عادة، يبحث مشاهدو الأعمال الدرامية التي تعالج قضية راهنة، ذات ديمومة، كالتسلط والديكتاتورية، عن تقاطعات بين الحكاية والشخصيات في الدراما، وشخصيات حقيقية، يعيشون تحت وطأة حكمها وفظاعاتها.
يعرفُ صناع الترفيه أن هذه الخاصية البشرية تستفيق هنا، فيلعبون عليها ومن خلالها، ليجذبوا جمهوراً أوسع، لا يتردد بدوره في الانضمام إلى طقس التماهي الافتراضي، بين الدراما وبين الواقع.
في ثيمة "الحكم"، وما ينتج عنه، من صعود وهبوط شخصيات في حكاياته، يمكن العثور على أعمال كثيرة، حول العالم، تبدأ من المسرح اليوناني ولا تنتهي بتراجيديات شيكسبير، وقد اعتمد مؤلفو هذه الأعمال الكلاسيكية على الشخصيات المحورية بمفردها، وجعلوا منها النماذج التي تصعد، ثم تنكسر وتتداعى.
وكلما شهدنا في زمننا الحالي محاكاة لواحدة من هذه الأعمال، كما فعل المخرج الياباني أكيرا كيروساوا في محاكاته الفيلمية "رن" لمسرحية "الملك لير"، التفتت مداركنا نحو مفهوم الشخصية وتحولاتها، بين الذرا وبين القيعان، التي تنتقل فيما بينها، بالاستناد إلى تكوينها، وردود أفعالها، تجاه ما تواجهه من عقبات في مسار حياتها، تأتي من قدرها، أو تأتي من خطة مسبقة أعدتها الآلهة لها.
إننا نبحث عن إضافات مبتكرة، يقدمها أولئك المخرجون، وهم يعيدون إنتاج الحكايات المعروفة، ليطرحوا عبرها تصورات معاصرة، تتعلق بحياتنا الراهنة.
المشاهد السوري المتشوق لرؤية بلده كقصة وشخوص في الدراما العالمية سيجد في تصرفات المستشارة الدكتاتور كثيراً من ملامح وممارسات بشار الأسد وزوجته أسماء
ويحدث أن يخرج علينا أحد ما، بمحاولة لجمع الطغاة المعروفين في شخصية واحدة، فيوحي لنا بهذا من خلال ملامحها ومن خلال أقوالها وأفعالها. وهذا ما فعله الجورجي تنكيز أبولادزة في فيلمه "الندم" وما فعله لاري تشارلز في فيلم "الديكتاتور".
لكن التجارب السياسية الراهنة حول العالم، ومع تغير المفاهيم، والعلاقات بين الدول والقوى السياسية، من الحدود الإقليمية الضيقة إلى النظام العالمي، تتطلب من مبتكري الحبكات الدرامية أن يرتفعوا قليلاً عما بين أيديهم، ليبحثوا عن مقاربات راهنة ترى المسافة الزمنية بين ديكتاتوريي الأزمنة السالفة، ونظرائهم في زمننا الحالي، فأغلب طغاة هذه الأيام، ليسوا شخصيات تعيش صراعات داخلية كما ينبغي في العرف الدرامي، بل هم أقرب إلى المهرجين، وربما بقليل من الجرأة، يمكن القول إنهم زعماء قنواتهم، على تطبيق تيك توك، الذين يحدثونك عن جيوشهم!
هذا النموذج من المتسلطين هو ما يدفع به إلى الواجهة مسلسل "النظام" (The Regime) الذي بثته قبل فترة وجيزة شبكة (اتش بي او) العالمية، من خلال حبكة مختلفة، تعتمد أسلوب جمع الصفات من شخصيات واقعية، وضخها في شخصية متخيلة ومحددة.
التهتك الذي ظهرت عليه شخصية المستشارة إيلينا فيرنهام التي قدمتها الممثلة البريطانية كيت وينسلت، لا يجعل المشاهد يركز بكل طاقة حواسه على اكتشاف مكنوناتها، فهي واضحة لدرجة الهزال والسذاجة، لكنه يريد منه أن ينظر في الإطار الذي تتحرك ضمنه، وأن يربط بين داخل الدولة وخارجها، كي يصل إلى إدراك بؤرة القوة المسيطرة التي تتحكم بكل ما يجري.
تبعاً لهذا، فإن إدارة الحكاية تبدأ من مقولة "لكل زمان دولة ورجال"، أي إن دولة ورجال ونساء هذا العصر، لن يكونوا أصحاب نزعات مختلفة أو متمردة، كما يصور لنا التاريخ ممارسات بعض الطغاة، ولاسيما شذوذهم وغرائبية سلوكهم، بل إن على الراهنين أن يكونوا منضبطين، وفق قواعد مرسومة لهم، هي تلك التي وضعها النظام.
ما نذكره هنا يعرفه غالبية الناس، ولكنهم لا يعرفون مقدار صعوبة أن تصنع عملاً درامياً عنه، دون أن يتورط صُناعه في الميلان نحو التجارب المحلية. ولهذا يمكن اعتبار هذا المسلسل القصير، علامة مهمة في سياقه، فهو يجمع في جوانبه ملامح بلاد شتى وصوراً لقادة مختلفين، ويسجل له أنه يُبطل من السرديات الإعلامية السائدة الادعاءات المتكررة عن أن الجنوب (بلدان العالم الثالث) هي الفضاء الذي تظهر فيه الديكتاتوريات فقط، حيث تدور الحكاية هنا في بلد غير محدد، ولكنه جغرافيا يقع في وسط أوروبا، ويتشابه في التفاصيل مع كافة بلدانها.
المشاهد السوري المتشوق لرؤية بلده كقصة وشخوص في الدراما العالمية، سيجد في تصرفات المستشارة الدكتاتور كثيراً من ملامح وممارسات بشار الأسد وزوجته أسماء، ولاسيما حالة إنكارهما الدائم لوجود ثورة تستهدف نظام العائلة الأسدية، كما أنه سيعقد مقارنات مثيرة بين أفراد الحاشية ورجالات القصر ونظرائهم في الجماعة الأسدية، ممن بقوا في صف النظام أو خرجوا عليه.
لكن أهم ما سيتوقف عنده السوري الذي يعيش مأساة لم تنته، هو تشابه حكايته مع ما جرى في هذه الدولة، فبعد أن أصبح التغيير أمراً واقعاً، من خلال استيلاء الثوار على القصر، وهروب المرأة المتسلطة، لن تحتاج القوى الفاعلة في النظام الدولي جهداً كبيراً، في إعادتها إلى كرسي الحكم، بموجب صفقة تضمن للولايات المتحدة أن تعود للتحكم بموارد البلاد، من الكوبالت وغيره من الثروات.
يجول المسلسل وعلى صغره (6 حلقات) في طبقات الأفكار، التي تطرح عادة في النقاشات حيال مصائر البلدان والأنظمة السياسية، كمفهوم الاستقلال السياسي، وعلى ماذا يبنى، وينظر في آليات قضم الديموقراطية في بلدان عانت من أزمات التحول نحو التسلطية، لكنه لا يبدو قاتماً كديستوبيا، بل هو أقرب إلى محاكاة ساخرة، تستحوذ هزلية الشخصية الرئيسة فيها على حصة أساسية في المتابعة، لكنها لا تستولي على البطولة المطلقة، طالما أنها تطأطئ رأسها عند إملاءات متعددة، كأن يتحكم بها شخص ميت هو والدها، (كم تشبه هذه النقطة قصة حافظ الأسد الخالد وتحكمه بسوريا من قبره)، وأن يتلاعب بها بعض رجال الحاشية، وأنها هي تقوم بالأمر ذاته مع آخرين، وسط حلبة مبهرجة، تبدو وكأنها سيرك مفتوح بحجم بلد كامل!
النظام (The Regime، المملكة المتحدة - الولايات المتحدة /2024). إنتاج شبكة HBO، كتابة: ويل تريسي. إخراج ستيفن فريرز وجيسيكا هوبز. بطولة: كيت وينسلت، ماتياس شونارتس.