في الوقت الذي يشهد فيه العالم أشبه ما يكون بإعادة تموضع للمنظومة الدولية، في استعادة تدريجية، وربما بطيئة، للنظام ثنائي القطبية، عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا فإن إسرائيل، كدولة ترى نفسها محورية في هذه المنطقة من العالم، ترقب عن كثب تطور العلاقات القائمة بين روسيا والصين، رغم تقاربهما النسبي في الحرب الأخيرة، في ذات الوقت الذي تظهر فيه إسرائيل ذاتها حساسية متزايدة للمخاوف الأميركية بشأن الدولتين الأخيرتين، مع حذرها من أي تقلبات حادة في علاقاتها بهما.
ترصد إسرائيل ما تراه تحالفا استراتيجيا وتعاونا مكثفا قائما بين موسكو وبكين، ولاسيما في المجالات الاقتصادية والتجارية، لاسيما عقب ما شهدتاه من تنامٍ لافت وكبير، في ضوء أن الأخيرة تعتبر من أكبر مستهلكي الحبوب والطاقة في العالم، إن لم تكن الأكبر، وفي ذات الوقت تعتبر موسكو المصدر الأول والأساسي للمنتجات الزراعية والنفطية والغازية، بما فيها الوقود والفحم.
يتزامن هذا التقارب الروسي الصيني مع ما بدأته إسرائيل في الأشهر الأخيرة من مفاوضات وإبرام اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي، في مسعى واضح لا تخطئه العين من الأخير للعمل على إيجاد بدائل سريعة وعاجلة للغاز الروسي الذي حصل فيه تناقص كبير، سواء بسبب وقف ضخه إليها، أو فرض عقوبات غربية على موسكو، أو طلب الأخيرة أن تكون العملة المتداولة لاستيراده هي الروبل، وليس الدولار أو اليورو.
ورغم الانحياز الصيني العلني لروسيا في حربها على أوكرانيا، فإن إسرائيل تحافظ على علاقاتها مع بكين باعتبارها من أهم الشركاء التجاريين والاقتصاديين لها، رغم ما نجم عن ذلك من توتر بين تل أبيب وواشنطن
ليس سراً أن إسرائيل، لاسيما في ظل الحرب الأوكرانية تصنف نفسها جزءا من المحور الغربي، رغم جهودها التي لا تخفى على أحد للبقاء مستفيدة من الجانبين، من جهة إدانة الغزو الروسي، لعدم خسارة الموقف الأميركي تحديدا، ومن جهة أخرى عدم رفع السقف عاليا ضد موسكو خشية التضييق عليها في سوريا، وهي معنية بعدم تشويش علاقتها بها خشية من فرض قيود على حرية طيرانها في الأجواء السورية، الذي رفع مؤخرا من ضرباته باستهداف مطار دمشق، والتسبب بتعطيله للمرة الأولى منذ 2011، مع العلم أن الأوساط الإسرائيلية غير الرسمية تعلن دعمها علانية للموقف الأوكراني.
في مسألة ذات صلة، ورغم الانحياز الصيني العلني لروسيا في حربها على أوكرانيا، فإن إسرائيل تحافظ على علاقاتها مع بكين باعتبارها من أهم الشركاء التجاريين والاقتصاديين لها، رغم ما نجم عن ذلك من توتر بين تل أبيب وواشنطن التي تخوض مع بكين حربا اقتصادية علنية، دفعت بأقطاب الإدارة الأميركية لتصنيف الصين على أنها التهديد الأول لها حول العالم، مما أحرج كثيرا الأوساط الإسرائيلية، وهي تحاول، عبثاً، تبرير علاقاتها بالصين أمام الأميركيين..
لقد شهدت تل أبيب في الشهور الأخيرة توافد مسؤولين أميركيين لمحاولة كبح جماحها عن الذهاب بعيدا في علاقتها مع بكين، ولاسيما بعد إعلان بايدن رسميا أن الأخيرة تشكل خطراً أساسياً على المنظومة الغربية عموما، والولايات المتحدة خصوصا، الأمر الذي من شأنه حصول تململ في العلاقة الإسرائيلية الصينية، فضلا عن إمكانية تأثرها سلباً مع تزايد الضغوط الأميركية عليها، وقد اتضح ذلك عمليا في التراجع الإسرائيلي عن منح الشركات الصينية بعض العطاءات والمناقصات الاقتصادية الكبيرة، رضوخا للمطالب الأميركية.
في الوقت ذاته، وبينما تستجيب إسرائيل، مؤقتاً، للضغوط الأميركية في كبح جماحها عن التقارب المتصاعد مع الصين، فإنها ترصد السلوك الأميركي الجاري في الانسحاب التدريجي من الشرق الأوسط: أفغانستان والعراق، وربما سوريا، وهو سلوك لاقى استهجانا ورفضا إسرائيليين كبيرين، لكن القرار الأميركي ماض كما يبدو، مما سيدفع بقوى دولية أخرى في العالم لملء هذا الفراغ، لن تكون الصين بعيدة عنها، بعد أن وصلت روسيا إلى المنطقة عبر سيطرتها شبه الكاملة على سوريا لحماية النظام فيها.
صحيح أن إسرائيل تجد نفسها أمام معضلة حقيقية في موازنة علاقاتها الاستراتيجية والتحالفية مع الولايات المتحدة من جهة، وعلاقاتها المتصاعدة مع روسيا والصين من جهة أخرى، كونهما البديل القادم للقوة الأميركية المنسحبة من المنطقة، وهي تعلم تماما أنها قد تدفع أثمانا باهظة ومكلفة في حال اضطرت للمفاضلة القسرية الحادة بين هذه القوى، ولا أظنها فاعلة كذلك، لأن إسرائيل ذاتها التي ترى نفسها مدعوة دائما للتشبث بقوى خارجية، كونها دولة غريبة عن المنطقة، وكيانا مصطنعا فيها، أتقنت على مدار عقود طويلة اللعب على حبال التناقضات الدولية.
عند ترجمة مثل هذا السلوك الإسرائيلي المتوقع يمكن قراءة استمرار السياسة الحالية المتبعة تجاه الحرب الأوكرانية كما بدأت منذ أواخر فبراير، دعوة علنية لاحترام السيادة الأوكرانية، وتقديم مساعدات إنسانية طبية، وعدم مواصلة إدانة روسيا، رغم تعثر وساطتها بين موسكو وكييف، أما مع الصين، فيمكن الحديث عن استمرار التبادل التجاري المتنامي معها، من دون استفزاز البيت الأبيض بالضرورة من خلال إبرام صفقات ذات طابع أمني استراتيجي، ومحاولة إدارة الأزمة مع واشنطن بأقل قدر من التكاليف.
ستبقى الولايات المتحدة هي "الحبل السري" لإسرائيل، وهي معنية بألا تغضبها بصورة كبيرة، لأن علاقتهما بروسيا والصين لن تكون فوائدها كما هي العلاقة مع واشنطن
إلى أي حد تنجح إسرائيل بهذه السياسة المتأرجحة بين القوى الثلاث: واشنطن وموسكو وبكين، فإن إجابة هذا السؤال مرهونة بالتطورات الميدانية، من دون الحاجة الإسرائيلية بالضرورة للوصول إلى مرحلة من القطيعة مع واحدة منها، وهو أمر قد يرضي الأخيرتين اللتين قد تكتفيان بمثل هذه العلاقة، لكن واشنطن التي توفر لتل أبيب كل أسباب الدعم والرعاية والحماية أضعافا مضاعفة لما تقدمه موسكو وبكين، ربما لن تقبل بذلك، مما سيجعل من هذا الملف واحدا من معضلات العلاقة الأميركية الإسرائيلية خلال الفترة المقبلة.
حتى كتابة هذه السطور، وإلى أمد منظور أو متوسط، ستبقى الولايات المتحدة هي "الحبل السري" لإسرائيل، وهي معنية بألا تغضبها بصورة كبيرة، لأن علاقتهما بروسيا والصين لن تكون فوائدها كما هي العلاقة مع واشنطن، رغم أن المستقبل القادم يعطي مؤشرات على تصاعد قوتهما على حساب واشنطن، لكن النظرة الإسرائيلية ليست، كما يبدو، في عجلة من أمرها لخسارة الحليف الكبير مقابل تقديرات قد تكون دقيقة لكن أمامها سنوات طويلة للتحقق على أرض الواقع.
وفيما تبدي إسرائيل استفادتها من الوجود العسكري الروسي على حدودها الشمالية في سوريا لمنع ترسيخ النفوذ الإيراني فيها، فإن استفادتها قائمة في الوقت ذاته مع الصين، التي تعتبر ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وشرعت معها إسرائيل بصفقات تجارية وتكنولوجية وتقنية، استفز بعضها الولايات المتحدة، وطلبت من إسرائيل رسميا إلغاء بعض هذه الاتفاقيات خشية نفاذ الصين إلى سوق التكنولوجيا الإسرائيلية، الذي يعني ضمنياً الوصول إلى عالم الهايتك الأميركي.