سالم بن لادن وعالم النفط والمال والطائرات
بين يديّ كتاب "آل بن لادن وعالم النفط والمال والإرهاب" من تأليف ستيف كول، والكتاب ضخم يقع في زهاء 800 صفحة ومليء بالمعلومات والتفاصيل الدقيقة، ولقد أحسنت الشبكة العربية إخراج هذا الكتاب في ترجمة جميلة وطبعة أنيقة لا تسرد لنا سيرة أسامة بن لادن وحياته الدرامية فحسب، بل تقدم رؤية أشمل لدور عائلة بن لادن في تاريخ السعودية. وفي طي قصة العائلة نرى تفاصيل تاريخ السعودية الحديث، وأحداث الطفرة النفطية وحادثة جهيمان فضلاً عن تفاعل عائلة بن لادن مع العائلة الحاكمة في المملكة العربية السعودية.
يمكن وضع هذا العنوان بجانب رف كبير قدمته الشبكة العربية لرؤية أعمق لتاريخ المملكة العربية السعودية، فقد نشرت كتاب "الوهابية: بين الشرك وتصدع القبيلة" للدكتور خالد الدخيل، وكتاب "الجهاد في السعودية: قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" للباحث توماس هيغهامر، ودراسة ستيفان لاكروا المميزة عن الصحوة بعنوان "زمن الصحوة: الحركات الإسلامية في السعودية"، و"أيام مع جهيمان" لناصر الحزيمي، هذا بالإضافة لدراسات تهتم بالأنثربولوجيا الثقافية، وحياة ومرويات الصحراء التي كتبها الدكتور سعد الصويان، ودراسة لحياة النساء في السعودية في كتاب "النساء والفضاءات العامة في السعودية" للكاتبة إميلي لورنار، وكتاب "الحراك الشيعي في السعودية"، وكتاب "علماء الإسلام: تاريخ المؤسسة الدينية بالسعودية"، وكتاب عبد العزيز الخضر "السعودية: سيرة دولة ومجتمع" الذي قدم فيه تأريخا ثقافيا للحياة الأدبية والفكرية مع توضيحات لأهم المعارك التي خاضتها التيارات الفكرية المختلفة، وفي الكتاب تتبع مميز للأرشيف الصحفي والكتابي لهذا الزمن يصل لتتبع شرائط الكاسيت ومقولاتها التي كانت جزءا من المعركة الفكرية في التسعينات.
كنت أود قراءة رواية شائقة ثم أهداني صديقي كتاب "آل بن لادن" وتصفحته. ساعتها قررت التخلي عن فكرة قراءة رواية والبحث عنها، لأن النص الذي بين يدي أفضل وأجمل من أي رواية، فهذه الوقائع تحكي قصة عن عالم الأعمال والسياسية، وهذا الكم من التفاصيل التي نجح ستيف كول في جمعها أفضل من أي نص أدبي يحكي أحداثا خيالية. العجيب أن الشخصية التي لفتت اهتمامي في الكتاب هو سالم بن لادن وليس أخاه أسامة. الفصول التي تستعرض حياة سالم بلغت 228 صفحة. تخيلت هذه الصفحات كتاباً منفصلاً عن حياة سالم ومغامراته.
يسرد ستيف كول قصة حياة سالم بن لادن في فصل بعنوان "الابن الصاعد" ويخبرنا عن شخصيته الودودة، وتمتعه ببشاشة طفولية
يسرد ستيف كول قصة حياة سالم بن لادن في فصل بعنوان "الابن الصاعد" ويخبرنا عن شخصيته الودودة، وتمتعه ببشاشة طفولية سمحت له بفعل الأشياء الصادمة، فقد كان يخرق القواعد دون أن يشعر الآخرون بالضيق أو النفور منه. كان والده قد تمكن سابقاً من كسب ود العائلة المالكة بحضور المناسبات الدينية في مكة والمدينة أو باصطحابهم في جولات في مواقع أعماله الإنشائية، إلا أن سالماً اتبع نهجاً مختلفاً. لقد صادق الكثير من شباب العائلة الملكية، فكانوا يسافرون معه إلى الخارج ويرتب لهم رحلاتهم، واستمتع الأمراء بأحاديث سالم عن أوروبا والسيارات السريعة والطائرات الخاصة.
ينقل لنا الكتاب صورا ولقطات من حياة سالم وصداقته القريبة من الأمراء، نراه وهو يسهر في الصحراء حول النار، ويفك قيد الصقور ويقوم برحلة صيد مع أميرين ذوي شأن من السديريين السبعة. كان أحدهما الأمير نايف الذي كان على وشك أن يصبح وزير الداخلية المهاب في الملكة، وينطلق المؤلف في الحديث عن سالم وهو في خيمة الأمير فهد ولي العهد، في ذلك الوقت، واستطاع سالم الحصول على إذن بشراء طيارة خاصة، إذ كان الملك فيصل أصدر أمراً سابقاً بعدم السماح لأحد من عائلة بن لادن بالطيران بطائرة خاصة بعد وفاة والدهم. واشترى سالم أول طائرة له من طراز MU2، وكان سالم عادة ما يتندر بما قاله الملك فهد له بعد ذلك إذ قال: "إنك لمجنون، وسوف تلقى حتفك يوماً ما في مغامرة من مغامراتك".
كان استمتاع سالم بمغامراته استمتاعاً شخصياً خالصاً، إلا أنه وظفه بدهاء ليفوز بحظوة عند فهد وإخوته لتوظيفها في شؤون العمل. ومثلما يفعل مديرو المبيعات، أوكل سالم لكل أخ من إخوته الأشقاء وغير الأشقاء أميراً سعودياً ذا شأن، وكانت المهمة المنوطة بكل منهم إقامة علاقة شخصية مع الأمراء والفوز بعقود المقاولات.
كانت رحلات التخييم الصحراوية فرصة لتحصيل الفواتير التي مضى موعد استحقاقها. كان سالم يجلس بجانب فهد ويتحدث بود ولطف عما على الدولة من ديون له، إلى أن يصل المحاسب الملكي ومعه شيك بالمبلغ المطلوب. ويتذكر أحد مساعدي سالم أنه قال عندما عاد من خيمة فهد ذات مرة وفي يده شيك يلوح به في الهواء: "لقد حصلنا على مستحقاتنا يا رفاق. لنرحل من هنا"، فحزموا أمتعتهم وفكوا خيامهم ورحلوا على الفور.
بحلول أواخر السبعينيات، كان سالم قد حصل على المزيد من العقود التي كانت كافية للشروع في إضافة طائرات من طراز ليرجت وطائرات رجال أعمال فاخرة إلى أسطوله الخاص. واستخدم سالم هذه الطائرات لتعزيز علاقاته مع العائلة المالكة، فإذا اتصل أمير من الأمراء وطلب استعارة إحدى طائرات سالم "الليرجت"، لم يكن يشعر أن أمامه أي خيار سوى إرسال الطائرة للأمير.
في الكتاب حديث عن العقبات التي واجهت سالم في بناء إمبراطورية أسرة بن لادن، مثل عدم توفر السيولة النقدية اللازمة الذي تغلب عليه عن طريق دعم صديقه المصرفي الحضرمي سالم بن محفوظ، ومثل صداقته مع ابنه خالد بن محفوظ، وخالد هو من مؤسسي البنك الأهلي التجاري. وشخصية خالد تتمتع بالهدوء مقارنة بسالم، إلا أن صداقتهما توطدت بسرعة وينقل ستيف كول قصصا كثيرة عن حياة خالد بن محفوظ. وخلال فترة السبعينيات كان الرجلان في طور محاولة إثبات نجاحيهما كمسؤولين تنفيذيين شابين، كلا في مجاله. تشاركا الاهتمام بالطائرات الخاصة، وكان كل منهما يملك أسطولاً صغيرا من الطائرات الخاصة في السنوات الأولى للطفرة النفطية.
يتتبع ستيف كول حياة سالم بن لادن، ويعتمد على عشرات المصادر من ضمنها مقابلات مع الطيارين المقربين منه، ويحكي عن سفره الدائم للقاهرة، ورعايته أخته غير الشقيقة رندا، التي كانت من أم مصرية. وبحلول أواخر السبعينيات، كان سالم يعرف عن القاهرة ما لا يعرفه أكثر متعهدي البناء والتطوير بها، لأنه كان يقضي الساعات الطويلة محلقاً فوق سماء القاهرة بطائراته الخاصة.كان ولعه بالطيران هو العشق الوحيد في حياته الذي لن يسأم منه مطلقاً وسيلازمه إلى وفاته.
وفي ظل حماسته للطيران تحول آل بن لادن تدريجياً إلى عائلة من الطيارين. توضح سجلات الطيران أن ما لا يقل عن سبعة من إخوة سالم تلقوا دروساً على متن طائراته الخاصة، لم يكن أسامة واحداً من هؤلاء، لكن أسامة اشترى طائرات خاصة لاحقاً منها واحدة وهو في السودان. لكن العجيب أن يكون الولع بالطيران أقرب إلى أن يكون جينا من جينات الأسرة، وستكون أسطورة أسامة متعلقة بطائرتين أيضاً خرجتا عن مساريهما وغيرتا أحداث المنطقة، والعالم. ومن لم يسمع بأحداث الحادي عشر من سبتمبر.
كان سالم يتنقل بين المكالمات الهاتفية بين صديقاته وهو يقود طائراته الخاصة، ويدير إمبراطوريته المالية أيضاً من الجو، عبر استخدام أحدث أحهزة الاتصالات التي كلفته 30 ألف دولار للطائرة الواحدة. ويهاتف أخته المفضلة رندا وهي في مونتريال ويقول لها: "رندا، إنني أحلق أعلى جبال الألب على ارتفاع 12 ألف قدم، أتصدقين ما أقول؟". أحيانا يبث عزفه على الهارمونيكا عبر الراديو لتسلية المراقبين الجويين، وعندما يقترب من المطارات يمازح مراقبي أبراج التحكم، ويصيح المراقبون الجويون في بيروت أو القاهرة مرحبين به: "أهلا شيخ سالم".
قام سالم بدور المتحدث الرسمي باسم العائلة، وأصبح صانع الصفقات فيها، فهو وسيط مثالي يتحدث الإنجليزية بطلاقة وصحبته ممتعة. وشخصيته مرنة ولديه قدره على التنقل بسهولة من بيئة إلى أخرى، وكانت الشركات الأوروبية والأمريكية تسعى لمقابلته ويتوافدون لزيارته، للاستفادة من الطفرة النفطية، والحصول على عقود شراكات وأعمال في المملكة. ومعظم عائدات مؤسسة محمد بن لادن كانت من المشروعات الضخمة في البنية التحتية. لم يكن سالم يملك خبرة في الأمور الهندسية، لذلك أمر اثنين من إخوته الأشقاء: بكر وغالب، بأن يحصلا على دورات في الهندسة المدنية.
توجه سالم إلى أمريكا وفتح علاقات تجارية هناك، خاصة شراء الطائرات الخاصة والسيارات الفخمة والسلع الاستهلاكية للعائلة المالكة، واشترى سالم سيارات كاديلاك للعائلة المالكة، بعد أن أصدر أمراً بجعلها مصفحة لمقاومة الطلقات النارية، وجهز قصراً في مدينة بنما لدعوة الملك فهد. وهبطت طائرة الملك البوينغ 707، وكانت أكبر طائرة تصل إلى أرض المطار.
كان سالم يستمتع بالسعادة البالغة التي يبديها الأمريكيون والأوروبيون، خاصة النساء، عندما يعطيهم مبالغ كبيرة على نحو غير متوقع. وبدا أن سالماً يستمتع بهذا النوع من العلاقات الإنسانية أكثر من استمتاعه ببعض الرفاهيات التي كان يمكن الحصول عليها بأمواله.
فكر سالم أن أحد المجالات التجارية التي يود المشاركة فيها مد شبكة الهواتف، فكما شيد والده الطرق، فهو يود مد شبكة الهواتف في المملكة. ويتتبع الكتاب بالتفاصيل الدقيقة قصص هذه الصفقات بمبالغ ضخمة، والصعوبات التي كانت تواجه مؤسسة محمد بن لادن خصوصاً في مسائل السيولة المالية. اعتاد مساعد سالم أن يسمع منه عبارة "كيف أعثر على سيولة تقدر بمئة مليون دولار؟ إنني في حاجة إليها بحلول الغد". وعندما زار وفد من شركة كاتربيلر وأحصوا المعدات التي تملكها المؤسسة من هذه الشركة، أبلغوا سالما أن مؤسسة بن لادن هي أكبر شركة تمتلك معدات كاتربيلر في العالم، وعرضوا عليه أن يكون وكيلهم في السعودية، إلا أن سالما لم يبد اهتماماً بالأمر، فهو مشغول بالإنشاءات ولم يكن محبا أن يكون وكيلا لبيع منتجات شركة أخرى.
زادت أهمية سالم مع حادثة جهيمان. مع تدفق رجال جهيمان في السراديب والأنفاق، برزت الأهمية القصوى للمخططات الهندسية والمعمارية التي يمتلكها أبناء محمد بن لادن للحرم المكي. أحضر العاملون في شركة بن لادن معدات ثقب لحفر فتحات في أرضية المسجد لحصار جماعة جهيمان، وفي خضم هذه الأحداث تفتق ذهن سالم في يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1979، -أي بعد أسبوع واحد من دخول جهيمان الحرم- عن إنشاء حسابات في ملاذات خارجية في السر، تحسباً لأي تغيرات سياسية قد تخسر فيها مؤسسته، وكان رأس مال الشركة التي تم تسجيلها في بنما 10 ملايين دولار، وقامت الأسرة بنفس التصرف عند غزو صدام للعراق في 1990 فحولت مبالغ كبيرة للخارج. لم يكتف سالم بتحويل الأموال بل اشترى قطعة أرض ضخمة في مدينة أورلاندو في فلوريدا مقابل 1.9 مليون دولار.
يخبرنا الكتاب عن الوضع المالي لأسامة في مراحل حياته، ففي بداية الثمانينيات ربما كان دخل أسامة الصافي من نصيبه في شركات بن لادن يبلغ 150 ألف دولار سنوياً، ويحدثنا عن مقابلة سالم مع دونالد ترامب مرة واحدة لم ينتج عنها أي صفقات تجاربة. نرى سالما المقاول المهم في المملكة يتحول خارجها إلى سمسار يقوم بالعمليات الكبرى، مثل ترتيبه للحصول على طائرة للملك فهد بعد أن وجد أن التصميمات التي عرضتها بوينغ على الملك لم تعجبه. سافر سالم إلى ساس وقابل أسطورة الطيران الأمريكي دي هاورد واتفق معه على أن يقوم بالتعديلات على طائرة بوينغ التي كلفت 92 مليون دولار، وفي الكتاب تفاصيل التعديلات التي أضافها دي هاورد وكيف جعلها تحفة فنية تملك جميع وسائل الرفاهية الممكنة.
عندما انتقل أسامة مع عائلته إلى بيشاور، طلب طلباً جديداً من سالم. كان الطلب هو الحاجة إلى السلاح، وبالتحديد الصواريخ المحمولة المضادة للطائرات، واستطاع سالم عن طريق صديقه الألماني توماس ديتريتش، واستطاع توماس الحصول على هذه الصواريخ من أمريكا الجنوبية.
لا يترك ستيف كول أي تفصيل صغير عن حياة سالم، عن أصدقائه وعلاقاته النسائية وقصص زيجاته ويتداخل في هذه القصص الحديث عن التجارة والصفقات والسياسة. ينتهي الحديث عن سالم بتحقق نبوءة فهد بأن مغامرة ستقضي على حياة سالم، فلقد سقط بطائرته في مطار الأحلام كيتي هوك بالولايات المتحدة. وكما توفي والده محمد بن لادن بحادثة طائرة توفي سالم لنفس السبب، يستمر ستيف كول في جمع كل المعلومات الممكنة عن حياة الأسرة ووضعها المالي والتجاري. اخترنا بعض اللمحات عن حياة سالم، لكن الكتاب مليء بما يشبه قصصا قصيرة عن أفراد هذه العائلة. 800 صفحة من التحقيق الصحفي الاستقصائي المميز قدمها لنا ستيف كول، لا لنعرف عائلة بن لادن فحسب بل تاريخ السعودية الحديث والمعاصر عبر إحدى العائلات المهمة بها.