حروب السوريين الأهلية

2024.09.05 | 06:14 دمشق

58888888887
+A
حجم الخط
-A

في ملتقى بحثي، تصادف أنّي كنت أحد المدعوين إليه في الأيام القليلة الماضية. خلال الجلسة الأولى منه، كان البحث بعنوان "تصورات السوريين للمصالحة الوطنية في المستقبل".

ارتأى الباحث، وهو شخص لا يفتقد الشجاعة ولا "الكاريزما"، أن من الحكمة والأسلم له، الإشارة إلى أن المستقبل الذي يتحدث عنه، هو ما بعد الأسد. مرر الملاحظة بطريقة ذكية ومازحة، لكن الأمر بدا لي محزناً.

كانت سوية الحضور ستتيح لهم إدراك ذلك من خلال كامل مفردات البحث الذي سيلي، ومع ذلك كان من الأكثر أماناً له، أن يدلي بملاحظته تلك، فربما التبس أمر المستقبل هذا على أحد الحضور، وفكّر بمد يده إلى قبضة المسدس"الموبايل".

طبعاً أُحيلكم على عنوان مادتي، حول استخدام تعبير الحرب الأهلية السورية الذي وردَ في عنوان كتاب صدر قبل شهور فأحدث زوبعة. شهد الأمر نقاشاً محترما وذا سوّية رفيعة أحياناً، خطَّأ العنوان والمؤلف. لكن من جانب آخر شهدنا هجومات شتائمية واتهامية، في أحيان كثيرة.

لم أكن استثناءً، لأستطيع النجاة من "شهوة" المشاركة بما اعتبرته افتئاتاً على ثورة السوريين العظيمة عام 2011. ولكن ما جعلني أضحك من نفسي ومن الآخرين، أننا أنفسنا وقعنا في فخّ العنوان، فانطلقت حرب أهلية ولو على نحوٍ غير دموي. ما أخشاه أنها كانت كذلك، فقط بحكم أننا لا نمتلك وسائل القتل.

في جناحنا في سجن صيدنايا، بعيداً عن أعين السجانين، كنا نقيمُ، بين فترة وأخرى، ندوات لمناقشة حدث أو قضية سياسية ما. رغب الأصدقاء هناك، باستضافة الشيخ هاشم منقارة الذي كان معنا في الجناح، كمتحدث في ندوة خصصت له، تتناول تجربته مع حزب التوحيد الإسلامي في لبنان.

منقارة، عامل صيانة المصاعد، كان في مطلع الثمانينيات القائد العسكري لحزبه، وله صولات وجولات. أميرٌ مع سيفه وحصانه يتجول في مناطق طرابلس وخصوصاً الميناء. كان الرجل وراء اقتحام مكاتب الحزب الشيوعي في المدينة، وتعذيب وقتل منتسبيه. اعتقله نظام الأسد الأب، ثم أطلق سراحه فيما بعد، ليصبح عميلاً للمخابرات السورية. حُكِم عليه بالسجن سنة واحدة (استبدلت بغرامة مالية)، بجرم كتم المعلومات، لمعرفته المسبقة بأن المخابرات السورية ستقوم بتفجير مسجدي السلام والتقوى في طرابلس عام 2013.

في ندوتنا، تحدث الرجل بكل ما هو غير متوافق مع أفكارنا وقناعاتنا دون خوف، فنحن لا نخيف بطبيعة الحال. وناقشناه في كل ما أورده وعارضناه أيضاً دون خوف، من جهتنا كنّا مطمئنين إلى أن الرجل كان بلا سيف ولا مسدس في ظرف السجن. بالنتيجة استطعنا (نحن وهو) أن نتحاور، رغم أننا على طرفي نقيض تماماً في كل فكرة وفي كل شيء تقريباً.

هل أدعو إلى هيئة مصالحة؟ ليس بالمعنى الإداري للكلمة، ولكن لنقل بأنها دعوة افتراضية لبث نوع من الروح التصالحية بين أبناء الهدف الواحد، هدف الانتقال بسوريا إلى ما يختاره السوريون مستقبلاً بعيداً عن الإكراه والاستبداد.

بعدها استمرت حياتنا اليومية معه في الجناح بصورة طبيعية. بالتأكيد تستطيعون تخمين ما أقصده بكلمة "طبيعية" هنا. ما أردته من هذا المثال المتطرّف، القول بأنه يمكن في أصعب الظروف محاورة من نختلف معه جذرياً، دون تبادل الشتائم والتخوين والقتل المعنوي.

بالعودة إلى عنوان مادتي سأضطر للشرح قليلاً، كي لا تعتقدوا واهمين أنني أشجَع من الآخرين، فهو عنوان تهكّمي على الحروب الصغيرة (من الصَغار) التي تشتعل كل يوم بين السوريين ممن هم في ضفة الثورة، أو ممن هم من معارضي الأسد عموماً، على مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات والمواقع الإلكترونية. وأرجو ألا يذهب بكم العنوان أبعد من ذلك، فأُصبح في مرمى النيران. مع ذلك لست متأكداً أنني نجوت.

هناك مثلٌ لطيف يقول "سنونوة واحدة لا تعني قدوم الربيع". يخطر ببالي الآن أن أشتّق على منواله مثلاً معاكساً يصلح لحروبنا الأهلية تلك، من مثال "خطأ وحيد يعني بدء المجزرة". هل بالغت باستخدام تعبير "المجزرة"؟ لا أعتقد، فالقتل المعنوي لأشخاص أو مجموعات، أو حتى تيارات في ساحات سجالنا السوري على هفوة بسيطة أحياناً، لا يقلُّ عن حالات الإعدام الميداني، لكن بدون دمٍ هذه المرّة. وكم من أناس اعتزلوا العمل العام، وانتبذوا لأنفسهم أمكنة قصيّةً في الهوامش، فراراً من تلك المعارك المشينة. ثانيةً، هل بدت لكم مفردة "مشينة" قاسية؟ لا، إنها أقل ما يمكن أن يقال في حال لوحتنا السوداء التي تودي بأي أمل.

في بدايات صيف 2011 اخترع بشار الأسد وزارة مستحدثة أطلق عليها "وزارة شؤون المصالحة الوطنية"، ستتحول بعد سنوات إلى هيئة، ويخبو أي ذكر لها. أُعطي المنصب للقومي السوري (طبيب عيون للمصادفة السعيدة) علي حيدر. طال هذا المنصب من سخرية السوريين المعارضين بقدر ما ناله من سخط الموالين الذين رؤوا أن أي معارض للأسد لا يستحق سوى الموت. جلّ ما فعلته الوزارة الهزيلة أنها كانت تعلن بين فترة وأخرى أن "الدولة السورية تفتح ذراعيها لاحتضان أبناء محافظة (كذا) للعودة إلى حضن الدولة"، بمعنى أنها صُمِمت لتكون آلة تدجين.

ما ذكرني بتلك الوزارة هو اسمها فقط، وليس الدور السخيف والتمثيلي الذي لعبته. ليخطر ببالي تالياً ضرورة خلق حالة مصالحة في صفوف الذين ما زالوا ينتمون لما بتنا ندعوه القيم الأولى للثورة. هل أدعو إلى هيئة مصالحة؟ ليس بالمعنى الإداري للكلمة، ولكن لنقل بأنها دعوة افتراضية لبث نوع من الروح التصالحية بين أبناء الهدف الواحد، هدف الانتقال بسوريا إلى ما يختاره السوريون مستقبلاً بعيداً عن الإكراه والاستبداد. دعوة لقليل من سعة الصدر والروح والعقل والقلب تجاه الهفوات، وبالتأكيد ليس تجاه من يحاول الترسيخ اليومي لاتجاهات مناوئة.

بتنا لا نحتمل ليس المختلف فحسب، بل وصديق الدرب في عديد من الحالات، حين نرى أنه ارتكب ما يستحق أن نُرديه. وكأننا امتلكنا آلية ذاتية الطاقة، أفقدتنا كل قدرة على التمييز والمحاكمة الرشيدة، لندخل في حالة هوجاء لن تبقي ولن تذر.

كانت أهم نجاحات الأسد الأب أنه تمكّن، خلال عقود حكمه الثلاثة، من تذرير المجتمع السوري، وهو سبيله الوحيد للحفاظ على السلطة. ثم نجح الابن بعد عام 2011 بسهولة بالغة في تذرير مجتمع الثورة. كان يكفيه إطلاق شائعة مدروسة ومحكمة كي ينساق جزء من هذا المجتمع خلفها، دون أن يحاكمها أو يتحقق من خلفياتها، لتصبح "العرب عربين" بحسب المثل الشعبي. وكما نجحت ثورة الاتصالات التقنية في جعل العالم قرية صغيرة، ففي الحالة السورية نجحت أكثر في جعل معظم السوريين في ساحة معارك بينية تثير البؤس، وتترك من يراقبها مصاباً باليأس.

حرّاس الدين وحرّاس القيم وحرّاس الثورة وحماة الوطنية السورية، ستجد من هؤلاء أينما ولَّيت وجهك. يستمدون قوتهم من سلطة مُتخيلة على الآخرين، بدا أنهم كانوا توّاقين إليها، للهجوم على بقعة صغيرة سوداء تبدّت في ساحة الآخر المختلف وأحياناً الحليف، حتى لو كانت كامل الساحة مليئة بالبياض. بياضٌ سيتم التعامي عنه، تحت وطأة شهوة الهجوم والتدمير. أرقب أحياناً هجومات على أشخاص تشير كل اتجاهاتهم، عبر سنوات، إلى النضج وصفاء السريرة، لكنهم وقعوا عندما ارتكبوا إحدى الكبائر، كاستخدام كلمة لم تلقَ وقعاً طيباً عند الآخرين. يتعامى أغلب هؤلاء عن كامل تاريخ تلك الشخصية، ويحملون سكاكينهم، وكل أسلحة التدمير بهدف سحق هذا المرتد الآثم.

أجل، بتنا لا نحتمل ليس المختلف فحسب، بل وصديق الدرب في عديد من الحالات، حين نرى أنه ارتكب ما يستحق أن نُرديه. وكأننا امتلكنا آلية ذاتية الطاقة، أفقدتنا كل قدرة على التمييز والمحاكمة الرشيدة، لندخل في حالة هوجاء لن تبقي ولن تذر. وأنا في كل ما أكتب هنا، لا أقصد المتصيدين المألوفين الذي أخذوا على عاتقهم، بشكل مستمر وأحياناً يومي، الدور التحطيمي لكل شيء.ولكني أشير إلى المشاركات الواسعة وغير العقلانية ممن يفترض بهم أنهم لا ينحون هذا المنحى. هذه الآلية المستمرة من التدمير الذاتي، التي ابتدأت شهوراً بعد انطلاق الثورة، أوصلتنا اليوم إلى هذه الحرب الأهلية المفتوحة.

تاريخياً، لطالما تصارع المختلفون فكرياً أو سياسياً. حدث ذلك في بلادنا خلال الاحتلال الفرنسي وما بعد الاستقلال. جرى الصراع على صفحات الجرائد أو على المنابر العامة، وغالباً تحت قبّة البرلمان، دون أن يمتلك معظم المختلفين إرادة التحطيم الكامل التي نمتلكها اليوم. هل سيتهمني أحد ما بأنني مريض مهجوس بالأسد، لو قلت أن نظامه وما بناه ورسّخه من تشوّهات خلال عقود، هو سبب ما نحن فيه اليوم في ساحات حروبنا الصغيرة تلك؟ أعلم أنه لن يكفيني الجزم لكم أنني لست كذلك، حتى لو حاولت.