زار الأديب جمال الغيطاني منزل الناقدة سامية محرز، ورأى صورة إبراهيم ناجي على الجدار، وسأل بعفوية: هو الدكتور ناجي بيعمل إايه عندكم؟ ردّت د.سامية محرز: إنه جدي.
ما إن رأيت غلاف كتاب د.سامية محرز "إبراهيم ناجي: زيارة حميمية تأخرت كثيرًا" حتى تمنيت الحصول على الكتاب، ومع القراءة لم أشعر بخيبة الأمل، فقد عشت بوجداني مع هذه الزيارة المتأخرة التي أجرتها الناقدة الأدبية سامية محرز لعالم ناجي. وُلدَت سامية عام 1955، أي بعد وفاة جدّها إبراهيم ناجي بعامين.
كانت فكرتي عن ناجي بسيطة قبل قراءة الكتاب، مختزَلة في قصيدة "الأطلال" وصوت أم كلثوم وحكايات عن معجبات الشاعر، وأنه شاعر الرومانسية والعاطفة. ومضيت في قراءة حياة الشاعر كما قدّمَتها سامية محرز فكانت معرفة أعمق من هذه الشذرات.
تصحبنا سامية محرز في رحلة علاقتها مع الشاعر إبراهيم ناجي، رحلة تبدأ بنفورها في طفولتها من فخر أمها وخالاتها من تكرار ذكر الانتساب إليه، ورغبة الكاتبة في إثبات الذات بعيدًا عن "التلزيق" في قصة حياة جدها. تكبر سامية وتلتحق بدراسة الأدب، وترى فيها الأسرةُ أملًا أو مفتاح الفرج في دراسة حياة ناجي وشعره، لكنها تختار جيلًا أدبيًّا آخر لدراسته يمثِّله صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني بعد عشقها روايته "الزيني بركات".
أقرأ الكتاب وأشعر أنني حصلت على نص يصلح للتأمل في قضايا السير، ولكوني غارقًا في تأمُّل عالم السِّيَر والمذكِّرات، أراها فرصة للتفكير في هذه الإشكالات، ومع كل تقدُّم في صفحات الكتاب، تتضاءل صورة ناجي شاعر الرقَّة العاطفية كما أطلقوا عليه، أتحرَّر من تلك الصورة النمطية، وأخطو خطوات في عالَم ناجي لأرى حياته الواقعية.
تقدِّم سامية محرز وصفًا لكيفية تصحيح علاقتها مع جدها، تبدأ التعرف إليه شيًئا فشيئًا، عبر تتبُّع الحكاية من أولها، والبداية مع قصة ناجي وزوجته. هذه الزيارة لعالم ناجي تمنح الكاتبة فرصة للقرب من أمها وهي تقرأ عليها فصول الكتاب في فترة الجائحة، تمزح الأم معها وتقول لها: بتكتبي الكتاب ده كله لمين؟ الناس ماتوا خلاص.
"وأنا حُبٌّ وقلبٌ ودَمٌ"
توُفّيَت ابنة الشاعر إبراهيم ناجي ضوحية في المهجر، في مدينة سان دييغو بالولايات المتحدة الأمريكية، عَثَرَت شهيرة ابنة ضوحية على ظرف فيه أوراق، وأهدته الابنة إلى الكاتبة، هنا تكون المفأجاة؛ كم تكون تلك الدفاتر قيِّمة بما تحتوي عليه من أسرار أو إجابات، أهمّ ما حصلت عليه كان مفكرة ناجي الشخصية وبعض الأوراق الشخصية.
تكتشف الكاتبة ضمن الأوراق ورقة بيع مكتبة إبراهيم ناجي، بمبلغ سبعين جنيهًا، تلك المكتبة التي باعتها الأسرة بعد وفاته لتسديد الديون المتراكمة عليه. تدرك سامية سرّ غياب مكتبة ناجي عن البيت، تلك المكتبة التي كتب عنها ومدحها، واعتبرها تماثل قصة حياته.
يقول ناجي عن مكتبته: "لقد تركتُ مكتبتي على سجيَّتها، أي إنني جعلت الكتب فيها سجلًّا لقراءتي وتفكيري، فهذا كتابُ طب يجاوره كتابٌ في الأدب، يجاورهما كتابٌ في التاريخ، ويُسنِد الثلاثةَ كتابٌ ضخمٌ في الفلسفة". هكذا تُعتبر المكتبة رحلة عمر.
تقرأ سامية محرز المفكرة الشخصية وتوضِّح: "نحن مختلفان، لكن هذه الزيارة خلقت بيننا صداقة، وقد سمحت لي مفكرته بالتعرف إليه وتَقَبُّله، فحياة ناجي باهرة بالنسبة إليَّ، لأنه كان مليئًا بالطاقة. ورغم حياته القصيرة والأمراض التي أصابته والمِحَن التي مرَّ بها، فإنه استطاع أن يكون مثقفًا موسوعيًّا في كل النواحي".
"أين مِن عيْنِي حَبيبٌ ساحِرٌ"
وُلدَ إبراهيم ناجي عام 1898، وتَزوَّج عام 1927، وكانت زوجته سامية في سنّ العشرين. تقترب سامية محرز من الكشف عن صورة الفنان في منزله، ليس الشاعر المُلهَم، بل الطبيب الذي تَخرَّج عام 1922، وتحصُل من أُمِّها على رسائل ناجي إلى جدتها، تلك الرسائل التي لطالما أظهرَتها الأم في وجه النقاد الذين شكَّكوا في وفاء ناجي لزوجته، تقرأ سامية محرز تلك الرسائل بعين مختلفة.
تُعِيدُ بناء حياة هؤلاء الأفراد، الجدّ الشابّ المتخرِّج حديثًا في كلية الطب، الذي يشتكي في رسائله معاناةً ماليةً، ويصرف كل أمواله على شراء الكتب. تُكِمل سامية قراءة الرسائل وتجد في باطنها أزمة وتوتُّرًا في العَلاقة، بين عالَم ناجي الرومانسي وعالَم زوجته سامية التي تحذِّره من شراء الكتب، تلمح كاتبتُنا بوادر العتاب بين الزوجين، واحتياجات الزوج العاطفية التي يُلِحّ عليها، فهو لا يمَلّ المطالبةَ بتكرار عبارات الحبّ والودّ.
نتلصَّص على خطابات شابّ يهوى الأدب ويعشق الكتابة ويحبّ الشعر، ونرى مناقشاته وأحيانًا جداله مع خطيبته، خطابات تبدأ بكلمة "سومتي العزيزة"، ونُنهِي قراءة الفصل ونحن نشعر أننا أمام قصة حب متوترة. تزوجت جدة الكاتبة طبيبًا شابًّا فإذا هو حبيب ولهان يُمطِرها كلامًا معسولًا بدلًا من أن يكون زوجًا، ويطلب من زوجته الكتابة له باستمرار، السأم يجعل ناجي كالطفل اللحوح في حبها حتى تتأفف منه، وتنبِّهنا الكاتبة أن الكتابة عند جدها صنعة، فهو ينظم الشعر ويكتب المقال والمحاضرة، فهو مهووس بالكتابة، فكيف لزوجته الشابة أن تجاريه بتربيتها التقليدية وثقافتها المحدودة؟
لا تكتفي سامية محرز بقراءة الرسائل لفهم قصة عاطفية بين زوجين، بل تحاول توسيع القراءة لملاحظة حالة المجتمع، أو انتظام حركة البريد ودِقَّته، الذي يضمن وصول رسالة يومية بين الزوجين عندما يبتعد كلاهما عن الآخَر.
"يا حبيبِي كلُّ شَيءٍ بِقضاءْ"
قد تجد في قصة الكتاب معظم إشكالات السِّيَر: نرى عوالم المحيطين بالبطل، سياسيًّا كان أو أديبًا، تستنطق الكاتبة أصوات الزوجة وتؤرِّخ حياتها ومعاناتها في تربية بنات ناجي بعد وفاته، وتَحمُّلَها الديون ومصاريف زواج البنات وهجرة ابنتها إلى أمريكا... يضَعُنا الكتاب أيضًا أمام إشكالية الحقّ في التلصُّص على مفكِّرات الراحلين لفهم تاريخهم فهمًا أعمق، وهل يحق لنا هذا الكشف. نكسب نحن القراء شخصيات أكثر إنسانية، بضعفها الإنساني وصوت السعال ومرض السُّلِّ الذي يصيب ناجي، نخدش صورة الشاعر بهمومه الحياتية وقلقه المادِّي وخوفه على الوظيفة والتفكير في بناته، نرى الشاعر يحاضر عن صديقه شكسبير ويفرح بثناء الحضور عليه، نُخرِجه من الإطار والرمز إلى الواقع.
نرى خط الشاعر المهزوز وهو يحكي عن شكوى من زوجته، ثم يتراجع في ورقة أخرى للإشادة بوقفتها معه، صوت الأديب الذي يرى في نفسه شاعرًا وطبيبًا، وتريده الوزارة طبيبًا فقط، قلق الحصول على مكانة في المجتمع، قلق الاعتراف الأدبي والتفكير المستمرّ في المجهود الأدبي.
أعطت الكاتبة فرصة أكبر لأصوات نسوية للتعبير عن نفسها، مثل صوت الجدة وأمها وحكايات خالاتها، وكشفت عن عجز الكاتب في سنوات حياته الأخيرة عن الاقتراب الجسدي، وحلّلَت قصائده الغزلية ومغامراته بمحاولة تعويض عن ضعف فاعلية الجسد، استخدمت نظرية بيار بورديو عن الأدوار الاجتماعية، لتحلِّل تجاهل الوزارة له وحرمانه الترقية، حكَتْ بالطبع قصة "الأطلال"، لكن الحسرة أصابتني لأن ناجي لم يشهد ذلك التتويج لشعره عندما غنَّته أم كلثوم، وسردت الكاتبة حكاية الأغنية الشهيرة وكيف أصبحت "الأطلال" من أغانيها المفضلة بعد أن كانت لا تطيقها في مراهقتها.
"رُبَّما تَجْمَعُنا أَقْدَارُنا"
على مدار سنة كاملة عاشت سامية محرز في ظلال عالَم جدها، قصة العشيقة المختفية، "ع.م" التي أهدى إليها ديوان "ليالي القاهرة"، تجمع الأخبار وتسأل العائلة وتصحبنا في رحلة الكشف عن ملهمة الشاعر، ثم تصحبنا في فصل آخر لقراءة بعض أوراق ترجمات ناجي لأغاني شكسبير، وتبثّ في النص أسئلة نقدية عن علاقة الأدباء بالكلاسيكيات الغربية، وتكشف في فصل آخر عن محاولات ناجي لتأليف كتاب عن الطب للجمهور... محطَّات في زيارة حميمية تأخرت كثيرًا، لكن سامية محرز تصالحت مع الجدّ بهذا القرب والانغماس في تجربة حياته، قُرْب ولَّد عاطفة وتَفهُّمًا، لم يكُن هذا القرب مجرَّد أسئلة نقدية لي كقارئ، بل قصة رقيقة عن أسرة تجتمع للبحث عن أثر ناجي في حياتهم، الأم التي تُفاجأ بمعلومة في دفتر مذكِّراته، وتقول لم يخبرنا عن هذا الأمر ولم نكن نعلم هذه القصة، والكاتبة التي تشارك ابنها نديم قراءة الكتاب، وتصنع من هذا النقاش والجدل قربًا إنسانيًّا لتصحبنا حول أسئلة نديم عن علاقة ناجي وشكسبير، وتقدِّم ملاحظات مهمة عن قراءة الأفكار في سياقها وزمانها.
برَعَت سامية محرز في حكاية ثلاثة خيوط من القصص: القصة الأولى حكايتها هي وتَقلُّبات حياتها عبر قصتها مع الجد، والقصة الثانية قصص أناس غُيِّبوا عن مشهد ناجي مثل الزوجة والبنات. تقول السيدة أميرة ناجي ابنة الشاعر لابنتها عندما تسمع منها مقتطفات من مفكرته: "إحنا ماكنَّاش حاسِّين به، لم يخبرنا عن معاناته مع هذا الأمر، نصارح أحيانًا يومياتنا بما لا يعرفه حتى أبناؤنا". والقصة الثالثة أسئلة نقدية وإشكالات تتعلق بحقل النقد الأدبي غذَّت بها نَصَّها وجعلته مفيدًا وثريًّا. وبإدماجها هذه القصص نشعر بحالة من الامتنان المعرفي والرضا الأدبي عن هذا الكتاب الذي قدمته لنا.
قد يكون شكري للكاتبة في كوني ازددت حبًّا لناجي مع نهاية الكتاب، وفتحت ديوانه بعين أكثر رحمة وعطفًا ومودة، أنا أيضًا زُرتُ عالمه بعد هذه العِشْرة على مدار الكتاب، تعاطفت مع مرضه وأزماته العاطفية ومع عيشه بين الواقع القاسي وعالَمه الأدبي الذي يبحث فيه عن تسطير دور أدبي في الشعر والترجمة والنقد، خرَجْتُ منَ الرحلة بمكسب الأُلْفَة.
فكّرْت وأنا في صحبة الكتاب في قيمة ما تتيحه لنا اليوميات الشخصية التي تُنشَر بعد رحيل أصحابها لفهم أفكارهم، رأيت أمثلة عديدة من هذه الدفاتر، مثل دفتر أحمد أمين الذي حصل عليه ابنه جلال أمين وانتقى منه بعض الأفكار ليقدِّم قراءة نقدية بين سيرة والده شديدة التحفُّظ بعنوان "حياتي"، وبين الدفتر الشخصي الذي تَميَّز فيه أحمد أمين بالتعبير عن مشاعره بصراحة وبجرأة أكبر، ويمكن عقد تلك المقارنة كذلك في نصوص يوميات عبد الرازق السنهوري التي نشَرَتها ابنته، أو المذكِّرات الشخصية التي عثر عليها الكاتب توم ريس وهو يتتبَّع قصة الروائي قربان سعيد، وكذلك الكتاب الممتع الذي قدَّمَته إيمان مرسال بعنوان "في أثر عنايات الزيات" في تَتبُّعِها لقصة عنايات الزيات التي انتحرت في شبابها... كل دفتر سرِّيّ يتيح لنا بعد تَعرُّف محتوياته قربًا أكثر مع رواية الأشخاص عن أنفسهم، وهذا ما عثرنا عليه في كتاب ناجي، حيث تنتهي الكاتبة سامية محرز إلى ملاحظة مدى الشبه بينها وبين صورة جدِّها ناجي، وتتصالح معه ومع قصته. أما من يبحث عن ملهمات ناجي في الكتاب فلن يجد كثيرًا، سيجد أسماء سيدات في بعض القصاصات لكن بلا قصص كاملة، لن نعرف عن "جرائم ناجي الصغيرة" كما يسمِّيها، ولكن الأهمّ أننا سنرى كذب المدّعِيات من الممثلات أنهن مَن ألهَمَ ناجي ليكتب الأطلال، ونشرن تلك الإشاعات لترويج أنفسهن. تنبِّهنا الكاتبة أن ناجي كان نهمًا في كل شيء، في القراءة والطموح الأدبي والعلاقات... وهذا النهم أتعبه.
وفي النهاية تقول لنا: "أراه يُطِلّ من فوق كتفي وأنا أكتب، موافقًا أحيانًا ومعترضًا في أحيان أخرى، فأُدخِلُه إلى عالمي تارة وأتجاهل وجوده تارة أخرى، وأقول لنفسي: إنه جدِّي وأنا حفيدته في آخر الأمر، ونحن قد أصبحنا أصدقاء".
عُدْتُ إلى ديوان ناجي وجلست أقرأ في قصائده فرأيت كثيرًا من الحديث عن القلب والجوى، والسهر والتفكير في المحبوبة... لا نرى في قصائده سياسة؛ الغاية التي يدور ويدندن حولها، عواطفه.
وأختم بهذه المقطوعة من شعره:
كم تَجرَّعْنا هَوانــــا ولَقِينا في هَوانا
وإذا حَلَّ الهوى هَيـ ـهاتَ تَدرِي كيف كانا
يا حبيبِي هَدأَ الليـــ ـلُ ولم يَسهرْ سِوانا
لا الدُّجى ضَمَّدَ جُرحَيْـ ـنا ولا الصُّبْحُ شَفانا
لا الهوى رَقَّ على الشا كِي ولا قاسِيهِ لانا.