في 21 من شباط 2022 اعترف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإقليمي دونيتسك ولوغانسك الشعبية كدولتين مستقلتين عن أوكرانيا، رغم أنهما ومن وجهة نظر العاصمة الأوكرانية كييف عبارة عن أقاليم انفصالية مسيطر عليها من قبل جماعات إرهابية. وفي 24 من شباط من العام نفسه غزت القوات الروسية أوكرانيا، ورافق عملية الغزو حملة دعائية معادية للغرب، وتهديدات بالتصعيد النووي فصار العالم كلّه مرتهناً في مستقبل هذه الحرب، إذ لم تعد شأناً روسياً-أوكرانياً بعدما انخرط بها المعسكر الغربي.
وبما أن لكل حرب جذوراً تاريخية فلطالما شككت روسيا باستقلال أوكرانيا عام 1991 عن الاتحاد السوفييتي وابتعدت تدريجياً عن روسيا، الأمر الذي أزعج الكرملين. ومن خلال التفكير في كل نزاع عسكري على أنه تنفيذ أو استمرار لمصالح سياسية (النية السياسية هي النهاية، والحرب هي الوسيلة، ولا يمكن التفكير في الوسيلة أبداً من دون نهاية، كارل فون كلاوزفيتز جنرال ومؤرخ حربي روسي).
ووفقاً للنية الروسية فإن الحرب ضد أوكرانيا أشبه بعملية خاصة تهدف إلى نزع السلاح من أوكرانيا، وتحريرها من الحكومة العميلة للغرب، وبوابة لعودة الماضي الروسي السوفييتي الذي أسهم الاتحاد الأوروبي في تدميره وفق الرواية الروسية لتبرير مزاعم الحرب التي يقودها بوتين ويقدمها في الإعلام الرسمي الروسي كأنها معركة من أجل الخير الخالص ضد أعداء أجانب.
يتزامن ذلك مع رغبة الإدارة الروسية في "تطهير مجالها السياسي من الخونة والحثالة الذين يعادون وجود روسيا قوية، وسواء كانوا من داخل روسيا أو خارجها يجب سحقهم"، كما قال بوتين مع بداية الحرب في 16 من آذار الماضي، وأضاف: "تطهير المجتمع من الحثالة لن يؤدي إلا إلى تقوية البلاد"، وهذا في سياق رؤية بوتين لروسيا الموحدة التي ينكر من خلالها حق الدول المجاورة في الاستقلال الذاتي، وبالتالي رفض ميلها إلى ناحية الديمقراطية الغربية.
عندما شنّ بوتين حربه ضد أوكرانيا وجدت أوروبا نفسها أمام نقطة تحوّل تاريخية. ففي العام 2014 وقعت أوكرانيا مع الاتحاد الأوروبي اتفاقية مشتركة تعتبر واحدة من أهم الاتفاقيات التي وقعها الاتحاد الأوروبي مع دولة ثالثة ليست ضمن الدول الأعضاء، وكانت هذه الاتفاقية بداية لعملية واسعة لدمج أوكرانيا في دول الاتحاد الأوروبي، فأوروبا يمكن أن تكون أقوى بضم أوكرانيا، لكن وقبل ذلك على أوكرانيا أن تنفذ نهجاً إصلاحياً لا سيما وأنها تعاني من الفساد الإداري والقضائي، وبدعم من الاتحاد الأوروبي سعت إلى إصلاحات ديمقراطية من خلال بناء هياكل إدارية لمكافحة الفساد، وأخرى قضائية تعزز موقفها الساعي لعملية إدماج سريعة في الاتحاد.
وصحيح أن انضمامها يحظى بقبول واسع داخل أروقة السياسة الأوروبية إلا أنه يتوجب على أوكرانيا أن تبذل جهوداً أكبر في إصلاح البلاد كي تكون مرشحاَ مؤهلاً لهذا الانضمام.
بعد الغزو الروسي تغيّر الموقف الأوروبي، وبعد أيام قليلة من الغزو الروسي وافق على ترشح أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهذا الترشح حمل دلالة رمزية، إذ يعني أن أوكرانيا تمثل بعداً جيوسياسياً لأوروبا. ورسالة من دول الأعضاء للكرملين بأن أوكرانيا ليست جزءاً من النفوذ الروسي
بعد الغزو الروسي تغيّر الموقف الأوروبي، وبعد أيام قليلة من الغزو الروسي وافق على ترشح أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهذا الترشح حمل دلالة رمزية، إذ يعني أن أوكرانيا تمثل بعداً جيوسياسياً لأوروبا. ورسالة من دول الأعضاء للكرملين بأن أوكرانيا ليست جزءاً من النفوذ الروسي الذي استخدم القوة العسكرية لمنع أوكرانيا من الاندماج في الحلف الغربي الذي اتخذ موقفاً واضحاً من هذه الحرب، واعترف بحق أوكرانيا بالدفاع عن نفسها وباستقلالها ووحدة أراضيها، واعتبر الحرب الروسية غير عادلة، والتدخل بالقوة في أوكرانيا مغامرة إمبريالية أجبرت ملايين الناس على الفرار من مدنهم المدمرة نحو أوروبا الغربية، وبات من الصعب عودتهم في الوقت القريب نظراً للدمار الحاصل في مدنهم، وهذا يعني تغييراً ديمغرافياً جديداً في أوروبا لم تشهده منذ الحرب العالمية الثانية.
وعلى الرغم من عدم انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي بعد، مع ذلك تلقى اللاجئون الأوكرانيون داخل الدول الأوروبية معاملة مواطني الاتحاد الأوروبي، ووجود عدد كبير من الأوكرانيين اليوم في المنافي الأوروبية يعني بالضرورة بأنهم صاروا جزءاً منه.
قد لا يعرف أحد كيف يمكن أن تنتهي الحرب الأوكرانية التي يسوق لها في الإعلام الغربي كحرب أوروبية، وكذلك يصعب في المستقبل تحديد إذا ما كانت أوكرانيا بأكملها سوف تنضم إلى الاتحاد الأوروبي لا سيما بعد اقتطاع جزء من أراضيها من قبل الجيش الروسي والانفصاليين الأوكران، لكن وبالنسبة لكثير من الأوكرانيين والأوروبيين لم تعد أوكرانيا عبارة عن حاجز بين روسيا والغرب، ولا عبارة عن حديقة خلفية لروسيا، بل على العكس من ذلك تمثل اليوم موضوعاًُ سياسياً يتعلق بوجود أوكرانيا التاريخي، ومستقبل شكل دولتها، وهذا له آفاق مستقبلية تتعلق بالاتحاد الأوروبي.
فمن ناحية ترى الغالبية الأوكرانية ضرورة هذه الانضمام، ومن ناحية ثانية فإن دول الاتحاد الأوروبي دعمت حكومة كييف بمساعدات اقتصادية ومالية وإنسانية وعسكرية مما جعلها خط مواجهة أول ضد روسيا، ولهذا تبعات محلية وأخرى إقليمية. فالحرب كارثة محلية دمرت أوكرانيا ووحدها المساعدات الأوروبية من ستعيد بناءها، أما على المستوى الإقليمي فالحرب ألقت تبعاتها على دول الأعضاء، وإطالة أمد الحرب فرض تكاليف باهظة على هذه الدول، وأحدث أزمة في الطاقة، وفرض إجماعاً أوروبياً بأنّ بوتين هو المسؤول اليوم عن تدمير نظام الأمن الموجود داخل أوروبا الذي استقر منذ نهاية الحرب الباردة مع سقوط جدار برلين. وإنّ إنهاء الحرب في النهاية يعد مصلحة جوهرية للاتحاد الأوروبي.