قبل نحو عشرين عاماً كتبتُ مقالاً عن الطائفية في سوريا التي استهدفت إرث الأمويين في عاصمتهم دمشق وقد انتشر بشكل كبير وما يزال يُقرأ حتى اليوم، كان عنوانه آنذاك ”البحث عن بني أمية في سوريا الأسد“، وقد سئلت عنه وحوسبت عليه رسمياً من قبل مخابرات الأسد وأجهزته، اخترتُ له مطلعاً مستعاراً من أمير الشعراء أحمد شوقي بك يقول فيه:
ظمئتُ ومثلي برّيٍّ أحقُّ
كأنّي حسينٌ ودهري يزيدْ
وكان استحضار شوقي للحسين ويزيد بعيداً كل البعد عن الطائفية، فلم يُعرف عن الرجل أنه كان طائفيا رغم استخدامه لرمزية الحسين في مواضع عدة، وهو البعد الذي أومأت إليه في المقال بين الحريات والطائفيات.
اليوم أرى أنه كلما مات شاعرٌ انحسر الكون في بعده الجمالي على الناس، وتراجعت الذائقة التي تنمو كما في كل زمان ومكان على أيدي الشعراء وحدهم. ولكن أيضاً يترافق غياب الشعراء الكبار مع توق لدى الجمهور باستبدال من رحلوا بآخرين جدد يواصلون خفق اللغة مع الخيال والتجربة لتبقى الشعرية مستمرة، لأنها جزء أصيل وأساسي من الهوية الثقافية لكل أمّة.
وكثيراً ما استوقفني ما ينتهزه البعض من فرصة حين يرحل شاعر للطعن فيه أكثر من التوقف لبرهة تأمّل تفيد الجميع، تستعرض ما قدّمه ذلك الشاعر من فتوحات، أوما تورّط فيه من مواقف أو حتى انزلاقات أدبية. هذا ما حصل قبل أيام مع رحيل الشاعر العربي الكبير مظفر النواب.
لم أكن أقرب الناس إلى مظفر، وكان لديه العديد من الأصدقاء ممن رافقوه حتى أواخر أيامه أو من كانوا من قبل على صلة يومية به قبل مرضه، لكن الأمانة التي تقضي عليّ أن أكون وفياً لسنوات طويلة احتفظت بها بصداقة خالصة وندية معه، رغم فارق العمر والتجربة، دفعتني للرد على ما اتهمه به من سارعوا إلى إلصاق قصائد مزيفة به، أو سرد حكايات لا أساس لها ولا علاقة لها بالواقع للقول إنه كان طائفياً أو غير ذلك مما طاب لهم واشتهوا دون أن يرف لهم جفن. فلا أكون إلا عند حسن ظن صديقي القدير الذي بات في العالم الآخر الآن ولن ينفعني بشيء، وهو الذي عرفته عن كثب وعرفت آراءه وانفتاحه على الجميع دون تمييز طائفي أو قومي، وسمعتُ منه أول انتقاد موثّق لأدونيس وميوله الطائفية في وقت مبكر جداً، قبل أن يكتشفه الناس في هذه السنوات.
لا بأس. الحق في انتقاد الجميع مكفول، على أن يكون ذلك النقد مبنياً على أصوله، فالنقد الأدبي يحتاج منك أن تتسلح بعدّة الناقد الأدبي، وأقلها الاطلاع الكافي على ما تتحدث عنه وما تضعه على طاولة التشريح. عندئذ يمكنك أن تمنح ذاتك حريتها كاملة مع حياء يفرض عليك أن تقول أن هذه هي حدود معرفتك وأن رأيك قد يكون صواباً وقد لا يكون.
أما النقد التحليلي المتصل بالعقائد والمذاهب والايديولوجات، فهذا يتطلب ترسانة أخرى، عليك أن تتزوّد بها قبل أن تقول إن هذا المنتج النصي يعود إلى إيمان صاحبه بتلك العقيدة أو تلك، أو أن هذا الاستخدام للرمز التاريخي أو الديني، القصد منه تكريسه أو السخرية منه أم توظيفه لقول فكرة ما بعيدة عن المباشرة. وهكذا يسري الأمر ذاته على بقية صنوف النقد وتخصصاته. إلا أن بوابة الهراء التي فتحتها وسائل التواصل الاجتماعي على العالم كله، جعلت من السهل على أي مستخدم أن يكيل النقد لشاعر أفنى حياته في العناية بعبارته وشحن عقله بالمعرفة وحياته بالتجربة المرة، ويشطبه بجرة قلم ويحيله إلى عنصر في "الحشد الشعبي" أو "حزب الله". وهذا نوع من الانتحار يصوّب المرء فيه لا على الشاعر وحده بل على ذاكره هو وعلى مخزونه من الوجدانيات.
منذ متى كان الشعراء يُحاسَبون على الرموز التي يستحضرونها من التاريخ؟ ومن الصراعات التي عصفت به، ومن إشكالياته حين يريدون إسقاطها على إشكاليات الراهن؟ ولماذا لا يُحاسب شعراء وأدباء تناولوا القضايا ذاتها بالطريقة ذاتها حين يكون انتماؤهم المذهبي مطابقاً لمذهب من ينتقدهم؟ مع أن كل هذا النهج نهجٌ مضلّل لن يقود إلى شيء. حينها يمكننا التخلّص من المتنبي الشيعي، أعظم الشعراء العرب دون منازع، الذي يقول عنه المستشرق الفرنسي جوزيف بلاشير وفقاً لعميد الأدب العربي طه حسين في كتابه "مع المتنبي" إنه: "كان بما عُرف عنه من ميل إلى علوم الشيعة الذي خلفته الوراثة والنشأة الأولى في مدرسة العلويين، قادراً على الموازنة بين ما يعتقده وبين الاتجاهات المذهبية الأخرى". تعال نقرأ مما كتبه المتنبي الذي يقول:
إذا علويٌ لم يكن مثل طاهرٍ
فما هو إلّا حجةٌ للنواصبِ
أو حين يخاطب سيف الدولة الحمداني بقوله:
يا سيف دولة ذي الجلالِ ومن له
خير الخلائقِ والأنامِ سَمي
انظرْ إلى صفّين حين دخلتها
فانحازَ عنكَ العسكرُ الغربي
فكأنه جيشَ ابن هندٍ رُعته
حتى كأنكَ يا عليُّ عليّ
وذاك أبو فراس الحمداني الشيعي الآخر الذي لا يتصوّر أحدٌ أن يفرّط به العرب المسلمون بكافة طوائفهم ويجرّدوه من مكانته لاختلافهم اليوم مع فصيل من الشيعة تستخدمه إيران لاستعادة نفوذها الفارسي. يقول أبو فراس:
شافعي أحمدُ النبيّ ومولا
يَ عليٌ والبنتُ والسبطانِ
وعليٌ وباقرُ العلمِ والصا
دقُ ثم الأمينُ ذو التبيانِ
دعك من التشيّع وفكّر في الاتجاهات الأخرى التي ترفضها اليوم، التشدّد والتطرف الديني الذي ادعى النطق باسم السنة، فهل ستتخذ موقفاً من قطري بن الفجاءة الخارجي (الداعشي قبل داعش بقرون) صاحب القصيدة التي تحفظها كل الطوائف والمذاهب العربية دون تردّد وتدرّسها في مناهجها التربوية لكافة الأجيال:
أَقولُ لَها وَقَد طارَت شَعاعاً
مِنَ الأَبطالِ وَيحَكَ لَن تُراعي
فَصَبراً في مَجالِ المَوتِ صَبراً
فَما نَيلُ الخُلودِ بِمُستَطاعِ
ماذا بعد؟ هل هي لحظة تحريم وتكفير أدبي يُحاكم فيها الشعراء على توظيفهم لما أرادوا خدمة لفكرة أو جمالية قصيدة؟ كم سيقيّد هذا القدرة على الإبداع والخلق ناهيك عن حرية الرأي والتعبير.
ومن جهة ثانية أجد أن كتاباً وفلاسفة يحتكمون على معرفة كافية هم الذين يحق لهم رفض ما يشاؤون، بينما لا يحل لمن لا يمتلك ما لديهم أن يخوض في ما خاضوا فيه، لأنه لا يعرف ولا يستطيع، وحينها سيكون نقده تهجماً وسفاهة لا تحليلاً وتفكيكاً للنصوص يمكن أن يستفاد منه.
وهي فرصة من نوع آخر أيضاً، لرصد الإحداثيات التي وصلت إليها المجتمعات في المستنقعات الطائفية، وكذلك مستنقعات الشعر العربي ذاته الذي بات بعض شعرائه ينشرون شعارات وهتافات على أنها قصائد.
مثل ماذا؟ مثل ما نشره أدونيس عن الخميني، وما نشره نزيه أبو عفش عن بوتين.
لنقرأ في ذلك. أدونيس شاعر عربي كبير، لأنه كان واحداً من جيل خاض تجربة مهمة في تطوير القصيدة العربية واجتراح جرأة غير مسبوقة في تحديث لغتها وقوالبها ومواضيعها، غير أن أدونيس ذاته هو من ضمّن شعره لافتات من خارج الشعر تدينه وتجعل من السهل علينا فضح استغلاله لمكانته الشعرية وتوظيفها حسب المصالح السياسية والطائفية ونموذج قصيدته الشهيرة عن انتصار الخيمني كافٍ لقول كل شيء:
كيفَ أروي لإيرانَ حبي
والذي في زفيري
والذي في شهيقي
تعجزُ عن قولِهِ الكلمات
مقام اتضح أكثر بعد الموقف العدواني الذي اتخذه أدونيس من ثورة الشعب السوري التي عاب عليها أن تخرج من الجوامع.
نزيه أبو عفش شاعر صدع رؤوس الناس بالحديث عن الحرية والشكوى من الاضطهاد وتكميم الأفواه، وحين قامت الثورة السورية سارع إلى تضمين شعره لافتات سياسية منحازة إلى انتمائه الديني المسيحي ترى في بوتين مخلّصاً.
أعترف أني أجد صعوبة في بذل مشقة لا لزوم لها لبناء جدار عازل يفصلني عن الإصغاء لمن تغنوا بآل البيت وسردوا المآسي التي تعرضوا لها، هل علي فعل ذلك فقط لأني أستعمل أداوات السياسة والتأريخ بدلاً من أدوات الأدب، ولأني أرى في الدولة الأموية (العربية المدنية) مثالاً حضارياً رفيعاً. أما الموقف النقدي، ابن هذه اللحظة، مما حصل في الماضي من صراعات، فلا يجوز أن يمحو إرثاً إبداعياً ضخماً هو كلّ ما تمتلكه الأمة العربية والثقافة العربية التي تواجه اليوم حرب وجود وتهديداً بالزوال والاضمحلال.
لم يمتدح النواب حسن نصرالله، كما أشيع، بل عباس الموسوي الذي اغتالته إسرائيل حين كانت المقاومة في وعي الناس كلهم عملاً جليلاً، وما يتم ترويجه هو كتابة ركيكة لا يكتبه طالب في الابتدائية، بالمقابل فقد كان ينتقي من يريد امتداح أفعالهم على أساس تمردهم، ماذا سنقول عن قصيدته التي يمتدح بها جيهمان العتيبي السني الوهابي الذي احتل الحرم المكي وثار على الدولة السعودية في الحادثة المعروفة، وماذا سنقول عن امتداح النواب لخالد الإسلامبولي السني السلفي الذي اغتال أنور السادات، وماذا سنقول عن امتداحه لسليمان خاطر الجندي المصري الذي قتل السياح الإسرائيليين في سيناء أو امتداحه للشهيد خالد أكر السوري الحلبي الذي انطلق بطائرة شراعية لشن هجوم على الإسرائيليين، وماذا سنفعل بقصيدته عن سناء محيدلي اللبنانية التي شنت عملية انتحارية ضد الإسرائيليين؟ وكل تلك القصائد موجودة ويمكن العودة إليها بسهولة.
وإن كان النواب، الإسماعيلي المذهب، قد استعار في ملحمته "الوتريات الليلية" شخوص تاريخ الفتنة الأولى في الإسلام كما رآها كل الماركسيين حينها صراعاً بين الأثرياء والفقراء، وحرب علي مع معاوية ومبارزته لعمرو بن العاص، التي هي بالمناسبة حادثة تاريخية موثقة لا يختلف عليها أحد أوردها نصر بن مزاحم الكوفي، وجاءت في "الأخبار الطوال" ص 177 و"المناقب" للخوارزمي: 236 و 240 و "الفصول المهمة" ص 89 و"مروج الذهب" 2/397، وأوردها العقاد في كتابه "عمرو بن العاص" ص238- 239- طبعة دار الكتب، حين قال: "وكان علي - رضي الله عنه - كثيرًا ما يتقدم بين الصفوف داعيًا إلى المبارزة، فبدا له يومًا أن يدعو معاوية لمبارزته فأيهما غلب فالأمر له، وتحقن دماء الناس، فنادى: يا معاوية، فقال هذا لأصحابه: اسألوه ما شأنه؟ قال: أحب أن يبرز لي فأكلمه كلمة واحدة. فبرز معاوية ومعه عمرو، فلما قارباه لم يلتفت إلى عمرو، وقال لمعاوية: ويحك علام يقتتل الناس بيني وبينك؟ ابرزْ إليّ، فأينا قتل صاحبه فالأمر له، فالتفت معاوية إلى عمرو فقال: ما ترى يا أبا عبد الله؟ أبارزه؟ فقال عمرو: لقد أنصفكَ الرجل، واعلم أنك إن نكلت عنه لم تزل سُبّة عليك وعلى عقبك ما بقي عربي، فقال معاوية: يا عمرو ليس مثلي يخدع نفسه، والله ما بارز ابن أبي طالب رجلاً قط إلا سقى الأرض من دمه. ثم تلاحيا وعزم معاوية على عمرو ليخرجن إلى علي، إن كان جادًا في نصحه، ولم يكن مغررًا به طمعًا في مآل أمره، فلما خرج للمبارزة مكرهًا وشد عليه عليٌّ المرهوبة، رمى عمرو بنفسه عن فرسه، ورفع ثوبه وشَغَرَ برجليه فبدت عورته فصرف عليُّ وجهه عنه وقام معفرًا بالتراب هاربًا على رجليه، معتصمًا بصفوفه". وهي حادثة لا تسيء لعمرو بل تظهر دهاءَه ليخلص نفسه من القتل، وهو الذي كان يعرف أن عليا لا ينظر إلى عورة أحد، وهو عمرو الشهير بحكمته التي كان عمر بن الخطاب يقدّرها وكان يحبه شخصياً ويعجبه منطقه، وروى المؤرخون أن الفاروق عندما كان يرى رجلاً لا يُحسن الكلام كان "يصكّ فاه"، ويقول: "سبحان الله، إن الذي خلقَ هذا خلقَ عمرو بن العاص". إن فعل النواب ذلك فقد سبقه آخرون إلى تناول السيرة ذاتها سواء في الرواية أو الشعر ومثال ذلك فقط في الأدب المصري الحديث كتاب عباس محمود العقاد "أبو الشهداء..الحسين بن علي"، وكتاب عبدالرحمن الشرقاوي "ثأر الله" بجزأيه "الحسين ثائرًا" و"الحسين شهيدًا"، وكتاب خالد محمد خالد "أبناء الرسول في كربلاء".
ومن بين الشعراء السوريين من استعمل التيمة ذاتها كمحمد الماغوط في قصيدته التي يقول فيها:
"بردى أيها الحسين المتناثر هنا وهناك. سأستردك من النوافير والصنابير والأقداح. وقدور الحساء في المطابخ. ومطرات الجنود في المعارك، وغرف الإغماء والإنعاش في السجون والمستشفيات لأردّ لكَ اعتبارك على طريقتي".
وقد انتقدتُ شخصياً توظيفه لذاك الرمز حينها، لا لاعتباره رجع إليه لأسباب طائفية صرفة، بل لانعدام التمدّن بخياله في التعامل مع مدينة مثل دمشق وعجزه عن رؤية عاصمة الأمويين إلا من خلال "نظارة الحسين". فماذا سنفعل بهؤلاء إن طبقّنا عليهم المسطرة ذاتها التي يرفعها البعض اليوم، وكأننا نطلب من الناس التخلّي عن مفردات ذاكرتهم بدلاً من تطويرها وعدم توظفيها في طريق الكراهية والحقد؟
وخير ما يُختم به مثل هذا الكلام استحضارٌ جديد لشوقي وقصيدته بعد زمان بعيد:
سُنونٌ تُعادُ وَدَهرٌ يُعيد
لَعَمرُكَ ما في اللَيالي جَديد
نَعُدُّ عَلَيهِ الزَمانَ القَريبَ
وَيُحصي عَلَينا الزَمانَ البَعيد
ظَمِئتُ وَمِثلي بَرِيٍّ أَحَقُّ
كَأَنّي حُسَينٌ وَدَهري يَزيد