يعرف الفيلسوف السوري صادق جلال العظم الربيع العربي بأنه "عودة السياسة إلى الناس وعودة الناس إلى السياسة" بعد فترة طويلة من الاغتراب والابتعاد بسبب المصادرة والاحتكار المديدين للشأن السياسي في المجتمعات العربية. ولاحظ الفيلسوف ظاهرة ميدان التحرير في مصر، ووصفها بأنها تجربة غير مسبوقة في التاريخ السياسي والاجتماعي العربي المعاصر، إذ كانت عبارة عن معارضة سياسية جماهيرية تتميز بأجواء كرنفالية. وعلى الرغم من عمليات البلطجة التي تعرض لها المتظاهرون، فإن هذا لم يمنع الناس من العودة إلى السياسة، وإلى الثقافة الإنسانية، إذ يهدف الربيع العربي، إلى جانب أهدافه المعلنة، إلى إعادة تموضع الثقافة العربية في الوضع الإنساني الراهن بعدما تراجع دورها لأسباب عديدة.
منذ وقت طويل والبلدان العربية لا تشهد أي استقرار سياسي مما أدى بالضرورة إلى تراجع الثقافة. فالثقافة تؤثر على السياسة بقدر ما تؤثر السياسة على الثقافة. يربط صادق جلال العظم، كونه فيلسوفًا وناقدًا للأنظمة الاستبدادية والدينية، بين الثقافة والسياسة، فالثقافة تجد في الثورات والحركات المدنية شيئًا ضروريًا لتحقيق التقدم، وعلى الرغم من أن الثقافة تكافح من أجل التحديث والاستفادة من العلم، فإنها نتاج جماعي، والثقافة الراقية هي ثقافة غير مقيدة ومستسلمة، قادرة على تحقيق قيم المجتمع المدني، حيث يفترض أن يكون الفرد مثقفًا وواعيًا بحقوقه ومتطلباته، خاصةً بعد تطور مفهوم الثقافة في القرن الثامن عشر، حيث انتقل معنى الثقافة من الأصل اليوناني (cultura) وهو العناية بالزراعة ورعاية الحقول، إلى مفهوم آخر مرتبط بالتربية والعقل. وقد ساد هذا التطور في المفهوم في أجواء تفاؤلية في الأوساط الثقافية مع بداية عصر التنوير، حيث تبنت الثقافة في مفهومها قدرة الإنسان على تحسين مصيره في الحياة. ويحدث ذلك من خلال السلطة التي تدير الممارسات السياسية والاجتماعية، التي تتيح للفرد تغيير واقعه. فالسياسة هي مرآة الواقع، في حين أن الثقافة هي التجربة البشرية المستمدة من الواقع.
إذا كان هناك تنوير يهودي ومسيحي، فمن الممكن أيضًا في الدين الإسلامي. ويشترط العظم لهذا التنوير ضرورة تخلص الإسلام من مراكز التفكير التقليدية
يعتبر العظم واحدًا من أكثر المجددين في النقد الثقافي، وقد ألَّف عدة كتب منها "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (1968) و"نقد الفكر الديني" و"ذهنية التحريم" و"ما بعد ذهنية التحريم". كما جادل في قضايا الفكر العربي والإسلامي ودعم الحداثة والديمقراطية، ودعا إلى التحرر من الأنظمة الاستبدادية والتخلص من التطرف الديني عن طريق التنوير الذي يمكن تحقيقه في العالم الإسلامي. وعلى الرغم من رأي العظم بأن الإسلام يفتقد خطوة نحو الحداثة بسبب عدم استعداد بعض المثقفين المسلمين لاتخاذ هذه الخطوة، فإنه لا يوجد عوائق أساسية لإحداث تنوير إسلامي، مشيرًا إلى أنّه إذا كان هناك تنوير يهودي ومسيحي، فمن الممكن أيضًا في الدين الإسلامي. ويشترط العظم لهذا التنوير ضرورة تخلص الإسلام من مراكز التفكير التقليدية التي تعتمد على التكرار والتحفيظ، وبالتالي فمن الممكن أن تنشأ أفكار جديدة ومثيرة للاهتمام بعيدة عن التشدد وتزييف الوعي، وبالنسبة للإسلام التاريخي، فإنه قادر على التكيف والتطور مع العصر، بخلاف الإسلام المتعصب عقائديًا الذي، ومن وجهة نظر العظم، يتعارض مع الحداثة وقيم المجتمع المدني، ويُرفض الدولة المدنية. ولذلك، يتسبب هذا التعصب الديني والعرقي في حروب كما في العراق، إذ يعتبر العظم أن الصراعات الدينية والعرقية والسياسية هي نتيجة للحكومات غير علمانية وتكنوقراطية تفتقر إلى المحافظة على المواطنة، ولم تتعامل بموضوعية مع الولاءات والمكونات الدينية والعرقية المختلفة في المجتمع.
غير أنه على الجماعة أن تتحمل المسؤولية لأجل تحقيق التغيير. فالسلطة الحاكمة، وفقًا للتنظير السياسي الفلسفي لحنا آرندت، نشأت مع نشوء الجماعة، وتختفي السلطة باختفاء الجماعة. وفي التراث الإسلامي يقال "كما تكونوا يولى عليكم". ومن المؤكد أن عائق التنوير يرتبط بالوضع السياسي، والعكس صحيح أيضًا. فالسلطة الحاكمة هي نتاج الثقافة الاجتماعية والسياسية السائدة، وإذا لم تُدر هذه السلطة من قبل أفراد يتمتعون بقيم النزاهة والشفافية والنزعة إلى الحرية، فلن تُدار الدولة بشكل ديمقراطي، ولن تكون محايدة تجاه جميع الاختلافات الدينية والعرقية والفكرية، بل وستحاول هذه الطبقة أن تُعِيد المواطنين إلى أفكارهم العصبية الدينية والقومية، وبذلك ستكون عائقًا كبيرًا أمام الحداثة والاستقرار. فالسلطة تستخدم قوتها لتطويع الأفراد وتنويمهم من خلال أدوات الهيمنة الثقافية (استخدام الدين والفن..) والمادية بما في ذلك العنف، وبذلك تنتج عقلاً كسولًا وجماهير غارقة في مشكلات الحياة اليومية من دون توفر مساحة آمنة للتفكير والنقد والشكوى.
إنّ "الحرية تستطيع أن تصارع وتناضل وتصبح قوة سياسية وتاريخية، ميشيل فوكو" والتاريخ له عمل، ورغم التحديات التي واجهتها الثورات العربية والتي تراوحت بين الفشل والنجاح الجزئي، فقد أحدثت الثورات العربية غرضها ومعناها من خلال نشأتها التاريخية بعدما عادت الجماهير العربية إلى الميدان، ولا تزال هذه العودة تحمل معنىً كبيراً في الثقافة والسياسية العربية المعاصرة. وهي "عودة ربيعية"، كما قرأها العظم الذي وقف إلى جانبها من بوابة الثقافة التي يجب أن تنصر الثورة. فالثورة عند حنا أرندت هي بداية لقصة جديدة وحياة جديدة، والثقافة تحتاج دائمًا إلى مثل هذا الولادة لتجديد أدواتها وألسنتها، ولا يمكن أن يكون هنالك ولادة من دون ألم ومعاناة.
كانت الثورة بالنسبة له ثورة داخل ثورة، وجد في هتافاتها خطابًا حضاريًا ومستقبليًا لمجتمع متقدم جديد يبدأ بهدم فكرة التقديس والتبجيل والتوريث من الذهنية العربية
لقد احتمل العظم هذا الألم كسائر السوريين في زمن مأساوي، وفي أثناء ما كانت حلب تصارع ضد دمارها وعنف النظام الأسدي وحلفائه في عام ٢٠١٦ فارق الفيلسوف السوري الحياة في مشفى صغير في برلين بعيداً عن وطنه. لكن موقفه كان واضحاً منذ البداية، وكانت الثورة بالنسبة له ثورة داخل ثورة، وجد في هتافاتها خطابًا حضاريًا ومستقبليًا لمجتمع متقدم جديد يبدأ بهدم فكرة التقديس والتبجيل والتوريث من الذهنية العربية. وكان الربيع السوري بالنسبة له لحظة تاريخية لاسترداد الجمهورية من السلالة الحاكمة إلى الأبد، وهي لحظة منتظرة منذ زمن بعيد لم يقدر جيل الفيلسوف على تحقيقها.