ما زال الإسرائيليون يرصدون نتائج اتفاقيات التطبيع بعد مرور عامين على إبرامها مع عدد من الدول العربية والخليجية، مع قناعة متزايدة مفادها أنه رغم الحماسة الأولية بين الجانبين، فإن الاستثمارات التي كان يفترض أن تتدفق من دول الخليج لم تصل إلى إسرائيل بعد، ورغم أن بعض الدول العربية تفضل الاستثمار في مشاريع البنية التحتية دون غيرها.
في الوقت ذاته، تدرك تل أبيب أن هذه الاتفاقيات فتحت أمامها بوابات عربية وخليجية، رغم أن تداعياتها على السياسة الإقليمية تباينت بين دولة وأخرى، فضلا عن الجوانب الأمنية والاقتصادية، لكن المجمع عليه إسرائيليا أن هذه الاتفاقيات شكلت عامل تغيير في قواعد اللعبة بالنسبة لمكانتهم في المنطقة، حتى بدون حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
مع العلم أن رغبة أطراف اتفاقيات التطبيع، لا سيما الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب، في التصدي لإيران دفعتها إلى أحضان إسرائيل، ورغم أن الاتفاقيات اقتصرت فقط على الدول المذكورة، لكن من الواضح للجميع أن السعودية، التي لم تنضم رسمياً للاتفاقيات، أعطت موافقتها لهما على التحرك باتجاه إسرائيل، مع أن هذه الاتفاقيات حققت علاقة دافئة، بدون رواسب حروب سابقة، وباتت لأطرافها مصالح مشتركة كثيرة.
اعتقد الإسرائيليون أن الأموال ستتدفق بسهولة من الإمارات، لكن مجال الاستثمارات الإماراتية يتعثر في إسرائيل
تتحدث الأرقام الإسرائيلية أن حجم التبادل التجاري مع الإمارات بلغ 1.4 مليار دولار، أما الخدمات فقيمتها 200-300 مليون دولار، في حين أن الصادرات الدفاعية العسكرية فمعلوماتها ما زالت سرية، أما الصادرات بكاملها فقد نمت بمعدل الضعف، والتوقعات الإسرائيلية أن إجمالي الصادرات سيرتفع بنسبة 13٪ بنهاية 2022، رغم أن الإسرائيليين توقعوا أن يجدوا في شوارعها أشجارا تزرع أموالاً ستمطر عليهم، لكن هذا لم يحصل، مع العلم أن تجارة الماس تشكل أكثر من نصف حجم التجارة البينية.
في الوقت ذاته، فإن الاختلافات الثقافية بين الجانبين، أدت إلى عدد غير قليل من سوء الفهم في الاتصالات بين رجال أعمالهما، فقد اعتقد الإسرائيليون أن الأموال ستتدفق بسهولة من الإمارات، لكن مجال الاستثمارات الإماراتية يتعثر في إسرائيل، وبجانب الاستثمار الضخم لصندوق الثروة في شراء حصة "ديليك" في خزان "تمار"، بقيمة مليار دولار، وهناك 100 مليون دولار من الإمارات يتم استثمارها في صناديق رأس المال في إسرائيل مؤخرًا، وتم إنشاء صندوق جديد للبحث والتطوير بـ100 مليون دولار، مع استثمار كل دولة نصف المبلغ.
لكن الصندوق الاقتصادي الأكثر شهرة على الإطلاق ولد نتيجة لاتفاقيات التطبيع بـ10 مليارات دولار، لكنه دخل في نوع من التجميد بسبب الوضع السياسي في إسرائيل، ودخولها في عدة عمليات انتخابية متلاحقة، وفي الوقت ذاته فإن هناك عددا أقل من الشركات الناشئة التي تستثمر أموالها فقط في مشاريع بنية تحتية كبيرة، لكن المحاولة حتى الآن لم تنجح، وبعد أن اقتربت شركة موانئ دبي العملاقة من مناقصة تشغيل ميناء حيفا كجزء من عملية الخصخصة، لكنها انسحبت، لأنه لا يتناسب مع التخطيط الاقتصادي والاستراتيجي.
تتوافق المحافل الإماراتية والإسرائيلية أنه مع نهاية العام الجاري 2022 ستكون الإمارات في المركز الـ15 في التجارة البينية مع إسرائيل، وخلال 2-3 أعوام في المراكز العشرة الأولى بحجم تجارة 5 مليارات دولار، بحيث تصبح المحرك الأول للنمو في الاقتصاد والصناعة الإسرائيليين، لأن لديهم بنى تحتية مكملة للبحث والتطوير، ورأس مال إماراتي ضخم مخصص لاستثمارات البحث والتطوير والابتكار، وقوة عاملة من جميع الأنواع، ورقم مهم هو أسعار المواد الخام من بين الأفضل في العالم لأنها مركز تجاري عالمي، فضلا عن الوصول للعديد من أسواق العالم.
كما أن اتفاقية التجارة الحرة الموقعة في وقت قياسي ستسرع من وتيرة زيادة حجم التجارة إلى عشرة مليارات دولار خلال خمس سنوات، وفي هذه الجزئية بالذات يمكن الكشف عن وجود اهتمام إسرائيلي متزايد بقطاع العقارات في الإمارات، مما جلب استثمارات بأحجام متزايدة، مع نجاح الاتفاقية الثلاثية مع الأردن لبناء مزرعة ضخمة للطاقة الشمسية لإنتاج الكهرباء التي تشتريها إسرائيل، وفي المقابل ستبيع المياه المحلاة إلى الأردن.
مجال آخر يزدهر بين الجانبين وهو السياحة، فقد زار الإمارات أكثر من نصف مليون إسرائيلي، وبدأ وكلاء السفر الدوليون من أوروبا والولايات المتحدة مؤخرًا تسويق باقات مجمعة إلى إسرائيل والإمارات، بحيث يهبط السياح في تل أبيب، وبعد رحلة مدتها ستة أيام يسافرون للإمارات، ومن هناك يعودون إلى بلدانهم.
فيما يتعلق بالتطبيع مع البحرين، فإن أهميتها لإسرائيل تحوز دلالاتٍ عسكريةً وأمنية كبيرة، حيث يقع الميناء الرئيسي للأسطول الخامس الأميركي هناك، وخلال زيارات وزير الحرب بيني غانتس ورئيس الوزراء يائير لابيد إليها، التقيا علنًا بقادة القوات الأميركية، بوصفه تهديدا ضمنيا لإيران، ورغم زيادة العلاقات الاقتصادية بين البحرين وإسرائيل كثيراً، فإنها لا تزال صغيرة نسبياً بعشرات ملايين الدولارات، كما يحتل الماس حصة كبيرة من الصادرات الإسرائيلية، في حين تبرز حصة المعادن والألمنيوم للبناء في الواردات.
التوقع الإسرائيلي أن البحرين ستكون بمنزلة جسر لإسرائيل إلى السعودية، وهو ما تم تحقيقه جزئيا فقط، حيث تم بالفعل عقد إحدى أكبر صفقات الألمنيوم مع شركة سعودية لها فرع في المنامة، ما يعني أن السعوديين انفتحوا على العلاقات التجارية مع إسرائيل، كما تم توقيع صفقة مثيرة للاهتمام بينهما في مجال المياه، لأن نوعية المياه في البحرين رديئة، وتم توقيع صفقة بين شركتي المياه في الجانبين لتقديم خدمات التخطيط والاستشارات والدعم لمشاريع تحسين جودة المياه وتحليتها والاستخدام الذكي.
السعودية لم تغب عن مجالات التطبيع الإسرائيلية الخليجية، ولو بشكل غير رسمي، لكن تل أبيب والرياض تعملان على تحسين علاقاتهما التجارية، ففي الأشهر الأخيرة سمح السعوديون لرجال الأعمال الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية بالحضور إليهم بدعوة من زملائهم المحليين، واليوم تشارك عدة شركات إسرائيلية في إنشاء مدينة نيوم المستقبلية، ويتم إدارة مشروع زراعي تجريبي ضخم من شركات التكنولوجيا الزراعية الإسرائيلية.
بالتوجه غرباً إلى المغرب، ينظر الإسرائيليون إلى تنامي العلاقات معها كونها تمنحهم إطلالة أوسع على التطورات التي تشهدها بلدان شمال إفريقيا على ساحل البحر المتوسط، وفي منطقة الساحل وفي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مما يساعدهم بالحصول على المستوى الاستخباري والاتصالات السياسية، رغم أن هذه العلاقات أثارت غضب الجزائر أكثر من مرة، ودفعتها للعمل في اتجاهات غير ملائمة لإسرائيل، وآخرها دعوة قيادة حماس لحضور احتفالات ذكرى استقلالها.
لا تخفي إسرائيل أنها بحاجة من خلال علاقاتها مع المغرب لزيادة المراقبة الاستخبارية للجزائر، لإيصال تحذير لها من مغبة الانزلاق في سياستها تجاه الفلسطينيين من الدعم "المعنوي" إلى المساعدة الفعالة، بما قد يكون له عواقب على مكانتها الدولية.
تبذل إسرائيل جهودا لافتة لدمج الشباب المغاربة في شركات إسرائيلية عالية التقنية، واستيعابهم في حاضنات لتطوير الطائرات بدون طيار، والشركات الناشئة المتعاملة مع أزمة المناخ
كما يحاول الإسرائيليون الاستفادة من علاقاتهم بالمغرب لزيادة نفوذهم في ليبيا بأدوات النفوذ المباشرة، الجالية اليهودية والعلاقات الإقليمية والدولية، من أجل إرساء الأسس لتحقيق اختراق فيها، فضلا عن سعيهم لإلغاء مذكرة التفاهم التركية الليبية، بزعم أنها تهدد بحبس المياه الاقتصادية لإسرائيل وقبرص ومصر، ومنع وصول مواردها من الطاقة للأسواق الأوروبية.
في الوقت ذاته، تبذل إسرائيل جهودا لافتة لدمج الشباب المغاربة في شركات إسرائيلية عالية التقنية، واستيعابهم في حاضنات لتطوير الطائرات بدون طيار، والشركات الناشئة المتعاملة مع أزمة المناخ، وتوقيع 13 مذكرة تفاهم، لتعزيز التعاون في صناعة التكنولوجيا العالية، والاستثمارات المتبادلة في مجالات الطاقة الخضراء وهندسة الأغذية والزراعة، خاصة أن صناعة التكنولوجيا الفائقة في المغرب ما زالت في بدايتها.
تجدر الإشارة إلى أنه في عام 2021 جمعت الشركات الناشئة 29 مليون دولار فقط من رأس المال، وهي أموال صغيرة مقارنة بجبال السيولة في الصناعة الإسرائيلية، لكنها تعد قفزة كبيرة مقارنة بعام 2020، عندما وصل التمويل فقط إلى 11 مليون دولار، وهناك توجه إسرائيلي لدمج المغاربة في شركات التكنولوجيا العالية، بما يلبي الطلب الكبير على العاملين في الصناعة في إسرائيل، ورغبة المغرب في منع هجرة الشباب للخارج، ويتأتى ذلك بتشجيع التعاون بين شركاتهما.