كان الشعر العربي من قبل شآمياً، كما كان النحو بصْرياً أو كوفياً، مدرسة حُملَ عليها المشرق وذائقته. وما من شاعر عربي كبير، في الأزمنة كافة، إلا وتفجّرت تجربته وأينعت في دمشق. حتى العراق ومصر كانتا تصنّفان منتجهما الشعري وفق ذلك المعيار. وحتى وقت قريب، كان أمير الشعراء يحصل على وسامه ذاك من دمشق، سواء جاء من المشرق أو المغرب. لكن حين باتت دمشق مجرّد عاصمة ”محليّة“ مثلها مثل غيرها، مع ما سمّي بمرحلة الاستقلال الوطنية العربية، التفت الآخرون إلى عوالمهم الجديدة، بينما بقي الشعراء السوريون يبحثون عن سبيل ما لتحقيق أحلامهم ذات الآفاق العربية المفتوحة.
ذهب ذلك الزمن الذي كانت تقود فيه قصيدة لشاعر سوري وعي الجماهير العربية القومي، وتخرج المظاهرات من الشام لبغدان إلى مصر فتطوان، ليأتي بعده زمن القميص الضيّق، إلى زمن آخر يتحكّم فيه السياسي بالإبداعي، ويغلق ميشيل عفلق وزير المعارف الذي جلبته العملية السياسية، معهد الموسيقى العربية في دمشق، بذريعة ضبط الميزانية، بينما كان السبب الحقيقي هو الزاوية التي كان السياسيون ينظرون منها إلى الإبداع في سوريا، على أنه ينبغي أن يكون مسخّراً لخدمة السياسي، وليس للنهوض بالفنون ومواصلة الدور الريادي لسوريا في فضائها العربي.
ترك الشعراء، الجدد آنذاك، للسياسي أن يلعب في ملعبه الصغير، وذهبوا يبشّرون بما ظلوا يؤمنون به، عمر أبو ريشة ونزار قباني وبدوي الجبل كأمثلة بارزة.
وأن يناقش برلمان في دولة عربية قصيدة لشاعر، قبل أن يفعل الكنيست الإسرائيلي ذلك مع قصيدة محمود درويش ”عابرون في كلام عابر“ بعقود، لهو حدثٌ كان وسيظلّ أكبر من أن يتناوله المرء تناولاً عابراً، فالشعر لدى السوريين، حتى لو أريد له أن ينمسخ إلى مجرد جواز سفر للعبور إلى الأوساط ليحقق مصالح زهيدة لن تدوم، يبقى بوصلة للوعي السوري ومرآة تعكس ازدهارهم أو انحطاط واقعهم.
حتى وصلنا إلى تلك اللحظة في الثاني من نيسان عام 1955، كان العالم قد تغيّر تماماً من حول السوريين، حين وقف حسين الشعباني النائب عن حلب، تحت قبة البرلمان السوري، مطالباً بمساءلة وزير الخارجية عن قصيدة كتبها أحد موظفيه، وكان ذلك الموظف هو نزار قباني ولا أحد غيره.
لا بأس بالديمقراطية إذ تناقش كلّ شأن عام، إلا أنها بدلاً من توجيه نقدها اللاذع للسلطات الديكتاتورية العسكرية التي كانت تحكم البلاد، صبّت جام غضبها على الشعر، وخطب النائب والشيخ مصطفى الزرقا بدوره ممعناً في توجيه الاتهام لوزير الخارجية وموظفه قباني، واصفاً قصيدة الأخير بالداعرة الفاجرة، قبل أن يقرأها كاملة أمام زملائه من النواب في جلسة رسمية. وكان هدف أولئك حينها قمع ذلك الموظف في وزارة الخارجية وثنيه عن الأسلوبية التي كان يؤسس لها بمحاربته في لقمة عيشه، ولو أنه استجاب، لما لما كانت هناك قصيدة نزارية أثرت في أجيال من الشعراء السوريين والعرب من المحيط إلى الخليج.
دعك من اسم القصيدة الذي أراد له نزار أن يكون مثيراً، وانظر ماذا قال في ثناياها:
”ما الذي يفعله قرص ضياء؟
ببلادي
ببلاد الأنبياء
وبلاد البسطاء
ماضغي التبغ وتجار الخدر
ما الذي يفعله فينا القمر؟
فنضيع الكبرياء“
لم ينتصر السياسي والأيديولوجي على الشاعر آنذاك، لكنه بقي يضمر له الكثير من الحقد، يتربّص به حتى تحين فرصة مناسبة قادمة. ولكن لم يمض عامان، على حادثة البرلمان وقصيدة نزار، حتى ظهرت مجلة ”شعر“ التي أسسها سوريون مهاجرون إلى لبنان يقودهم يوسف الخال، ومعه مجموعة شعراء من بينهم أدونيس وفؤاد رفقة استثمروا تلك الحالة في دمشق لإنشاء ما يشبه ”تحالف الأقليات الشعري“. رغم أن برلمان دمشق، ولا أي برلمان آخر، لم يناقش قصيدة لأي من هؤلاء ولم يطالب بمحاسبتهم ولم يكترث بما كانوا يكتبونه.
وبينما كان نزار هو الضحية المحتملة، كان هؤلاء هم الذين يطالبون بالثأر لأنفسهم من جريمة لم تقع. وبينما كان نزار يكتب عن الناس وحياتهم وما يعتمل فيها من فوران، كان هؤلاء ينطلقون من قصائد المديح التي انتهوا إليها.
صحيح أنهم حاولوا جلب منجز الغرب المتقدّم على مستوى تطوير القصيدة، لكنهم كانوا مدفوعين بقوة برغبة جامحة لخلق رد فعل على ما يحصل في عاصمة الأمويين.
وكما كانت الانقلابات العسكرية تقع على قدم وساق في العواصم العربية، اتُخذَ قرار بانقلابٍ عسكري ”شعري“ في بيروت باسم قصيدة النثر وأطروحة سوزان برنار والتبشير بها، وتمت سرقة ما كان قد أسس فعلاً في دمشق وحلب، والقول إنه يولد الآن في بيروت. مع أن قصيدة النثر كانت قد ولدت في سوريا منذ نهاية الثلاثينيات والأربعينيات على يد إسماعيل العامود، وسليمان عواد، وعلي الناصر صاحب ديوان ”الظَّمأ“ الذي صدر عام 1931، وأورخان ميسر، وخير الدين الأسدي الذي أذَاعَ مُعْظَمَ قصائد ديوانه النثري ”أغاني القُبَّة“ من إذاعَةِ طهران في الأربعينيَّات، ومع هؤلاء بالتأكيد حميد بن مراد بن حسن خضر أو حميد أرغون، وكلاهما كانا اسمين للشاعر السوري الكبير حامد بدرخان الذي ترك أحد عشر ديواناً باللغة العربية وأكثر منها بالتركية والكردية
”تامارا
لا تغلقي عينيك
فأنا ما زلت أتابع سفري الطويل
أبحث عن عالم خبأه الزمان في عينيك
تامارا
هذا الدرب الطويل
أمشيه بلا وحدة
ترافقني كلماتك
المتوسلة للغد
و نشيش المطر في حذائي المهترئ
يسري بردا في أوصالي
ينتش قدمي لمنعي من السير
اتركي عينيك
و سمّريهما على جدران الزمن
فقد أعود ذات يوم
و أحبكِ“
وبدلاً من النظر إلى منجز الشعراء السوريين ذهب منظّرو مجلة "شعر“ إلى الاستناد إلى ”نشيد الإنشاد“ في العهد القديم ومقارنته مع شعر سان جون بيرس، لفبركة مرجعية بعيدة تحاول محو ما قام به أهل الشام، ولإنشاء قوس يقفز فوقهم.
حاولوا تصوير شعر ”الرؤية - الرؤيا“، وكأنه يرى النور لأول مرة، متجاهلين عن قصد، التراث النثري العربي المكبّر جداً والأقرب إلى روح قصيدة النثر من سواه، ومستورداً مفاهيم الأدب الأوروبي والأميركي ونماذجهما، من رامبو إلى لوثريامون. وكان ذلك في سياق مشروع الحداثة العربية الواسع والإشكالي، الذي أراد لها أن تكون انقلابية، لا نتاجاً تصاعدياً يسير وفق التطور الطبيعي للشعر العربي.
وكان يقال زوراً أيضاً أن القصيدة التقليدية العربية آنذاك، قد وصلت إلى انحطاط في واقعها، رغم أن ذلك الزمن كان يعيش فيه بدوي الجبل والجواهري وأبو ريشة ونزار وآخرون.
وعندما يقال إن تلك الحركة تلقّت دعماً كبيراً من دوائر معروفة في الغرب، لتنشيط التحديث الثقافي والفكري العربي، الأمر الذي لم يعد سرّاً، فهو يحدث في كل مكان وزمان، يحضر السؤال عن الهدف الذي تم توجيه ذلك الدعم نحوه، لا عن نواياه.
لا يمكن القول إن جميع أولئك الشعراء كانوا متماهين تماماً مع انقلاب البعث، لكنهم في الأغلب كانوا رموزه وأدواته في السيطرة على المناخ الثقافي السوري، لا سيما وأنهم ساروا معه في مشاريعه ومن بينها تأسيس ”اتحاد الكتاب العرب“
كان الانقلاب الدموي يجري في دمشق في العام 1963، وكان من الطبيعي أن يتلاقى الانقلابان ضد خصم واحد، ولابد من أن ينتج الانقلابان حالة تملأ الفراغ الذي خلّفه القمع المشترك و“التكفير الأدبي“ الذي بدأ يتحوّل إلى ظاهرة قادها من قالوا عن أنفسهم إنهم ”علمانيون“.
ولأن من طبيعة الانقلاب الهدمُ، والقطيعة، وتحطيم كل ما هو قائم، فقد كان ذلك كلّه عنصراً أساسياً في أدبيات ذلك المسار، أما هموم قصيدة نزار ”الشعبية“ التي ناقشها البرلمان فكانت على النقيض تماماً من هموم ”شعر“ وتحالفها، فقصيدة النثر التي بشّرت بها كانت من ملامحها ”المجانية“ وأنها ”لا غاية لها خارج ذاتها“ ومن بين قصاصات تلك الفترة كانت مقدمة أنسي الحاج لديوانه ”لن“ التي جاء فيها ”لتكون قصيدة النثر قصيدة نثر، أي قصيدة حقا، لا قطعة نثرية فنية، أو مُحمّلة بالشعر، شروط ثلاثة: الإيجاز (الاختصار)، التوهّج، والمجانية“.
بعيداً عن قراءة السطح الهندسي للكلمات، كانت تلك أصولية جديدة تتأسّس، ومذهباً عنفيّاً تقليدياً آخر يولد. لكن هذا النمط كان في الوقت الذي يصف نفسه فيه ويقولب ذاته ويضع لها المعايير، إنما كان ينزع الشرعية عن غيره ويفتح الباب، وأي باب!. قرأ أدونيس مقدمة أنسي الحاج تلك وأرسل إليه رسالة من باريس عام 1961 كتب له فيها ”يُسمينا الإرثيون (الفوضى). يسموننا أيضا (الخيانة). هكذا نبدو في أعينهم. للمرة الأولى، لا يخطئون النظر. فالحق أننا نعلن فوضانا وخيانتنا.في ذلك العالم الممغنط بالجيف المقدّسة. ولا نكتفي، بل نقنع الجيوش بالخيانة، كما تقول: يعني، نقنعهم بالفوضى أيضا“.
وبدأت الفوضى كما قال.
ومثلما انقسمت الحركة إلى رؤيوية وشفوية، وفق مؤرخين أدبيين ونقاد اشتغلوا بتمحيص على رصد تلك اللحظات، انقسم المتفاعلون معها إلى رافضين جذرياً، حتى وإن كانوا حداثويين، أو مستسلمين مستكينين سائرين في ركبها، حتى وإن كانوا في كثير من الأحيان تقليدييين عاجزين عن إنتاج نصوص وأفكار وأخيلة جديدة.
التعايش مع الانقلاب
ماهي إلا أعوام قليلة حتى فرض السياسي والأيديولوجي، مجدّداً، رأيه بالقوة سواء عبر المناخ القمعي الذي جلبته الوحدة مع مصر، مستغلاً وجدان السوريين ذاته الذي بشّر به الشعراء في البدء، ببلاد عربية واحدة تشع حضارة من جديد. ومن ثمّ جاء الانقلاب العسكري التالي الذي أتى بالبعث على ظهور الدبابات، وهذه المرة لم يكتف بإغلاق معهد موسيقي بل أغلق بوابات الحياة العامة والإبداع كلها وفي مقدمتها الشعر.
علي الجندي ومحمد عمران وممدوح عدوان وفايز خضور وشوقي بغدادي وعلي كنعان وخليل الخوري البعثي الذي هرب من بعث دمشق إلى بعث بغداد، والفلسطيني فوّاز عيد وآخرون ممن بقي في سوريا، كانت قصائدهم تجسيداً دقيقاً لمناخ الستينيات السوري، السياسي والاجتماعي والأمني.
"وداعاً يا ديار العزّ والمنفى،
ويا قبر الهشيم الرطب،
يا لحم الأعاصير الخرافية
وها أنذا أجيء إليك يا بلدي من الصمت
محملة غصون شبابي المضنى بأثمار تفيض بنكهة الموت“
(علي الجندي - ”الحمى الترابية“)
لكن اقرأْ ما كتبه ممدوح عدوان بصراحة نادرة في مقدمة كتابه ”الظل الأخضر“ في السابع عشر من أيلول عام 1967 والذي أصدرته وزراة الثقافة والسياحة والإرشاد القومي في دمشق ” إن الشعر يُكتَب لأنه ليس بزمني. إنه قادر على خلق زمنه، والشاعر يكتب لأنه يصبح مثل حلاق الملك الذي كان الوحيد الذي يعرف حقيقة أذني الملك بحكم مهنته وللملك أذنان كأذني حمار“. ثم ”لكن هذا الفن إن صحّت التسمية قد تحوّل إلى وسيلة لتعطيل قدرة إنساننا العربي على التفكير والتطور. إن القرئ لم يواجه بالحقيقة بعد. ولذلك ضاع الشعر والقارئ معاً. ولا بد من المواجهة والاحتمال. لابد من الصبر وبذل الجهود للوصول إلى فن حقيقي من خلال قارئ حقيقي“.
ورغم أن عدوان كان أصدق أبناء ذلك الجيل، تعبيراً عن رفضه حتى للقارئ. إلا أنه عرف أن ذلك الزمن لم يكن زمن شعر ينتب في تربة الحرية، ويقدّم الجديد، وستجد الخنساء وحانة الخمّار التي تغنى بها عمر الخيام وعمامة الحجّاج حاضرة أيضاً في كتاب عدوان هذا الذي كتب له المقدمة السالفة الذكر. فأي جيل شعري قدّمت لنا الستينيات؟
وحده فايز خضور بدا مختلفاً في ذلك الوقت، اختلافه تشابك مع تجربة محمود السيد، وكان ”الظل وحارس المقبرة“ ديوان خضور الأول الصادر في العام 1966 مفصلاً بين ما كان يجري في دمشق وذاك الذي كان يدور في بيروت.
وقد يسأل سائل لماذا لم يحتجّ الذين بقوا في دمشق آنذاك على القمع والعنف والتأميم القسري الذي مورس وسلب السلطات لكل مافي الحياة الاجتماعية من مضامين الحرية والعيش الكريم وسواها من الأبجديات التي لا يحتاجها الشاعر وحده، بل الإنسان أي إنسان؟.
لقد ابتدعوا أسلوباً في الكتابة، يعفيهم من مسؤولية أخلاقية ووطنية وجد غيرهم نفسه ملزماً بها، وهؤلاء أنفسهم كانوا بعد نهاية ”دوام الشاعر“، يسارعون إلى تبديل ثيابهم ولبس الثياب نفسها التي يرتديها رجال الانقلاب ويذهبون إلى العالم الذي خلقه ليسهموا فيه بهمّة عالية.
يتلمّس مثل هذا الأثر الكاتب والناقد السوري صالح الرزوق الذي كتب مقالاً مثيراً للاهتمام بعنون ”ظاهرة جيل الحداثة الأول في الشعر السوري“ جاء فيه ” لقد كانت شعرية جيل الستينات عبارة عن ردة فعل على الانقلابات العسكرية التي غيّرت من وجه المجتمع السوري دون أن تلمس بنيته العميقة“.
فهل كانت تلك الشعرية انسجاماً مع الانقلاب، تماهياً معه، أم رفضاً له وثورة ضده؟
لا يمكن القول إن هؤلاء جميعاً كانوا متماهين تماماً مع انقلاب البعث، لكنهم في الأغلب كانوا رموزه وأدواته في السيطرة على المناخ الثقافي السوري، لا سيما وأنهم ساروا معه في مشاريعه ومن بينها تأسيس ”اتحاد الكتاب العرب“ والمشاركة في قيادته عبر مناصب تولاها عدد منهم في الكيان الذي شكّل بالنسبة إليهم جبهة تقدمية مبكّرة كتلك التي سوف يؤسسها حافظ الأسد حين يصل إلى السلطة.
انظرْ إلى المحتوى في قصيدة الستينيات، سواء كانت في قصيدة انقلاب ”مجلة شعر“ أو ”انقلاب“ الداخل السوري، لن تجد جديداً سوى إعادة نبش التراث العربي ذاته، والتحرّش به وإعادة التفكير فيه، وفي مرات كثيرة الاتكاء عليه واستلهامه. لكن حدث ذلك بعد أن أغلقوا ذلك البرلمان الذي ناقش قصيدة نزار ولم يتخذ بحقه حكماً بالإعدام أو النفي أو السجن أو التكفير، كما فعل ”شعراء الانقلاب“ لاحقاً بهذه الصورة أو تلك.
فأين هي المواكبة النقدية ”التأريخية“ لذلك المسار، بعيداً عن العاطفية والإغراق في درس النص وبنيته عوضاً عن البحث في المشهد المحيط كله وفي الحالات كافّة وما ستقود إليه لاحقاً في التأثير على الشعر السوري.
وكل ذلك كان يحدث قبل أن ندخل في السبعينات، الزمن الإشكالي الأشد تعقيداً أمام القصيدة والذات السوريتين معاً، بعد أن عزّز الانقلاب أركانه.