في العام 1991، كتب المسرحي السوري (سعد الله ونوس) بحثاً بعنوان (خيال الظل-إشكالية فن شعبي)[1] وصف فيه إشكاليات هذا الفن بالابتعاد عن المضامين السياسية بسبب القمع الذي مورس عليه عبر التاريخ، وابتعاده عن حيويته اللغوية الشعبية البذيئة والساخرة والمتهكمة التي سببتها عمليات التحرير وتنقية النصوص من هذه الأسلوبية.
في مسرحية خيال الظل، بعنوان (خيال كورديللو، فرقة مياس) يستعيد الكاتب والمخرج (عمر بقبوق) اللغة الشعبية، والحوارات الهجائية، والسرد الساخر اليومي، ليوظف تقنيات هذا الفن الاستعراضي بغاية التطرق لموضوعات الراهن السياسي والاجتماعي السورية، كالرقابة على الفن، حرية التعبير، الاعتقال، تجربة اللجوء، والأهم إشكاليات المسرح السوري الراهنة.
خيال الظل المعارض عبر التاريخ
تتعدد البحوث حول الأصول الأولى لعروض خيال الظل، ويرجح الباحث (روجيه عساف) في كتابه (سيرة المسرح أعلام وأعمال، الجزء الثاني، القرون الوسطى) الأصول الأولى لهذا الفن إلى جزر جاوا الإندونيسية، التي أقدم فنانوها على تطوير تقنيات هذا الفن حيث كان جزءاً من الحياة الاجتماعية والطقوس الدينية.
بعد ذلك تنقل هذا الفن بين الحضارات والمناطق الثقافية وصولاً إلى مصر. ويشير الباحث (عساف) إلى الأبعاد الهجائية والسياسية التي تضمنها مسرح خيال الظل العربي: "لقد فتن مسرح خيال الظل أجيالاً من المشاهدين من كل الأعمار ومن كل الطبقات في مصر والمشرق العربي وشمال افريقيا، وفي المدن والأرياف بين مراكش وإستانبول، وبالرغم على أنه اقتصر على التسلية الهزلية فلقد تعاطى الهجاء السياسي والانتقاد الاجتماعي إلى حد التعرض لاستنكار ومنع السلطات الدينية والمدنية، إذ شجب مراراً الظلم والاستبداد وصوّر الشرائح الفقيرة من الشعب بشكل واقعي. وعلى سبيل البيان، كان كركوز لا يزال نشيطاً في مقاهي الجزائر أثناء الفتح الفرنسي في القرن التاسع عشر وكانت أقواله فائرة إلى حد منع العروض قطيعاً من قبل السلطات الاستعمارية"[2].
أما الباحثة (ت. أ. بوتينتيفا) في بحثها المعنون (ألف عام وعام على المسرح العربي) فتهتم بدراسة القمع الذي تعرضت له تجارب مسرح الظل العربي خلال الحكم العثماني، لتقدم لنا نموذجاً للعلاقة المعقدة بين السلطات وهذا الفن الشعبي، فتكتب:
"خلال العهد العثماني في القرن 17 – 18 اكتملت تقنية العروض، وأصبح الاتجاه الديمقراطي في مسرح الظل العربي عرضة للملاحقة، وبينما شجع صلاح الدين، سلطان مصر، مسرح الظل، قام السلطان الآخر تشاكماك في عام 1451 بمنع مسرح الظل وحرق لبعه ومعداته، أما السلطان سليم الأول 1517 وبعد احتلال مصر، فنقل أفضل المخيلين المصيريين إلى إستانبول. وقد تشكلت أيام العثمانيين أوضاع انعكست أحياناً بشكل قاتل على تطور الثقافة في البلاد العربية ولوحق الفن الشعبي بوحشية. وهكذا تحول كركوز الطيب المحبوب إلى عسكري تركي يتعرض للسخرية والضرب، وراح يلجأ للخديعة والعنف عوضاً عن حضور البديهة والمرح. كما اضطر المخيلون الاختفاء في الأرياف خوفاً من السلطات. كما حظر مسرح الظل في مسرح أيام تواجد نابليون بونابرت فيها. ومع أن مسرح الظل كان يغيب ويظهر في مصر إلا أن شعبيته وقدرته على الحياة كانت أقوى فاستمر بنزعاته المعادية للاستعمار. وعورض مسرح الظل في تونس فتقلص امتداده واقتصر على البيوت، أما في الجزائر فقد لاقى أقسى الظروف ومنعه الفرنسيون عام 1843"[3].
تقوم الحكاية على أن شخصية (عيواظ) فنان مسرحي يقدم العروض لتنفيس الشعب، في إشارة إلى دور الفنون والمسرح في ظل غياب حرية التعبير
كركوز وعيواظ في ظل القمع، الاعتقال، واللجوء
في العام 2019، قدمت فرقة (مياس) عرضاً مسرحياً في بيروت تحية إلى (زكي كورديللو) فنان مسرح خيال الظل السوري المغيب قسراً منذ العام 2012، حمل العرض عنوان (خيال كورديللو) من كتابة وإخراج (عمر بقبوق) الذي سعى إلى استعادة العناصر الفنية لمسرح خيال الظل مع تضمينها الموضوعات السياسي والراهن الاجتماعي السوري اليوم، وذلك من خلال نص يروي حكاية بين كركوز وعيواظ في خمسة فصول كل واحدة تشكل موضوعة محددة. فبالإضافة إلى الموضوعات السياسية والاجتماعية الراهنة في الواقع السوري، يعالج النص أيضاً وضع الفن والفنانين المسرحيين السوريين بين الداخل السوري واللجوء. وقد حرص الكاتب (عمر بقبوق) على الحفاظ على أسلوبية نصوص مسرح خيال الظل من خلال استعمال اللغة الشعبية المليئة بالسخرية والتنمر والبذاءة والشتائم. فالمشهد الأول مثلاً مليء بالأفعال المتعلقة بالحاجات العضوية للجسد كـ "الضراط والتبرز" وغيرها من الأفعال التي تعتبر مضحكة في الثقافة الشعبية وشبه محظورة في الفن الرسمي، بينما تذكر الدراسات أنها كانت ميزة الأسلوب الشعبي في عروض الظل.
تقوم الحكاية على أن شخصية (عيواظ) فنان مسرحي يقدم العروض لتنفيس الشعب، في إشارة إلى دور الفنون والمسرح في ظل غياب حرية التعبير. يتذكر (عيواظ) الأيام التي كان فيها مؤدياً مسرحياً مدعوماً ومحظياً، حين كان "المعلم" يسمح له الحديث في السياسة للتنفيس على الشعب، حينها كان ينعم بمزايا السلطة كالحصول على السيارات، ورخصة حمل السلاح، والحماية من قوات الأمن الرسمية، لكن تغير حال البلاد، وصعوبة الاستحصال على "رضى وضحك المعلم"، الذي لم يعد يضحك، مما يفرض على (عيواظ) البحث عن مؤدي يساعده في إضحاك "المعلم والجمهور" في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ البلاد، وهكذا وضع إعلان في البحث عن شريك مسرحي، وبناءً عليه تعرف على (كركوز) كمساعد له.
يركز الحوار التالي كل الأفكار السابقة؛ عن الواسطة والفن، وعن دور الفن في إضحاك السلطة، وعن مزايا الفنانين في خدمة السلطة، وعن الأزمة التاريخية التي تمر بها البلاد:
"عيواظ: لولاي بعمرك ما صرت. لك أيه، إس الله أيام العز... أيام دلال المعلم، لما كان يقلنا احكوا سياسة ... نفسوا عن الشعب. بزمناتو كنت الشخصية الأولى من بعد المعلم. أيه نعم، ومن كتر ما كان يحبني واتعود علي فرزلي 3 عساكر، قايمين نايمين بخدمتي. مو بس هيك، فرزلي سيارة من فرع أمن الدولة مع شوفير ومفيمة. مو بس هيك، عطاني رخصة سلاح ثقيل، بس أنا حملت مسدس، أهيب وأحلى . وبيوم من الأيام، وأنا سارد لركب قصة جديدة ضحك فيها المعلم، خطرلي –وياريتو ما خطرلي- أنو لازم جيب ممثل معي، كومبارس، يعني شي اكسترا بأقصى حد، لحتى قفل عليه وضحك المعلم على هبله، لأنه المعلم كان آخر فترة عم يضحك بلا نفس. معه حق، قليلة هالأزمات المتلاحقة اللي عم تمر على أمتنا؟ فحطيت خبر على صفحة "سوريا كاستنغ"، وعملت تجارب أداء، وبالفعل اتعرفت عليك وأخدتك وحطيتك معي.
كركوز : يعني مو الواسطة اللي حكت معك كرمالي؟
عيواظ : فشرت ولاك، أنا زلمة مستقيم، ما بحب الزايحه وما عندي هيك حركات.
كركوز: معناتها أنا موهوب، أعترف لشوف"[4].
تتالى الحوارات الهجومية بين (عيواظ وكركوز)، والتي يتنمر كل منهما فيه على الآخر، ينتهي المشهد الأول بينهما بما يشير إلى التضييق على حرية التعبير في سوريا، ويتطور الجدل السياسي بينهما إلى أن يهتف (كركوز) بشعارات الثورة السورية في إلغاء قانون الطوارئ وإطلاق حرية التعبير، فتتدخل في المشهد يد خارجية، وتقوم بسحب (كركوز) من المشهد مما يرمز إلى اليد الطولى للرقابة الأمنية وممارسات الاعتقال التعسفي بحق الفنانين/ نات:
"عيواظ: طيب جرب أنت لشوف ... شو اللي زاعجك بوضع البلد؟
كراكوز: أخي بدنا حرية، بدنا نلغي قانون الطوارق، بدي أختي تطلع الساعة تلاته بالليل، بدي أفتح فيسبوك بلا بروكسي، بدي وقف بنص الطريق وسب الرئيس وما حدا يحاكيني شي.
عيواظ: اعتبر حالك بنص الطريق
كراكوز: اسمعلي هالشعارات لقلك: حرية حرية حرية، الموت ولا المذلة...
صوت من الخارج: بدك حرية! قب تقلك قب، ولله لشلك زلاعيمك.
(يسحب كراكوز إلى الأعلى)[5]".
نذكر أن إدخال الأغاني الشعبية جزء من عروض خيال الظل التراثي، وفي المشهد الثاني من المسرحية بعنوان (تيرشرش) يقابل (عيواظ) رجلاً غريباً، يرمز بسلوكه إلى رجل الأمن الذي يحاول عبر الحوار أن يستنطق (عيواظ) عن آرائه السياسية، ومن ثم يعرض عليه مساعدته للخروج من البلد لقاء مبلغ من المال "تيرشرش، فتيت عملة؟"، ويرجح أن الكاتب كتب هذا المشهد بغاية الإضاءة على الفساد المستشري في سوريا.
المشهد الثالث بعنوان (حكرة بكرة) يتابع فيه النص تجربة (كركوز) في المعتقل، لقد دخل السجن بسبب مطالبه الإصلاحية، ومورس عليه جولات قاسية من التعذيب. يتحدث الدمية (كركوز) في الزنزانة مع سجين غير مرئي، في كناية عن طول المدة الزمنية التي قضاها في المعتقل، 30 سنة. يروي (كركوز) لذلك السجين ما تعرض له من تعذيب، بينما يروي السجين غير المرئي إلى (كركوز) الحكاية التي قادته إلى الاعتقال. في الحكاية الأولى يدين الكاتب أساليب التعذيب، وفي الحكاية الثانية يركز على الفوضى في عمليات الاعتقال السياسية في السجون السورية:
"كراكوز: ولله يا صاحبي ما لقيتهن غير زتوني بهالقبو... وأجتهن الأوامر يضلوا يسفقوني لحتى يدموني .... ومحسوبك مصنوع من خشب... فضلوا يضربوني ويسلخوني فوق الشهر... ويتناوبوا عليي 3 ورديات... كل كم ساعة يتغير الطقم... وصرت صلي ينزل مني ولو نقطة دم".
ثم يحول الكاتب النص إلى الرقابة على الفرق والإنتاج المسرحي في سوريا:
"كركوز: ولما حسيت أنو أيدي رح تفرط مثلت أني عم أتوجع وقلت آخ... شنو محسوبك ممثل... وعندي فرقة مسرحية مكونة من شخصين... أنا النجم فيها... وفي معي عيواظ... الله لا يوجهلو الخير كيف ما اندار وجهو... هو اللي ورطني... أنا مالي علاقة لا بسياسة ولا غير سياسة".
كذلك يسعى النص المسرحي، عبر حكاية اعتقال (كركوز) للإحالة حول ممارسات النظام الأمني تجاه المعارضين في إجبارهم التوقيع على اعترافات وهمية وإلحاقهم قسراً بتهم التطرف والإرهاب. كذلك نتعرف حكاية السجين غير المرئي، حيث اعتقله رجال الأمن لأجل الضغط على أخيه لتسليم نفسه، لكن ما جرى معه لاحقاً يجمع بين السخرية والمأساة. وينحو العرض مع المشهد الرابع بعنوان (الحمار والجزرة) إلى رواية تجربة النزوح والهجرة التي عرفها المجتمع السوري. وفي هذا المشهد تقسم شاشة خيال الظل إلى قسمين، ويظهر كل من دميتي (كراكوز وعيواظ) في قسم منها، يتحادثان على طريقة محادثة الفيديو "فيديو سيلفي". ويستعرض الحديث هروب (عيواظ) إلى لبنان، ورحلة لجوء (كركوز) من إدلب، ومنها إلى تركيا.
يتابع الكاتب والمخرج (بقبوق) توظيف الوسائط الجديدة في السينوغرافيا وفي السرد المسرحي في المشهد الخامس والأخير، وهو عبارة عن حوار عبر تقنية "الفيديو كول" على الإنترنت بين الدميتين (كركوز وعيواظ). وفي هذا الجزء الأخير من الحكاية يصل (كركوز) إلى ألمانيا، ويبدي تغيراً في شكله، فيضع حلقات البريسنيغ ليظهرها إلى (عيواظ)، ويتحدث عن انتمائه إلى أوروبا. وتروي الدمية (كركوز) عن الإجراءات الإدارية المتعلقة بمعاملة اللاجئين، حيث تتهافت الدول الأوروبية على موهبته التمثيلية وتترجاه الدولتان الألمانية والفرنسية أن يقيم على أراضيها. يضمن الكاتب في أسلوب الحوار نوعاً من السخرية على الفكرة المثالية التي يعتقد فيها الفنانون السوريون أنهم سيعاملون على أساسها في دول اللجوء الأوروبية:
"كراكوز: الله وكيلك ... دول الاتحاد الأوروبي كلها عم تتقاتل عليي ... وكل كم يوم بيجيني حدا بيقنعني روح قدم معاملة اللجوء ببلدو.
عيواظ: كأنو الدنيا غيمت تماسيح.
كراكوز: الله وكيلك... كل ما أقعد مع حدا بيقلي ياريت اللاجئين كلهن متلك... ولقبوني باللاجئ المثالي... ومن كم يوم أجت بنت فرنسية بتشتغل بإن جي أو... أخدتني على جنب وصارت تقنعني قدم معاملة اللجوء عندها لأنهن بحاجة فنان موهوب متلي".
أما حكاية (عيواظ) في هذه المرحلة من المسرحية، فتنقل لنا مشكلة اللجوء السوري في لبنان والعنصرية الممارسة في حق اللاجئين:
"عيواظ: وقفوني عالحاجز وأخدوني عالسجن لأنو ما معي إقامة... وزتوني بالزنزانة يومين متل الكلب قبل ما يطلعوين ويقولولي روح سوي وضعك... لك أنا يا كراكوز أتبهدل هالبهدلة بعد كل العز اللي كنت فيه".