في بحثها المعنون "المسرح داخل سورية بعد الثورة: أيديولوجيا مفروضة ومحاولات لكسر الهيمنة" تتوقف الباحثة "أليسار علي" على جوانب متعددة من واقع المسرح السوري اليوم، وتكتب تحت عنوان "المسرح والسياسة": "كل مسرح هو بالنهاية مسرح سياسي.. والمهم أيّ سياسة يخدمها هذا النص المسرحي أو ذاك؟ باتجاه ترسيخ الوضع القائم أم باتجاه التغيير لمصلحة التقدم الاجتماعي؟".
إن مقولة كهذه للمسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس، والتي قيلت في حوار أجراه معه الدكتور نبيل حفار في مجلة الطريق عام 1986م، من شأنها أن تعبّر بدقة عن وعيه لماهية عروض المسرح السوري في الثمانينيات، والتي استمرت بوضوح أكبر من دون أي خجل بعد ثورة 2011. فالعروض، إما رسّخت ومجّدت بطولات ومقاومة نظام استمر بالحكم الدكتاتوري لأكثر من 40 عاماً، كعرض "الوصية" 2017 من إخراج ممدوح الأطرش، وعرض "تصحيح ألوان" 2017 لسامر محمد إسماعيل.. إلخ. أو عروض حاولت بتأن التشكيك بكل ما تمّ ترسيخه من قبل هذا النظام من أبديات ومقدسات لا يمكن المساس بها كعرض القراءات "على الطريق" 2014 لـ وسيم الشرقي، وعرض "من أجل نعم من أجل لا" لـ مجد فضة. وبين هذين النقيضين من العروض تتراوح عروض كثيرة لها رؤاها بين هاتين الضفتين.
تحت عنوان "دار الأسد للثقافة والفنون: أدلجة مفضوحة" تكتب أليسار: شهدت مسارح دار الأوبرا بدمشق منذ عام 2011 حتى الآن كثيرا من العروض الراقصة الشعبية (فرقة آرام للمسرح الراقص، يارمركا للموسيقا والرقص الشعبي، فرقة آشتي للفلكلور الكردي، فرقة الرقة للفنون المسرحية، وغيرها)، بينما بدت العروض الأكثر حظوة وتمويلا في دار الأوبرا هي العروض التي تمجد نظام المقاومة وتخدم توجهاته بعلانية مفرطة، كعرض "الصبر ساعة النصر" 2017 من إخراج مأمون خطيب، وعرض "الطريق إلى الشمس" 2015 من إخراج ممدوح الأطرش، حيث تشترك نوعية هذه العروض الضخمة إنتاجياً ومثيلاتها، بارتفاع قيمة تمويلها من قبل النظام أو من تنظيمات موالية له، وبأنها تقوم على شكل عرض يخلط بين حوارات تمثيلية، وأغانٍ يؤديها مغنون معروفون بتأييدهم للنظام (شهد برمدا، نورا رحال)، وأداء جسدي، وفرق موسيقية حية على المسرح.
وتتابع الكاتبة: "كل هذا الخلط بين الأنواع يمكن وصفه بالسطحي وغير المترابط لتقديم استعراض طويل المدة من دون أي مستوى فني أو مضمون درامي يخدم فكرة إنسانية أعمق من توجهات مقرّرة مسبقاً، مكتوبة ضمن نص مخصّص للعرض فقط لتقديم أجندات باتت معروفة ومكررة إعلامياً (استعطاف الشعب تجاه الجيش وتمجيد انتصاراته عن طريق حكاية بسيطة تستجدي عواطف الجمهور تجاه الأمهات وأحزانهن ونواحهن، وإسناد كل الفظائع للمعارضة ونسب التسليح لها بشكل اعتباطي واتهامها بالخيانة، ومن ثم الفخر بالانتصارات الوطنية وبزوال المؤامرة الكونية)"[1].
أصول مسرح البروباغندا: دراما التتويج الفرعونية
يمكن العودة في البحث عن أصول المسرح الدعائي أو البروباغندا إلى الأدوار التي أنيطت بالعروض الاحتفالية في الحضارات الأولى. يكتب المؤرخ والباحث المسرحي فؤاد دوارة: "إن دارس تاريخ المسرح دراسة فاهمة متأملة يلمس بوضوح أن السياسة كانت دائماً عنصراً أساسياً فيه، بحيث يصعب أن يخلو المسرح في أي عصر من الارتباطات السياسية القائمة محاولاً التأثير فيها بصورة أو أخرى"[2].
ويربط الكاتب دوارة نشأة المسرح بالطقوس الاحتفالية التي كانت توظف الموسيقا والغناء والاستعراض، وهي أولى تجليات العلاقة بين المسرح والسلطة الدينية، وهو ما بقي قائماً في أوروبا حتى القرون الوسطى بين المسرح والكنيسة في تنصيب الأباطرة والملوك. إن هذه القراءة التاريخية تبين أن نشأة المسرح الاحتفالية، الطقسية، أو الدينية على علاقة مباشرة مع الفن كأداة دعائية للاحتفال بتنصيب الحاكم، أو النصر في الحرب، أو الإنجازات التي حققت من قبل السلطة الحاكمة. وهي ما عرف في الحضارات الأولى مثل الحضارة الفرعونية، التي يكتب عنها سليم حسن عن الدراما المنفية وهي من الفترة الفرعونية: "تعود الدراما المنفية إلى 3400 قبل الميلاد، ودراسة استعراضاتها تدل بوضوح أنها مسرحية تحتفي بسيادة الإله نباح وتزعّمه "منف" مدينته الأصلية تزعما سياسيا، وتجسد انتصارات مينا مؤسس الدولة الأسرة الأولى".[3]
ويكتب سليم حسن عن دراما التتويج التي ترجع إلى قرابة 3000 سنة ق.م وتصور الشعائر الدينية التي مثلت عند تتويج الملك سنوسرت الأول بعد والده أمنمحاب: "ليس أدل على ذلك من امتزاج الأهداف الدينية والسياسية في المسرح المصري القديم، ويتأكد هذا في دراما انتصار الإله (حورس) على أعدائه، وهي تصور حرب الانتقام التي شنها حورس على (سيث) أو (ست) قاتل أبيه. وكان رئيس مرتلي المعبد هو الذي يلقي الأحاديث، وكان مفروضاً على الملك كذلك أن يلعب دوراً في المسرحية. وإن تكرر تمثيل هذه المسرحية في (إدفو) سنوياً، فكان القصد منها تأكيد سلطان الملك الذي هو حورس الحي والتذكير بنصره الدائم على أعدائه"[4].
ويعتبر الناقد (أتيين دريتون) هذا الاستعراض الفرعوني كمسرحية سياسية عاصفة لاذعة "لا يمكن لأية رقابة في العالم أن تسمح بمثلها في أي بلد محتل في عصرنا الحاضر. وبذلك لا يكتفي التدليل على وجود مسرح دينوي وحسب بل يؤكد على الطبيعة السياسية لهذا المسرح"[5].
فرانكو مسرح الانتصار والميلودراما البرجوازية
تتعدد نقاط التشابه أو التقارب بين الوضع السياسي والاجتماعي السوري اليوم ووضع إسبانيا بعد الحرب الأهلية بين 1936-1939، وانتصار الجنرال فرانكو واستمراره في الحكم حتى عام 1975. وكما هي الحال السوريّة، فقد تعددت أنواع المسارح التي عرفتها إسبانيا في تلك الفترة، المسرح الرسمي داخل إسبانيا، ومسرح كتاب المنفى، والمسرح المتأثر بتيارات السريالية والعبث. لكن النظر إلى خصائص المسرح الذي انتشر في إسبانيا تحت حكم فرانكو يبين لنا التقارب مع العديد من مظاهر المسرح الدعائي، ومنها الإنتاج المسرحي السوري اليوم.
كتب "صالح علماني" عن المسرح الإسباني في تلك الفترة: "درج دارسو ومؤرخو المسرح الإسباني، منذ انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية عام 1939، حتى خمسينيات القرن العشرين على التأكيد أن إسبانيا ما بعد الحرب الأهية، إسبانيا بلا مسرح. وربما كانوا محقين في ذلك، لكونهم ينطلقون من مقولة أن المسرح هو العرض المسرحي المجسد، هو خشبته وما يدور فوقها. أما النصوص المسرحية، فهي كتابات إبداعية أدبية، لا تدخل في حساب دارسي المسرح إلا بعد تجسيدها على الخشبة. لذلك كانت تفلت من بين أيديهم نصوص على جانب كبير من الأهمية، لم تكن قادرة على الوصول إلى الخشبة بسبب المشكلات المرتبطة بالمضمون أحياناً وبالشكل أحياناً أخرى، فإما أن الرقابة الإسبانية لم تكن تجيز هذه النصوص، أو أن الفرق الإسبانية كانت تبتعد عن تقديمها وتبحث عن نصوص أخرى مضمونة، آخذة بعين الاعتبار البعد التجاري للعرض المسرحي. كان المسرح الإسباني غارقا في ذلك الحين في تقديم نماذج من الميلودراما المبتذلة، أو تمجيد الانتصار الفرانكوي، من دون الالتفات إلى مشكلات البلاد أو واقع الشعب الذي حطمته الحرب الأهلية"[6].
وفي دراسة بعنوان "صورة شعاعية موجزة للسنوات الثلاثين الأخيرة من المسرح"، يؤكد الناقد الإسباني (خوسيه ماريا دي كينتو): "أصبحت الثقافة والمسرح عند انتهاء الحرب الأهلية وكأنها خرائب ينطلق منها الدخان. فثلاث سنوات من الحرب أودت بكل إمكانية للاستمرار الثقافي"، ثم يتساءل دي كينتو: "ما الذي كان يقدمه المسرح الإسباني في عقد الأربعينيات؟ لو تابعنا بدقة، لقلنا إنه كان زمن ميلودارمات (أدولفو توادو) الباكية، التي وجدت فيها البرجوازية المبتذلة عديمة الثقافة، عزاء لتسكين ضمائرها، ولقلنا إنه كان زمن خوسيه ماريا بيمان، وخوان أغناثيو لوكا دي تينا، وخواكين كالبو سوتيلو، ممن كانوا يكتبون ما يمكننا أن نسميه مسرح الانتصار، حيث السعي الحثيث لإحلال البطولة محل الواقع. لقد كان مسرح مناسبات يخلو من الجدية، ليس على المستوى الفني وحسب، وإنما على المستوى الفكري أيضاً"[7].