بدأتْ دراستي الجامعية، في قسمِ الفلسفة، وأنا أنظر إلى الفلسفة وأساتذتها (الجامعيين) كما ينظرُ المتديّن إلى الدين والرسل أو الأنبياء والآلهة. كنتُ أرى أنّ الفلسفة مثل الآلة (التي نضع فيها مواد خامٍّ مختلفةً، فتقومُ بفرزِها وفقًا لمعايير دقيقةٍ وصارمةٍ تُساعد على تصنيفها وإنتاج المركبات المناسبة منها) بمعرفةٍ ومنطقٍ يساعدان على التمييز بين ما هو حقٌّ وما هو باطلٌ، بين ما هو خيرٌ وما هو شرٌ... إلخ؛ لكنّني تعرّضت إلى صدمةٍ أو صدماتٍ كبيرةٍ، في هذا الخصوص.
وصدمتي الأولى كانت تتعلّق بدكاترة الفلسفة، حيث بدوا عاديين، جدًّا عاديين، مثلهم، في كثيرٍ من الأمور، ليس مثل دكاترة الجامعة الآخرين فحسب، بل مثل كثيرٍ من الناس العاديين غير المتعلّمين، أيضًا. لكن عادية بعضهم بدت لي نشازًا غير عاديٍّ، فبعضهم كان يدرسنا مادة "علم النفس" وهو غير قادرٍ على ضبط انفعالاته وغضبه تجاه من يخالفه الرأي، أو حيال تساؤلاتٍ قد تتضمّن وجهة نظر لا يراها مناسبةً، وآخر كانت محاضراته عبارة عن قراءةٍ جهوريةٍ لتلخيصٍ للكتاب المقرّر، دون نقاشٍ حقيقيٍّ أو أي خروجٍ مفيدٍ عن النصِّ المقروء. وأذكر، في هذا السياق، حادثةً طريفةً أظنّها ذات دلالةٍ كبيرةٍ في هذا الخصوص. في إحدى المحاضرات الجامعية التي كانت تقتصر على قراءةِ الدكتور لملخصه، وكتابةِ الطلّاب للملخص المقروء، قام أحد الطلّاب بالعبث بورقاتِ ملخص الدكتور وتغيير ترتيبها، دون أن ينتبه الدكتور الذي تابع قراءة الصفحات بالترتيب المبعثر، ودون أنْ ينتبه الطلاب الذين كانوا يكتبون وراءه، إلّا في نهاية المحاضرة. واقتصر ردّ فعله على الإعلان عن الغضب من الحادثة وممن يمكن أن يكون قد تسبّب فيها عمدًا، واكتفى بأن قام بإعادة قراءة الملخص بالترتيب الصحيح لاحقًا!
أفراد الهيئة الطلابية الإدارية كانوا غالبًا مخبرين، بالمعنى الكامل للكلمة، وامتدادًا لفرعي الحزب والأمن عمومًا وكانوا لا يتوانون عن التشبّه برجال الأمن في استعمالِ العنفِ تجاه الطلاب
أمّا إدارة الجامعة وبنيتها الإدارية والمؤسّسات الفرعية التي تتضمّنها أو ترتبط بها، كفرعِ الحزب في الجامعة، أو الهيئة الإدارية الطلابية أو عمادة الكلية والوكيلين الإداري والعلمي، فقد كانت مشابهةً لمعظم مؤسسات الدولة في سوريا من حيث الحضور القوي للبيروقراطية القاتلة للمبادرة، ولسلاسةِ الإجراءات، والمُسيئة للعمليةِ التعليميةِ عمومًا، ومن حيث انتشار المحسوبية والفساد وطُغيان أو هيمنة البعد الأمني على حساب بعد الكفاءة، في التعيينات الإدارية خصوصًا. وقد كان يحدث أن يصل أشخاص "جيّدون" وذوو كفاءة إلى بعض المناصب الإدارية، لكن بضعة أشجارٍ لا تحوِّل البنية الصحراوية أو المصحَّرة والمتوحشة إلى غابةٍ أو حديقةٍ إنسانيةٍ.
***
صدامي مع إدارة الجامعة بدأ في الفصلِ الثاني من سنتي الجامعية الأولى، حيث أخذوني، مع المتفوّقين الأوائل من الطلاب، في رحلةٍ إلى دمشق لتكريمنا، وتعرّضنا خلال الرحلة إلى تعاملٍ سيءٍ وصلَ إلى حدِّ الاستهانة الازدرائية والإهانة في أحيانٍ ليست قليلةً. فعلى سبيل المثال، لم نستطع، نحن الطلاب المكرّمين، دخول مكان حفل التكريم، بسببِ امتلاء مكان الحفل، وتمّ تفريقنا بهراواتِ شرطة حفظ النظام وإبعادنا عن مدخل باب مبنى الحفل. كما أنّ الباص الذي أقلّنا إلى دمشق، وكان يفترض به إعادتنا إلى اللاذقية، غادر قبل الموعد المتفق عليه، وتركنا، دون التفكير كيف سنتدبّر، وحدنا، أمر عودتنا. في اليوم التالي لعودتنا، ذهبتُ إلى عددٍ من المسؤولين في الجامعة، للاحتجاج على ما تعرّضنا له في "رحلة تكريمنا"، وكانت أفضل إجابة تلقيتها: "ازرعها في ذقنا/ لحيتنا هذه المرّة"، وكان ردّي حينها، "أعتقد أن هذا النوع من الزراعة متكررٌ إلى درجة جعل ذقونكم غابات". ولم تفض احتجاجاتي، لا إلى معاقبةِ المخطئ، ولا إلى معرفةِ من هو المخطئ أصلًا.
الصدام الأشد مع إدارةِ الجامعة حصل في الفصل الأول من السنة الجامعية الثانية، حيث قرّرت إدارة الجامعة عدم الاستعانة بدكاترة قسم الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة دمشق، وتوكيلِ المعيدين المعيّنين حديثًا بمهمةِ تدريسنا. وقد قمت وزميلاتي وزملائي بتنظيمِ إضرابٍ كان نادرًا حصوله أو حتى تصوّر حصوله في الجامعات السورية، في ذلك الوقت. وقد نجح الإضراب فعلًا، في اليوم الأوّل، حيث امتنعنا عن حضورِ أيّ محاضرةٍ، وقمنا بمظاهرةٍ صغيرةٍ أمام مكتبِ عميد الكلية. وقد انتهى ذلك الإضراب بقرارِ فصلي، وفصلِ صديقٍ لي، من الجامعة لمدّة شهر، ومنعنا من حضورِ المحاضرات خلال فترة الفصل. وقد توقفت عن متابعةِ تصعيد الموضوع، لاحقًا، بعد أن وصلتني تهديداتٌ جديّةٌ بإمكانيةِ قيام الجامعة بفصلي نهائيًّا من الجامعة بتهمٍ "طائفيةٍ وأمنيةٍ".
بيّنت تلك الحوادث، لي ولغيري، أنّنا، نحن الطلاب، كنّا حقًّا شبه عراة أمام قوّةٍ بطشِ غاشمةٍ. أفراد الهيئة الطلابية الإدارية كانوا، غالبًا، مخبرين بالمعنى الكامل للكلمة، وامتدادًا لفرعي الحزب والأمن عمومًا. وكانوا لا يتوانون عن التشبّه برجال الأمن في استعمالِ العنفِ تجاه الطلاب، عندما يرون ذلك ضروريًّا. وسأكتفي بذكر أنّ مسؤول شعبة الحزب في كليتنا طلب من إحدى زميلاتنا أن تكون مخبرةً لصالح الشعبة، وأن تنقل أخبار "شلتنا" و"طلاب دفعتنا"، بدعوى أنّنا مشبوهون، وقد نكون طائفيين، ومن ثم خطرين لهذا السبب. لم ينجح ذلك المسؤول في مسعاه، وأخبرتنا زميلتنا أن نأخذ حذرنا، بعد أن روت لنا ما حصل معها.
***
في مرحلةِ الإجازة الجامعية، لم يكن هناك الكثير من الدكاترة الذين يمكن التأثّر بهم معرفيًّا أو فلسفيًّا، والحديث عن التتلمذ على أياديهم في هذا الخصوص. كان هناك شخصان استثنائيان من حيث طيبتهما، وهما الدكتور كامل عباس والدكتورة سلمى الخيِّر. وقد تأثرت إنسانيًّا بالدكتور كامل عباس، وكانت علاقتي وثيقةً به، وحاولت الاستفادة من معارفه ورؤيته الفلسفية والحياتية، رغم صعوبة ذلك، فقد كان إنسانًا بسيطًا جدًّا، وغريب الأطوار بشكلٍ طريفٍ، لكنه كان مثيرًا لسخرية الكثيرين ممن تعاملوا معه أو عرفوه. وربّما كان الدكتور أحمد برقاوي أحد الاستثناءات القليلة في هذا الخصوص، فقد كان قوي الشخصية وذا حضورٍ مؤثِّرٍ، وبدا، خلال محاضراته في الفصل الدراسي الوحيد الذي درَّسنا فيه، أنّه متمكنٌ معرفيًّا، ويمكن الاستفادة منه، في هذا الخصوص.
ازدادَ تأثّري ببرقاوي خلال سنة دراستي دبلوم الدراسات العليا في قسمِ الفلسفةِ في جامعة دمشق، لكن تأثّري الأكبر والأهم كان في عام الدبلوم بالدكتور بديع الكسم والدكتور صادق جلال العظم، اللذين اشتركا معًا في تدريسنا مادة المنطق والفلسفة الغربية. وعلى الرغم من أنّ صحة بديع الكسم لم تكن في أحسن أحوالها، فإنّ حضورَ محاضراته، وقراءةَ نصوصه، تركا أثرًا كبيرًا في نفسي وفكري. ووجدت في فلسفته تنظيرًا بالغ العمق لريبيتي المعرفية، وتأسيسًا أخلاقيًّا متينًا للمعرفة والسياسة. أمّا العظم، فأظن أنّ فكره النقدي كان له التأثير الأكبر في توّجهاتي النقدية اللاحقة. لم يكن فكره نقديًّا فحسب، بل كان النقد فكره أيضًا. والعظم من الشخصيات النادرة في الفكر السوري/ العربي التي (كانت) تمارس النقد وتتلقاه بنزاهةٍ وإيجابيةٍ، من دون شخصنةٍ مهاتراتيةٍ أو ضغائن شخصيةٍ. وحتى الآن، أجد نفسي سائرًا على خطاه، مع محاولةِ التقيّد بأصولِ النقد وأخلاقياته، كما فعل هو دائمًا تقريبًا. ومعظم النصوص العربية التي كتبتها تتضمن دراساتٍ أو جوانب نقديةً أساسيةً. لكن، كلّ هذه الدراسات النقدية، هي بالنسبة لي مجرّد تمهيدٍ أو خطوةٍ أولى نحو نصوصٍ لاحقةٍ "أحلم" بأن تسمح لي الظروف الموضوعية، وإمكانياتي الذاتية، بكتابتها، لاحقًا. لم يكن العظم من النوع الذي يمكن للطلاب أن يقيموا علاقاتٍ متينةٍ معه، لكنه كان من النوع الذي يمكنه أن يكون في غايةِ الإفادة معرفيًّا في محاضراته. وكانت محاضراته لنا، في عام الدبلوم، من أكثرِ المحاضرات إفادةً، وإثارةً للأسئلة، وفتحًا لآفاقِ الإجابات عنها، في كلّ حياتي الجامعية. كان شخصًا محترمًا، وأستاذًا قديرًا، وكان قريبًا من الصورةِ المثالية التي تخيّلتها لدكتور الفلسفة، عند بداية دراستي الجامعية.