"صبرٌ استراتيجي" وما مِن مُستعان

2024.09.19 | 06:27 دمشق

53333333
+A
حجم الخط
-A

لا يختلف كثيرون على اعتبار الصبر فضيلة، بل وواحدة من أهم الفضائل التي تُعين الإنسان على إدارة الشدّة في حياته، خلال بعض المواقف أو الظروف، بغضِّ النظر عن الحالة الإيمانية. لكن هؤلاء أنفسهم يختلفون على مواضعه ومداه الزمني، حيث يتحول إلى تسمية أخرى فيما لو استُخدم في غير مكانه، أو طال أمده بما لا يتّسِق مع منطق الأحوال والظروف.

كما توقعتم، أكتب هنا عن "الصبر الاستراتيجي"، تلك المقولة الإيرانية المبتكرة، التي غدت مادة للفكاهة والسخرية، ليس لدى الشعب الإيراني وحسب، بل لدى الإعلام الدولي أيضاً. في 17 أيار/مايو عام 1979 أصدر مجلس الشيوخ الأميركي قراراً يدين سلسلة الإعدامات التي أمرت بها المحاكم الثورية الإيرانية. كان الجميع يعلم أن القرار الأميركي هو خطوة رمزية ليس أكثر، لكنّه أصاب وتراً حسّاساً في إيران.

يومها، قاد الخميني شخصياً الحملة المناهضة للقرار، معتبراً أنه خطوة عدوانية، لا سيما أن أحد رعاة القرار هو جاكوب جافيتس السيناتور الجمهوري عن نيويورك، المتّهم إيرانياً بأنه صهيوني تربطه علاقات مع الشاه المخلوع. ثم بدأت المواقف تتدحرج وصولاً إلى اقتحام السفارة الأميركية في طهران بعد عدة شهور، خصوصاً مع السماح للشاه المريض بدخول الولايات المتحدة. في تلك الحقبة لم يكن الصبر الاستراتيجي ولا حتى الصبر بذاته، بلا أية لاحقة، قد دخل إلى قاموس الملالي.

أوقعت السياسة العدائية العقيمة التي انتهجها الملالي بحثاً عن هذا الدور، بمن فيهم الإصلاحيون خلال فترات حكمهم، إيران في أزمات بنيوية عميقة، اجتماعية وسياسية واقتصادية، وهذه الأخيرة هي الأكثر كارثيّة بالنسبة للشعب الإيراني.

خلال العقود التالية، ستشهد العلاقات الأميركية الإيرانية، كثيرا من التحولات، من بينها فترات اتسمت بالعداء الحامي، وأخرى فاترة شهدت مباحثات لجسر الفجوة بين الطرفين، ومع ذلك لم تكن العلاقات ولا في أية فترة ودّية، رغم تمرير بعض الصفقات من تحت الطاولة. أما القول بأن ما نشهده من مواقف البلدين هو مجرّد تمثيليات بين حليفين، فهذا اختراع خاص بمنطقتنا العربية، وليس له أي صدى في باقي بقاع العالم.

يلحظ المتابع للصحف الإيرانية المحافظة، وحتى الإصلاحية بدرجة أقل، حين تتحدث عن السياسة الإيرانية الخارجية، تكرار استخدام عبارة محددة لا يختلف عليها الإيرانيون من أهل النظام، حتى لو اختلفت تصوراتهم على تجسيدها في الواقع. العبارة تفيد بضرورة "تعزيز موقع إيران في العالم". فالسياسيون الإيرانيون، يتفقون بمعظمهم على وجوب أن يكون لبلدهم دور أكبر، تلعبه خارج الحدود الوطنية، أقلّه على المستوى الإقليمي.

أوقعت السياسة العدائية العقيمة التي انتهجها الملالي بحثاً عن هذا الدور، بمن فيهم الإصلاحيون خلال فترات حكمهم، إيران في أزمات بنيوية عميقة، اجتماعية وسياسية واقتصادية، وهذه الأخيرة هي الأكثر كارثيّة بالنسبة للشعب الإيراني، الذي طالما اعتبر أنه يعيش في بلد غنيّ لكنه مسروق، ليس من مافيات الفساد التي تتوازع نهب الثروات وحسب، بل كذلك من المشاريع السياسية الخارجية التي يمولها النظام، ويصرف في سبيلها مليارات الدولارات، بهدف الوصول إلى انتصار مشروعه الذي سيفضي إلى لعب دورٍ عالمي.

بعد أيام، سيكون قد مرَّ شهران على اغتيال إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي لحماس خلال زيارته لطهران، وفؤاد شكر القائد العسكري لحزب الله في ضاحية بيروت الجنوبية. وبينما خرجت التهديدات من إيران وأذرعها عشية الحادثين المتزامنين، التي توعّدت بردٍّ لن يبقي ولن يذر، فإن الأمر قد برد بعد مرور فترة قصيرة، وعاد المحور الذي تقوده إيران للحديث عن تكتيكات مبتكرة للانتقام لم تعهدها إسرائيل، سوف تأتي في الزمان المناسب، مع إشادة من الصحف الإيرانية لاستعادة النظام العزف على نغمة الصبر الاستراتيجي.

غدت فضيلة الصبر هي أفضل الوسائل التكتيكية لنظام يفتقد للمساندة الداخلية، ويعرف أن أية حرب قد ينزلق إليها، ربما تعني سقوطه المؤكد.

بالتأكيد، الشعب الإيراني لا يبحث عن ردٍّ قد يودي إلى دخول بلدهم في حرب مباشرة، ليس مع إسرائيل وحسب، بل مع تحالف دولي سيقوم بإسناد الأخيرة، كما فعل على الدوام. بل وأكثر من ذلك فإن حالة الإفقار التي أوصل نظام الملالي الشعب الإيراني إليها، تجعل من مطلب تسخير موارد البلاد للتنمية الداخلية وتحسين الظرف المعاشي للناس أولوية، بدل إهدار الموارد الإيرانية على المشاريع الخارجية.

يوم 15 أيلول/سبتمبر قبل أيام، تصادف مرور الذكرى السنوية الثانية لمقتل الشابّة مهسا أميني، حيث تسبب تعذيبها وقتلها على أيدي عناصر أمنية تابعة للنظام، بموجة احتجاجات مديدة، أودت بحياة مئات الضحايا في عموم البلد. للمناسبة قامت السلطات بتعزيز الإجراءات الأمنية في عموم إيران، وعلى نحو خاص في المناطق الكردية. ووفقا للتقارير فقد تلقى أفراد عائلتها تهديدات بالاعتقال فيما لو قاموا بمجرد زيارة قبر ابنتهم. مع تحذير شديد لكافة وسائل الإعلام من نشر أية تقارير عن أميني، وتهديد الصحفيين لعدم كتابة أي شيء عنها حتى على حساباتهم الخاصة.

إجراءات النظام الإيراني لمنع أية مظاهر لإحياء ذكرى أميني، ليست معزولة ولا تخص المناسبة، كما يبدو الأمر للوهلة الأولى. فهناك أخبار يومية عن احتجاجات مطلبية وإضرابات في العديد من القطاعات، مما يشي بحالة تململ شعبي، قد يؤدي إلى موجة جديدة من الاحتجاجات، لا يرغب نظام الملالي أن تحدث، في هذه الفترة بالذات. فالمحور الذي يقوده في

حالة حرب، بينما هو غارق في حالة عجز عن مواجهة أزماته الداخلية، ويخوض بشكل يومي مواجهة مع مجتمع يعيش تحت الضغط، ويمتلك كل الأسباب التي تجعله قادراً على الانفجار في أية لحظة.

من هنا غدت فضيلة الصبر هي أفضل الوسائل التكتيكية لنظام يفتقد للمساندة الداخلية، ويعرف أن أية حرب قد ينزلق إليها، ربما تعني سقوطه المؤكد. وتعلمون في حالتنا السورية وهي الأسوأ، كيف أن نظام الأسد ليس ببعيد عن تلك التكتيكات، بل ويذهب بها إلى أقصاها. فصبر الأخير ليس استراتيجياً وحسب، بل يبدو أنه بات خاصية مرضيّة ملازمة، بهدف البقاء في السلطة. ولذا نرى حالة المهانة الوطنية التي يعيشها الأسد ونظامه، والتي أوصل سوريا إليها، دون أية بوادر توحي بأنه يمكن أن يقوم بتحريك ساكنٍ لاستردادها، ولو إعلامياً على الأقل، كما يفعل الإيرانيون حالياً.

قبل أيام صرّح قائد الحرس الثوري الإيراني: "نحن لا نحارب أميركا بأسلحتنا، بل نواجهها بسلاح إيمان شبابنا". لن يفوت أحد أن "شبابنا" هنا ستُحيلنا إلى الشباب اللبناني واليمني والسوري والعراقي إضافة للأفغان والباكستانيين، المنخرطين في الحروب الإيرانية الخارجية. فليس لدى الشباب الإيراني ذاك الإيمان، أو تلك القدرة على التضحية أكثر مما فعل مرغماً طوال عقود.

بسببٍ من أزماته الداخلية والضغوط الخارجية، ونظام العقوبات الذي يتصاعد، يبدو الصبر الاستراتيجي الإيراني بات مُستداماً دون نهاية، حيث لا مُستعان لهم لا في السماء ولا على الأرض، ليردوا بشكل حقيقي على أي اعتداء. ولن يكون من المستغرب أن تحاول إيران، وهي تواجه ذروة جديدة من أزماتها، الوصول إلى أي ثمن يمنحه لها الغرب، مقابل أن تكف عن كونها دولة مارقة تنشر الجريمة المنظمة والإرهاب في أربع جهات الأرض. ألم يقل الرئيس الإيراني في مؤتمره الصحفي الأخير "إن الأميركيين إخوتنا، وليس لدينا معهم أية مشكلة"!