كان القصف الجوي والمدفعي الذي شنه النظام السوري وروسيا على إدلب في الأسابيع الماضية، هو الأعنف منذ سنوات، بعد أن ساد هدوء حذر خلال السنوات الماضية، حاول خلاله أهالي شمال غربي سوريا النهوض من تحت الركام، وترميم شرايين الحياة في المنطقة، التي عاد النظام وحليفه الروسي ليذكّروا بأنهم يحكمونها بالحمم من السماء، معلنين قدرتهم على نسف "الحياة الهشة" هناك متى أرادوا.
العودة إلى الحياة الطبيعية "ممنوعة"
لعب الهدوء النسبي في محافظة إدلب دوراً في نمو القطاع التجاري، حيث شجع ذلك العديد من التجار والمستثمرين على فتح مشاريعهم الخاصة، كالمطاعم والمقاهي وصالات الألعاب والمجمعات التجارية، في مركز مدينة إدلب، والمدن القريبة من الحدود مع تركيا (سرمدا - الدانا).
وشهد أهالي مدينة إدلب ساحات ودوّارات عامة بحلّة جديدة جذبت أنظار السكّان والرأي العام، نتيجة مشاريع تأهيل وترميم أطلقتها مبادرات مجتمعية لتجميل صورة المدينة، التي يعتبرها الأهالي واجهة المنطقة.
وافتتح أهالٍ وتجّار وفعاليات شعبية ومؤسسات ، ساحتي "الكرة وجوهرة البرج" ودواري "البركات والشهداء"، بعد جهود وأعمال استمرّت لأشهر بين التخطيط والتنفيذ وحشد الأهالي للمشاركة في المبادرة المجتمعية لتجميل مدينة إدلب.
هذه الفعاليات الاقتصادية والتجارية والمجتمعية، لاقت إشادة حتى من السوريين في الخارج، وتداولوا صور الشوارع والساحات و"المولات" التجارية التي تم افتتاحها في ريف حلب وإدلب، كما بدأ مستثمرون سوريون ومغتربون بإقامة مشاريع استثمارية، لا سيما في قطاعي الزراعة والصناعات الغذائية.
وقال وزير المالية والاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة، عبد الحكيم المصري في وقت سابق لموقع تلفزيون سوريا، إنّ وفد رجال أعمال سوريين في أميركا وبعض الدول العربية، جاء للاطلاع على الواقع الزراعي والصناعي والتجاري، فضلا عن وضع الإدارة المحلية في تلك المناطق.
ويهدف المستثمرون لإقامة مشاريع قصيرة الأمد وبعيدة الأمد، وإيجاد حلول استراتيجية للمنطقة بحيث تكون التنمية مستدامة، إضافة لاستكشاف أفكار لمشاريع صناعية سريعة من أجل حل مشكلة البطالة.
هذه المشاريع والأفكار والحلول الاستراتيجية، هي ما يستهدفه النظام السوري وحليفه الروسي، بعد هدوء ساد المنطقة فترة من الزمن، فقد قال تقرير للأمم المتحدة صدر عقب التصعيد الأخير على إدلب وريف حلب الغربي، إن الوضع الإنساني في منطقة إدلب يتدهور بسرعة، عقب الهجمات التي شنتها قوات النظام السوري وروسيا على المنطقة.
نتائج الدراسة أوضحت أن التجمعات الأكثر تضررا تعاني من نقص في الوصول إلى الغذاء والماء والرعاية الصحية والسكن.
وكان قطاع التعليم هو الأكثر تضررا يليه قطاع الكهرباء، حيث تعتمد العائلات على الطاقة الشمسية، وإثر ذلك انخفضت القدرة على الوصول إلى الخدمة هذه بنسبة 62 في المئة.
أما على صعيد العمل، فقالت الدراسة إن العديد من الأشخاص يعتمدون على العمل اليومي لتلبية احتياجاتهم الأساسية، لكن الطلب على العمل اليومي قد انخفض، مما يجعل من الصعب على الناس كسب لقمة العيش، مؤكدة على ضرورة استمرار الجهات الإنسانية الفاعلة في تقديم المساعدات للمجتمعات المتضررة.
وأضافت أن "البنية التحتية الحيوية تضررت مما أدى إلى تعطيل الوصول إلى الخدمات الأساسية".
نسف الأمل
خلال لقاء سابق أجراه تلفزيون سوريا مع المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا جويل رايبرون، تحدث عن رجال أعمال يستطيعون دعم الناس، لكنهم على الهامش أو فقدوا الأمل لأنهم لا يجدون طريقة للمساهمة، وأنّ هناك كثيرا من هؤلاء الأشخاص لا يستطيعون المشاركة لأسباب كثيرة ويوجد كثير من الأشياء التي سارت على نحو خاطئ، لافتا أن الأوان لم يفت بعد، والفرصة ما زالت موجودة.
مشاريع كثيرة يستهدفها النظام وحلفاؤه وهي تهدف إلى تأسيس حياة طبيعية خارج سلطة النظام السوري الذي دمر البلاد بشكل كامل، ليكون أي نهج متكامل للتدخل في قطاعات الأمن الغذائي وسبل العيش، والإنعاش المبكر، مهددا بصواريخ النظام والغارات الروسية.
وعقب الزلزال المدمر في 25 من آذار الماضي، تشكل "التحالف العملياتي الثلاثي" لإطلاق عدة مشاريع خدمية وطبية وتعليمية في شمال غربي سوريا، مع التركيز على إعادة الإعمار وتأهيل البنية التحتية في المناطق المتضررة من الزلزال في ريفي إدلب وحلب، كل ذلك سيكون ثمنه عدة طلعات جوية روسية إذا لم يوضع حد لآلة الحرب المنفلتة.
"سيمفونيات" القتل
تدمير المدن وقصفها ليس جديدا، ولكن بالتركيز على العصر الحديث، فقد اعتقد العديد من الاستراتيجيين العسكريين أن القوات الجوية يمكن أن تحقق انتصارات كبيرة من خلال مهاجمة البنية التحتية الصناعية والسياسية، بدلاً من الأهداف العسكرية البحتة. ولكن لا يوجد في إدلب وغربي حلب اليوم، ما يمكن تسميته بنيةً تحتية صناعية أو سياسية، فالغارات والقصف تضرب بيوت المدنيين وشوارعهم وحدائقهم ومستشفياتهم إلخ..
وغالبا ما يشمل القصف الاستراتيجي مناطق يسكنها مدنيون، وقد تم تصميم بعض الحملات عمدا لاستهداف السكان المدنيين من أجل إرهابهم وتعطيل أنشطتهم المعتادة، حدث ذلك في الحرب العالمية الأولى والثانية.
القصف الدموي الأخير على شمال غربي سوريا، واجه صمتا دوليا وعربيا، وكأن الضوء الأخضر كان مفتوحا أمام النظام السوري، ويذكر التاريخ الغارة الجوية على كوفنتري البريطانية ليلة 14 من تشرين الثاني 1940 في الحرب العالمية الثانية.
وفي أعقاب الغارة، صاغ دعاة الدعاية النازية كلمة جديدة باللغة الألمانية - coventrieren - لتدمير مدينة بالأرض.
استمرت الغارة، التي أطلق عليها اسم "Moonlight Sonata"، لمدة 11 ساعة وشارك فيها ما يقرب من 500 قاذفة قنابل.
كان الهدف هو القضاء على كوفنتري كمركز رئيسي للإنتاج الحربي. وقيل أيضا إن هتلر أمر بالغارة انتقاما من هجوم سلاح الجو الملكي البريطاني على ميونيخ.
أسقطت الطائرات 500 طن من المواد شديدة الانفجار و30000 مادة حارقة و50 لغما أرضيا. كما أنها جربت سلاحا جديدا، وهو القنبلة الحارقة المتفجرة، وهي التي أحرقت المدنيين وبيوتهم في إدلب وريف حلب الغربي.
عقب القصف "الاستراتيجي" خسرت كوفنتري كنيسة سانت مايكل التي تعود للقرون الوسطى، وخسرت أيضا مكتبتها المركزية وقاعة السوق ومئات المحال التجارية والمباني العامة وساحة القصر التي تعود إلى القرن السادس عشر، ويقال إن رائحة وحرارة المدينة المحترقة وصلت إلى قمرة القيادة للقاذفات الألمانية على ارتفاع 6 آلاف قدم. وتعرض أكثر من 43 ألف منزل، أي ما يزيد قليلاً عن نصف عدد المساكن في المدينة، لأضرار أو دمرت في الغارة.
وبالعودة إلى استراتيجية التدمير التي يتم انتهاجها في سوريا وفي غزة أيضا، نجد أن الهدف واحد، وهو ليس انتقاما بقدر ما هو سياسة "متعمدة".
في غزة دمر القصف الإسرائيلي أكثر من 1300 مبنى في القطاع المحاصر، كانت تحتوي على ما يزيد على 5544 وحدة سكنية، في حين أصيبت نحو 3750 وحدة أخرى بأضرار جسيمة تجعلها غير قابلة للسكن، بالإضافة إلى تدمير البنوك والأبراج التجارية، وفق الأمم المتحدة. ويظهر في المقاطع المصورة أن قصف الاحتلال الانتقامي استهدف أيضا المساجد ودور العبادة.
وفي إدلب أثرت الهجمات الأخيرة على المرافق والبنية التحتية الحيوية بما في ذلك محطة الطاقة الرئيسية في مدينة إدلب، وعشر مدارس، ومرافق صحية، وخمسة مخيمات، وثلاثة مكاتب للمنظمات غير الحكومية، والأسواق والمساجد. وعلقت أكثر من 20 منظمة غير حكومية أنشطتها الإنسانية، وأدت لسقوط 260 مدنيا بين قتيل وجريح.
وقال الدفاع المدني تعرضت "10 مرافق تعليمية للهجمات بينها 9 مدارس وبناء لمديرية التربية"، فضلاً عن تعرض "5 مرافق طبية للاستهداف المباشر الذي خلف فيها أضراراً"، و"5 مساجد، و3 مخيمات و 4 أسواق شعبية و4 مراكز للدفاع المدني السوري، بينها مركز لصحة النساء والأسرة، ومحطة كهرباء و3 مزارع لتربية الدواجن".
وقبل التصعيد الأخير، نشر الدفاع المدني السوري إحصائية تقول إن فرقه استجابت لنحو 5741 هجمة روسية استهدف 1112 نقطة في 8 محافظات سورية، على مدى ثماني سنوات.
وأوضحت الإحصائية أن القوات الروسية شنت 5286 غارة جوية استخدمت خلالها أكثر من 320 نوعا من الأسلحة، مشيرة إلى أنها استخدمت ما يزيد عن 300 قنبلة عنقودية وأكثر من 100 قذيفة محملة بمواد حارقة.