في سلسلتها الوثائقية (كيف تصبح طاغية) قدمت شبكة نتفلكس قبل عامين نماذج لشخصيات من التاريخ المعاصر اعتبرتها نماذج للطغاة، بدءا من هتلر وستالين وماو وصولا إلى كيم إيل سونغ وصدام حسين وعيدي أمين والقذافي، واعتبرت أن سيرة هؤلاء تقدم (دروسا) في الطغيان، وفي بناء النظام الاستبدادي والسيطرة على الناس والسلطة.
لم يقدم منتجو السلسلة أسبابا لاختيار هذه الشخصيات دون سواها لتكون نماذج للطغيان، لكن يبدو أن للأمر علاقة بالمخيال الغربي وكيفية بناء تقييمه الأخلاقي والسياسي، والشبكة المعقدة من المصالح والدعاية والمعتقدات المسبقة التي تسيطر على الفن السياسي وعلى السرد التاريخي للأحداث وسير الزعماء، وهذه جميعا تخضع للجدل وربما التشكيك بالدوافع والغايات، وهي على كل حال ليست موضع اهتمامنا الآن، فما يعنينا من الصور النمطية التي حملتها هذه السلسلة، هو اختيارها شخصيتين عربيتين ليس من بينهما الأسد الأب أو الابن، رغم أنهما مارسا خلال خمسين عاما من الحكم المتوارث أشكالا من الطغيان بحق الشعب السوري، هي أقسى بكثير مما فعله هتلر أو حتى ستالين وبقية الشخصيات في قائمة (طغاة نتفلكس).
الصوت الأخلاقي في تقييم الآخرين يتراجع بشكل مفزع حتى عند المؤسسات أو الهيئات المستقلة التي تدعي أو تبدو خارج إطار منظومة المصالح
لا أزعم أن هذه السلسلة قد جاملت نظام الأسد على حساب الحقيقة، لكن تجاهله يثير تساؤلات عن طبيعة الشحن الدعائي الغربي تجاه الخصوم، وعن موجباته التي جعلته ينتقي (الطغاة) على أساس علاقتهم بالمنظومة الغربية وتحديهم الحقيقي لها، وليس على أساس الجرائم التي يرتكبها ضد شعبه أو الاستبداد الذي يمارسه للهيمنة والحفاظ على الحكم، ومثل هذا الاستنتاج مزعج ومؤسف حقا،؛ لأن الصوت الأخلاقي في تقييم الآخرين يتراجع بشكل مفزع حتى عند المؤسسات أو الهيئات المستقلة التي تدعي أو تبدو خارج إطار منظومة المصالح.
يمكن طبعا أن نفهم أن هتلر المهزوم في الحرب العالمية الثانية كان يجب أن يحمل المسؤولية بكاملها عن مقتل عشرات الملايين في أوروبا، وأن يخرج المنتصرون أبطالا حتى لو كانوا قد مارسوا القتل ضد الألمان من المدنيين بنفس طريقة الأرض المحروقة كما فعل هتلر، ولذلك اعتبر طاغية، لكن مفهوم الطغيان ذاته، قد يحمل دلالات تتعلق أساسا بما يمارسه الحاكم ضد شعبه من تنكيل وجرائم، ولذلك فإن ستالين يبدو أقرب حتى من هتلر لهذا الوصف، وربما آخرون أيضا ضمن قائمة سلسلة نتفلكس، لكن أي من هؤلاء جميعا بمن فيهم ستالين نفسه أو هتلر من قبله، ناهيك عن الآخرين، أي من هؤلاء، قتل شعبه بالبراميل المتفجرة وقنابل الغاز وهجر ملايين منهم واعتبر أن البلد سيكون (مفيدا) من دونهم؟؟!!
قام ستالين مثلا بتهجير نحو مليوني إنسان من شعب الشيشان إلى سيبيريا بتهمة التواطؤ مع النازيين خلال الحرب، هجرهم بالفعل بشكل غير إنساني بعقاب جماعي ومات كثير منهم في الطريق أو بفعل التجمد، لكن هل يشبه ذلك ترحيل أكثر من هذا الرقم من مختلف مناطق سوريا لحشرهم في شريط ضيق في شمال غربي البلاد؟ علما أنه لا ستالين ولا أي من (طغاة نتفلكس) هجَّر أكثر من ستة ملايين سوري بما يعادل نحو ربع الشعب إلى المنافي في طول الأرض وعرضها، كما فعل بشار الأسد الذي لم تعتبره تلك السلسلة (طاغية) وفضلت عليه عيدي أمين.
توزيع صفات الطغيان سيتحول بحد ذاته إلى طغيان فكري وثقافي وإنساني حينما يتجاهل ملايين الضحايا من السوريين الذين يمثلون حرفيا نحو نصف عدد الشعب
لا أريد هنا أن أقارن بين حكام ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية أو ضد شعوبهم، لأكتشف أيّ منهم هو الأكثر إجراما وطغيانا، فذلك بحد ذاته غير أخلاقي ولا يحترم الضحايا أياً كان عددهم وهوياتهم، لكني أريد أن أطرق على رأس الغرب المُتخم بالمرجعيات الدعائية والصور النمطية، وهوى الحب والكراهية، ونرجسية الاعتقاد بالصواب المطلق، أريد أن أطرق على رأسه، ليفهم أن توزيع صفات الطغيان سيتحول بحد ذاته إلى طغيان فكري وثقافي وإنساني حينما يتجاهل ملايين الضحايا من السوريين الذين يمثلون حرفيا نحو نصف عدد الشعب، يتوزعون ما بين لاجئ ونازح ومعتقل أو قتيل، والنصف الآخر هو رهين الخوف والاستبداد والجوع وساديّة الحكم وسياسة (ما أريكم إلا ما أرى)، حتى تحولت البلاد إلى ما يشبه المقبرة أو تكاد.
هذا (الطغيان) الفكري الذي يستفيد من سلطة المنصات الكبرى والدعايات والصورة المبهرة، يتحول في جزء من النتاج الثقافي والدعائي الغربي إلى أحجية، فهو لا يجد بأسا في استبعاد شخصية مثل حافظ الأسد أو ابنه من قائمة الطغاة. صحيح أن ذلك لن يمنح هذين صك براءة بالطبع، لكن الأمر بذاته يعيدنا إلى الآلية الذهنية التي يتصرف بها الغرب الرسمي والفكري مع الحالة السورية. لا يتعلق الأمر بالطبع بشبكة نتفلكس أو سلسلتها الوثائقية، فذلك مجرد نموذج مضت عليه سنتان، لكن الأمر يتصل بما عهدناه عند الغرب عموما من سلبية مع الحالة السورية لا تشبه أبدا حماسته تجاه العراق وليبيا مثلا من قبل، وطريقته في التعامل مع صدام حسين أو القذافي وحكام آخرين، بشكل يبدو أنه يتصل مباشرة بالمصالح لا بالنمط الأخلاقي أو حقيقة ما يرتكبه الحاكم ضد شعبه.
يبقى أن سرد التاريخ مسؤوليةُ الشعب لا الآخرين، وما شهدته سوريا من طغيان وقسوة خلال أكثر من نصف قرن، هو واجب مؤرخينا ومثقفينا، وحق ضحايانا علينا.