لعل من المثير للاهتمام العودة إلى كتاب "البعث مأساة المولد - مأساة النهاية" الذي تناول نشأة حزب البعث في مرحلة مبكرة من تاريخ سوريا الحديث بعد سنة واحدة فقط من استيلاء حزب البعث على السلطة في سوريا إثر انقلاب عام 1963.
ويعد مؤلف الكتاب مطاع الصفدي أحد مفكري الجيل الثاني بالحزب، حيث أصدر كتابه متحدياً حزبه وسلطته، ونشر معلومات مفصلة في كتاب يزيد على 400 صفحة، ما أدى إلى اعتقاله وزجه في سجن المزة العسكري لمدة ستة أشهر مع ما رافق ذلك من تنكيل وتعذيب وإيذاء.
كيف نشأ حزب البعث؟
بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، ولدت المشاعر القومية العربية من جديد، والدعوة لبناء دولة عربية بقيادة الشريف حسين وأبنائه فكانت مشروعاً لم يكتمل، حيث قسم المحتلون بلاد الشام بين الفرنسيين والإنكليز الذين لم يستطيعوا أن يواجهوا النزعة القومية وولادتها داخل البنية الثقافية السورية حيث عاد كثير من السوريين الخريجين من الجامعات الأوروبية والفرنسية إلى سوريا مشبعين بالفكر القومي والليبرالي الذي تطورت أوروبا الحديثة على أساسه.
وما إن خرج المستعمر الفرنسي من سوريا عام 1946 حتى تبلور توجه قومي عربي يدعو لإعادة "بعث" الأمة العربية وتوحيدها. وكان أهم رموزه زكي الأرسوزي المفكر النازح من لواء إسكندرون بعد ضمه إلى تركيا، وبثّه الروح القومية بالأجواء الثقافية في سوريا.
من جانب آخر عمل كل من ميشيل عفلق الأستاذ في مدارس دمشق وصلاح الدين البيطار على بث أفكار بعث الأمة وطرحوا الشعار المعروف"أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة - وحدة حرية اشتراكية" معلنين عن تأسيس حزب البعث 7 نسيان عام 1947، الذي يصفه مطاع صفدي بأنه كان طوباوياً ومثالياً وخيالياً، ويعتمد على الشعاراتية بدل التحليل العلمي، وأن الوحدة العربية قدر والحرية والاشتراكية مصير، دون أي تحديد للوسائل والأساليب.
وفي عام 1952 توحد حزب البعث مع حزب أكرم الحوراني في توليفة مستحيلة تدمج بين "طوباوية عفلق وبراغماتية الحوراني"، التي وجدت المناخ ملائماً مع ظهور جمال عبد الناصر في مصر بعد ثورة 1952 وبداية صعود نجمه عربياً خاصة بعد تأميم قناة السويس 1956، حيث تواصلوا مع عبد الناصر لتحقيق حلم الوحدة الذي نادوا به.
من الوحدة مع مصر حتى انقلاب البعث عام 1963
انصب تفكير ميشيل عفلق وأكرم الحوراني، على اعتبار عبد الناصر الحصان القومي الرابح الذي يجب أن يجيّروه لتحقيق حضورهم، وجعلهم قادة، مستفيدين من الحضور الشعبي لعبد الناصر في سوريا التي تقع تحت حصار المخططات الغربية (حلف بغداد وغيره)، ومع توافق العديد من القوى السياسية السورية لتحقيق الوحدة مع مصر حصلت اللقاءات بين الطرفين السوري والمصري، لكن عبد الناصر اشترط على ممثلي القوى السياسية الحاكمة في سوريا ومنهم ممثلو حزب البعث حل الأحزاب ومنها حزب البعث طبعاً، إلا أن البعثيين هللوا للوحدة معتبرين أنها دولتهم القادمة التي يهيمنون عليها.
وفي عام 1958 أعلنت الجمهورية العربية المتحدة، وكان للبعثيين بجناحيه عفلق والحوراني، وخاصة الثاني مواقع مسؤولية كبيرة و كثيرة، ومع ذلك حاولوا أن يكونوا بجوار عبد الناصر في قيادة مركب الوحدة، لكن ذلك لم يحصل على هواهم، ولم يمض وقت حتى بدؤوا بالتذمر ثم أعلنوا استقالات جماعية، ظهرت واضحة جلية عند أكرم الحوراني وفريقه، وكذلك عند ميشيل عفلق بشكل موارب، وما إن وقع الانفصال عام 1963 حتى وقّع أكرم الحوراني وصلاح البيطار على بيان الانفصال ودانا عبد الناصر وحكمه متهمين إياه بـ "الدكتاتورية".
ولم يكن حل الحزب محل توافق لدى كل قادة الحزب وأعضائه، فقد كانت هناك قيادات وسطى شكلت فريق الوحدويين الاشتراكيين الذين دعوا لإسقاط الانفصال وعودة الوحدة، وبعد ذلك شكلوا حزب الاتحاد الاشتراكي الناصري إثر انقلاب 1963 مطالبين بالوحدة ومستمرين على نهج عبد الناصر.
ورغم أن البعث حاول إعادة تشكيل نفسه في مؤتمر قام به ميشيل عفلق وبعض المحيطين به، لكنه لم يستطع أن يروّج للحزب بعد أن طغى حضور عبد الناصر على المناخ السياسي والشعبي في سوريا بتلك المرحلة.
اللجنة العسكرية السرية
في فترة الوحدة شُكلت لجنة عسكرية سريّة من قيادات بعثية في الجيش - لم تكن واضحة معالمها للكاتب وقت تدوين الكتاب - لكن كانت لهذه اللجنة نتائج مباشرة على سوريا، حيث استطاعت تحت مسمى أنها "ثورة" بعثية في 8 آذار 1963 أن تسقط الانفصال وتتسلم السلطة في سوريا.
اكتشف الكاتب فيما بعد أن قيادات اللجنة العسكرية من خلفيات "علوية ودرزية وإسماعيلية"، معتبراً أن ذلك ليس مؤشراً إيجابياً. وأنها جعلت من عفلق والحوراني واجهات لتحارب عبد الناصر وتنافسه وتزايد عليه في موضوع الوحدة العربية بأنها يجب أن تكون شاملة ومدروسة.
وبعد الانقلاب تواصل المنقلبون في سوريا وكذلك في العراق مع عبد الناصر وتفاوضوا ووقعوا على ميثاق وحدوي، لم ينفذ وعاد كل منهم إلى خندقه، لتعود المنافسات الوحدوية بديلاً عن الوحدة المطلوبة.
ويركّز الكاتب على البعد العنفي الإقصائي لانقلاب آذار 1963 من خلال التصفيات التي قام بها الانقلابيون في 18 تموز من نفس العام طالت المئات من ضباط الجيش بين الإعدام والاعتقال والتسريح، وطال ذلك كل أجهزة الدولة، بحيث تم إقصاء كل المحسوبين على التوجه الناصري في ذاك الوقت.
"البعث" واجهة من دون دور
ينتهي كتاب مطاع صفدي في تقصي واقع البعث حتى أواخر عام 1964 ولكن البعث ما زال يحكم -اسمياً- في سوريا حتى الآن، وفي محاولة لمراجعة 6 عقود من حكم البعث لسوريا، فقدت خلالها البلاد محاولات بناء الدولة المدنية الديمقراطية، والحريات السياسية، وحرية الصحافة، والدور الذي كان يلعبه الوسط الثقافي والمجتمعي على مختلف المشارب والفئات.
وخلال حكمه ركز البعث بشكل شديد على التمسك بالسلطة باستخدام القوة في الحزب والجيش والأمن وحصرها بيد الانقلابيين الذين كان على رأسهم الضباط "محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد"، مع إقصاء الضباط غير العلويين تباعاً من قيادة اللجنة العسكرية الحاكمة فعلياً.
كما أقصى البعث الجديد بنسخته "الأقلوية" تيار عفلق في حزب البعث في شباط 1966 حيث هرب عفلق إلى العراق، واستقر هناك وظهرت القطيعة المطلقة بين جناحي البعث في سوريا والعراق. كما أبعد محمد عمران إلى لبنان، واستوى الحكم لصلاح جديد أميناً عاماً لحزب البعث وحافظ الأسد وزيراً للدفاع.
شهدت السنوات بين 1966 و1970 صراعاً مريراً على الدولة والجيش بين جديد والأسد، انتهت بسيطرة الأسد على الحكم بشكل مطلق وإقصاء جديد وزجّه بالسجن لعقود إلى ما قبل وفاته.
وخلال حكمه سيطر حافظ الأسد على قيادة الحزب والدولة السورية بشكل مطلق إلى حين وفاته عام 2000، في ظل حكم إلغائي لكل من لا يرضخ.
مأساة النهاية
وفي ظل حكم الأسد الأب أصبح حزب البعث مجرد ملحق لخططه في سلطته وتحقيق أهدافه. فقد تم إلغاء عمل حزب البعث وهويته ودوره.
ولم يكن الحال أفضل بعد تسلم بشار الأسد (بعد وفاة الأب) للسلطة عبر تعديلات دستورية، ليبقى الحزب الحاكم اسماً وشكلاً في الوقت الذي تنحصر السلطة بيد نظام طائفي استبدادي يهيمن على مفاصل الدولة والمجتمع، وأداته في ذلك الأمن والجيش بهيمنة مطلقة عليهما.
وخلال العقود الستة الماضية، جعل نظام الأسد حزب البعث واجهة شكلية تشبه الجبهة الوطنية التقدمية التي يقودها وتضم أحزابا هامشية أخرى لإسباغ الشرعية على القرارات السياسية الظالمة بحق الشعب السوري.
وبعد اندلاع الثورة السورية طالب المتظاهرون في الأيام الأولى بإسقاط المادة الثامنة من الدستور والتي تثبت أن "البعث" هو الحزب الحاكم للدولة والمجتمع، في تأكيد على الرفض الشعبي الواسع لسيطرة حزب على مصير شعب.
فيما قابل نظام الأسد السوريين بعد مظاهراتهم ومطالبهم بالحرية والكرامة بالرصاص الحي والعنف المباشر، وزاد في تهجيرهم وتدمير بيوتهم وحواضرهم.