعن ذلك يقول أحد الرجال موجهاً حديثه للكاميرا وهو يبكي في مطلع الفيلم: "لقد سمعناهم، إذ كانوا صرخون: أنقذونا! أخرجونا!، لكننا لا نستطيع إنقاذهم، إذ كيف لنا أن ننقذهم؟"
تتجلى مشاعر اليأس والعجز في الفيلم ضمن لقطات يظهر فيها مخرجون، وصحفيون، ومن علقوا تحت الأنقاض، ومن ظلوا فوق الأرض. وعندما تلفت وعد الانتباه للكارثة التي صرف العالم عنها اهتمامه، نراها تسلط الضوء وبكل وضوح على الخسائر المريعة في الأرواح والتي تسببت بفقدها الجغرافيا والفساد السياسي، ولهذا نجدها تقول: "مازلت حتى الآن لا أفهم كيف حدث هذا، وما التكلفة التي ترتبت على ذلك، وإلى متى سنبقى ندفع كلفة هذا"، إذ بعد مرور 12 عاماً على الحرب في سوريا، لا يمكن لأي شيء أن يحقق العدالة بعد كل ما حدث برأيها، وينطبق الأمر ذاته على من وقعوا ضحية لهذين الزلزالين، إذ كيف يمكن للألم أن يتجسد ويتحول لشيء يعني غيرهم من الناس؟
في الوقت الذي يحتل فيه فادي الحلبي وفؤاد السيد عيسى محور الفيلم وهما يحاولان الوصول إلى أقاربهما العالقين تحت الأنقاض في أنطاكيا، نكتشف بأن الحدود الممتدة بين تركيا وسوريا هي ما يميز قصتهما.
إذ على الجهة الأولى نتابع فادي وهو يحاول عبور الحدود مما يصفه بالسجن في شمال غربي سوريا، وبعد أن يعاد إلى هناك عدة مرات، نجده وقد وصل إلى ولاية هاتاي في الجنوب التركي، وهناك يصله نبأ وفاة 13 شخصاً من أقاربه، فيقول مخاطباً الكاميرا: "أتعرفون بم أفكر؟ أفكر بأن هذا مجرد حلم أيقظني منه أحدهم، أقسم بأني مازلت غير مصدق لما حدث، إذ لا معنى بنظري لكل ما حدث".
وعلى الجهة الأخرى، نتتبع فؤاد وهو يسافر من إسطنبول ليصل إلى زوجته وولديه، ومن بين الركام، نراه وهو يعثر على ألعاب ابنه الأكبر قتيبة، وملابسه، قبل أن يجد جثته مدفونة تحت السقف الذي انهار للشيء الذي كان بيتهم في يوم من الأيام. نسمع فؤاد وهو يقول: "كان ابني أفضل أصدقائي، ولقد وعدته عندما يكبر بأني لن أذهب لأي مكان من دونه".
بالنسبة لوعد، كانت مقابلاتها مع صديقيها أصعب شيء توقعته في حياتها، وعنها تقول: "أدرك مدى صعوبة مشاركة هذين الشخصين الرائعين لهذه القصة، بما أنهما مايزالان يعانيان من الألم مع طلوع فجر كل يوم، ولهذا أخشى عليهما كثيراً، وأخاف ألا أقدم ما يناسبهما وخاصة على المستوى العاطفي".
في الوقت الذي كانت أسرتها تنعم بالأمان، تمكنت وعد من التعرف على بقية أهلها من خلال الصور والفيديوهات التي صورت حجم الدمار، ولهذا أخذت تساعد من مقرها في لندن بنشر صور الجرحى والموتى حتى يتعرف ذووهم عليهم، كما استعانت بالمعلومات التي جمعها الناس على الأرض حتى تسهم في تحديد موقع الأشخاص تحت الركام. لكنها لم تتمكن من زيارة تركيا إلا بعد تأمين سمة دخول، وهذه التأشيرة لم تصلها إلى بعد مرور ستة أشهر على وقوع الزلزالين.
وتشرح موقفها بالقول: "ثمة مصاعب أخرى تتعلق بكوني لاجئة في المملكة المتحدة، إذ لو كنت أعيش حياة عادية لكان بوسعي الذهاب مباشرة إلى هناك، ولوصلت إلى هناك بسهولة".
أمل تحت الركام
بالنسبة لوعد، أصبح الفيلم عبارة عن أداة لتغيير الفهم، وطريقة لطرق أبواب الناس، وللفت انتباههم، ويرتبط هذا الفيلم ارتباطاً وثيقاً بأوجه أخرى لهويتها بوصفها أماً لطفلين، ولاجئة سورية، ومخرجة، وناشطة، ولهذا تقول: "لا يمكن لأحد أن يفصل أي شيء، إذ لا يمكن فصل الجانب السياسي عن الإنساني عن الاجتماعي، بما أن كل الأمور مرتبطة ببعضها ولهذا السبب خرج الفيلم بهذه الصيغة، لأني أمثل كل تلك الأمور مع بعضها، وأعتقد أنه من مسؤولية الفنان جمع كل تلك الأمور مع بعضها، فلو نجحت بفصل الأمور عن ماهيتك، وعما تفعله، وطريقة تفكيرك، فلا أعتقد بأن التجربة عندئذ ستكون صادقة وأصيلة".
في الوقت الذي تعترف وعد بأن العالم الذي تسوده الكوارث المشؤومة يعتبر تربة خصبة لسرد القصص، تخبرنا بأنها ستأخذ الاستراحة التي تستحقها في المستقبل القريب بعد أن أثر ما جرى في العام الماضي على صحتها النفسية والجسدية، وعن ذلك تقول: "لم آخذ استراحة منذ بداية الثورة في سوريا عام 2011". وتتابع قائلة: "أعرف بأنه مهما كان وضع هذا الفيلم، وما سيؤول إليه، فإن الناس في نهاية المطاف لابد أن تتوقف لتراه وتحس بما ورد فيه وتخوض هذه التجربة التي تغير فكر الناس وقلوبهم، ونظرتهم تجاه كثير من الأمور في هذه الحياة".
أما بالنسبة للأمل، الأمل الحقيقي، فقد أصبح هو أيضاً تحت الركام برأيها برفقة كثير من الأشخاص الذين لم يعرف أحد مكانهم حتى الآن.
المصدر: The Guardian