"365 يوماً من الحرية.. مستمرون حتى إسقاط النظام"، "كان عاماً حقيقياً"، "البدايات للجميع والنهايات للصادقين"، هي بعض العبارات التي حملها متظاهرو السويداء خلال احتفالهم بمرور عام على انتفاضتهم في وجه النظام السوري، مؤكدين على استمرار حراكهم السلمي حتى تلبية مطالبهم.
لم يكن متظاهرو ساحة الكرامة يتوقعون أن تتحول هذه الساحة إلى مسرح لأحد أطول الحراكات السلمية في المنطقة، عندما بدأوا بتنظيم مظاهراتهم السلمية قبل عام، وليعلنوا من خلالها عن مطالبهم التي تحولت من معيشية وخدمية لتصبح مطالب سياسية عميقة تمثلت في إسقاط النظام السوري وتطبيق القرار 2254.
على مدار عام كامل، شهدت المظاهرات رحلة مليئة بالتحديات والصعوبات، بدأت بحالة من التأييد والاهتمام الدولي المتزايد، مما منح السوريين باختلاف مناطقهم أملاً كبيراً في التغيير المنشود، لكن مع مرور الوقت، خرجت السويداء من دائرة الاهتمام الإعلامي الذي انتقل إلى تغطية أزمات أخرى، أبرزها ما يجري في غزة.
ورغم أنها ليست المرة الأولى التي تشهد فيها السويداء احتجاجات، إلا أن الانتفاضة الحالية تميزت بالاستمرارية والاتساع مقارنة بالمظاهرات السابقة، وسط محاولات من النظام، الذي وقع في حيرة من أمره بشأن التعامل مع أقليات كان دائما يدعي أنه يحميها، ومحاولاته جر المتظاهرين إلى العسكرة وتشويه الحراك عبر أذرعه الإعلامية.
شرارة البداية
لم يكن حراك "بني معروف" مجرد رد فعل عابر، بل كان استجابة طبيعية لتراكم الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، التي أثقلت كاهل القاطنين في مناطق النظام، حيث بدأت الشرارة في 15 آب عندما قررت حكومة النظام رفع أسعار المحروقات بنسبة تزيد عن 200٪، أعقبه إضراب سائقي الحافلات باليوم التالي.
كان 17 من آب يوم الغضب الواسع عندما شهدت أكثر من 16 قرية وبلدة في السويداء وقفات احتجاجية ومظاهرات تخللها رفع شعارات "سوريا لينا وما هي لبيت الأسد"، والشعب السوري الواحد، إلى جانب قطع الطرقات، مع السماح بمرور الطلاب والحالات الإسعافية.
الحدث المفصلي كان بعد يومين من بدء الاحتجاجات عندما أعلن رئيس مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز، حكمت الهجري، تأييده للحراك، فأصدر بياناً أكد فيه على "نفاد الصبر وفوات الأوان"، مشدداً على أنه "من حق الناس أن تصرخ وتستغيث، من حق الناس أن تتوقف عن عمل أصبح يجلب لهم الإذلال، ومن العيب أن نرى هذا التدمير ونبقى صامتين".
وبينما طالب الهجري بـ"محاسبة كل من حرم الشعب حقوقه، وكل من يدمر بنيان مجتمعنا واقتصادنا ونهب ثرواتنا"، دعا المتظاهرون إلى عدم الاعتداء على أي مؤسسة حكومية والحفاظ على السلمية في المظاهرات.
تأييد الهجري كان نقطة فاصلة في مسار الحراك، حيث شجع البقية على اللحاق بركب المظاهرات، فأعلنت عشائر السويداء وحركة "رجال الكرامة" تأييدهما، كما أعطى حافزاً لمشاركة المزيد من الأهالي وهذا ما عكسته المشاركة في يوم الإضراب الكبير في 20 من آب حيث سجلت أكثر من 40 نقطة تظاهر.
وحاول النظام السوري التهدئة عبر محافظه بسام بارسيك الذي عرض مجموعة من "الحلول"، إلا أن الهجري، الذي تنحصر مكانته الدينية في "دار قنوات" في الريف الشمالي والشمالي الشرقي والريف الغربي للسويداء، رفض إجراء أي اتصال مع أحد القيادات في دمشق قبل تحقيق مطالب الشارع، حسب ما أعلنته شبكة "الراصد" المحلية.
ومع تصاعد الاحتجاجات، أعلن شيخ العقل حمود الحناوي تأييده للحراك، وأصدر بياناً أكد فيه أن "للصبر حدود" مؤكداً أن صوت المتظاهرين ووقفتهم "لا رجعة عنها لإيجاد الحل الحاسم".
كما أعلن شيخ العقل يوسف جربوع، المسؤول عن دار الطائفة في مقام عين والزمان، تأييده للحراك، قبل أن ينحاز إلى رواية النظام لاحقاً.
وأصدر جربوع مع حناوي بياناً حددا فيه ستة مطالب للتهدئة، لكنها اقتصرت على مطالب خدمية واقتصادية من تغيير حكومي وتشكيل حكومة جديدة إلى "محاربة الفساد والضرب على أيدي المفسدين".
التأييد الدولي لانتفاضة السويداء
الدعم الذي تلقاه حراك السويداء لم يقتصر على سكان المحافظة وبقية الشعب السوري في مختلف المناطق الخاضعة لسيطرة عدة أطراف، وإنما لاقى تأييداً رسمياً دولياً من عدة أطراف في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية الأمر الذي منح الاحتجاجات دعماً سياسياً دولياً.
التعليق الأول صدر عن ممثلة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، بعد أسبوع من بدء المظاهرات، حيث قالت خلال جلسة لمجلس الأمن إنه "في الأيام الأخيرة، شهدنا احتجاجات سلمية في مدن مثل درعا والسويداء، حيث دعا السوريون إلى تغييرات سياسية وطالب جميع الأطراف باحترام القرار 2254"، مضيفة "هذه هي المناطق التي بدأت فيها الثورة، ومن الواضح أن المطالب السلمية لم يتم التجاوب لها".
وأعقب ذلك تأييد للمبعوث الألماني إلى سوريا ستيفن شنيك الذي قال "نشيد بشجاعة أهالي السويداء ودرعا المطالبين بالعدالة والحرية والمواطنة، ونقف مع المطالبين بالحوار السلمي وإطلاق سراح المعتقلين وتحقيق تطلعاتهم المشروعة".
في 16 من أيلول تلقى الهجري اتصالاً من النائب في الكونغرس الأميركي، فرينش هيل، واستمر لمدة نصف ساعة، وتمت مناقشة إحباطات السكان المحليين واحتجاجاتهم السلمية، في حين أبلغ شيخ العقل النائب الأميركي بأن النظام السوري يقطع المياه والكهرباء عن المدينة، حسب ما قاله هيل في لشبكة “CBS News”.
بعد ثلاثة أيام جرى اتصال بين الهجري والنائب الديمقراطي برندن بويل، الذي أشاد بـ"سلمية التظاهرات في السويداء، وقال إنه غير مستغرب من هذه السلمية لأنه سبق له أن اطّلع على تعاليم الدروز الروحية التي تدعو إلى السلام والمحبة".
التحرك الرسمي من واشنطن كان في 27 من الشهر نفسه، عندما أعلنت عن مكالمة هاتفية بين نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي، إيثان غولدريتش، والهجري.
وقال حساب السفارة الأميركية في سوريا عبر منصة "إكس" إن غولدريتش أكد دعمه "لحرية التعبير للسوريين، بما في ذلك الاحتجاج السلمي في السويداء"، كما أكد على دعوات بأن تكون سوريا "عادلة وموحدة وإلى حل سياسي يتوافق مع قرار مجلس الأمن رقم 2254”.
حملت الاتصالات الأميركية رسالة إلى النظام السوري بعدم التعرض للشيخ الهجري ومحاولة اغتياله كما حصل مع الشيخ وحيد البلعوس مؤسس حركة رجال الكرامة الذي قتل جراء تفجير في 2015.
كيف تعامل النظام مع الانتفاضة؟
على مدى السنوات السابقة سعى النظام السوري إلى تصوير نفسه كحامي الأقليات في البلاد، مستخدماً هذا الادعاء كجزء من سرديته الرسمية لتبرير سياساته، ويروج لدوره كحام للطوائف المختلفة، مستغلاً المخاوف من الفوضى في محاولة لكسب دعم هذه الفئات وطمأنتها، خاصة مع تعقد المشهد السياسي وتزايد الاضطرابات.
جاءت مظاهرات السويداء لتشكل تحدياً واضحاً لسردية النظام خاصة وأن متظاهري السويداء هم من الطائفة الدرزية، الأمر الذي جعل النظام يقع أمام واقع جديد يتطلب استجابة مختلفة عن النهج الذي استخدمه سابقاً في باقي المناطق لإخماد المظاهرات.
وتعامل النظام السوري مع مظاهرات السويداء بشقين، الأول إعلامي حيث بدأ عبر أذرعه الإعلامية الرسمية وغير الرسمية بدءًا بتشويه صورة المتظاهرين وأنهم يعطلون مظاهرة الحياة في المحافظة، وصولاً إلى نيتهم الانفصال عن سوريا وتلقيهم الدعم من جهات خارجية.
والشق الثاني كان عسكرياً عبر استقدام تعزيزات عسكرية وإقامة حواجز أمنية في المحافظة، إلى جانب محاولة إطلاق النار على المتظاهرين، كما حصل في شباط الماضي عندما أطلق عناصر الأمن المتواجدين في "مركز التسويات الأمنية” في صالة السابع من نيسان، النار بشكل عشوائي، ما أدى إلى مقتل جواد الباروكي، بعد إصابته في الصدر، ليكون أول متظاهر يسقط في الحراك.
وحسب قائد تجمع أحرار العرب، الشيخ سليمان عبد الباقي، فإن النظام السوري اتبع سياسة النأي بالنفس والتعتيم والتشويه، مع إصدار بيانات كاذبة لتبرير أفعاله وطمس الحقائق.
وقال عبد الباقي لموقع تلفزيون سوريا إن النظام عمل على زرع الفتنة في السويداء منذ اللحظات الأولى لانطلاق الحراك، لكن بفضل تأييد الشيخ الهجري وغالبية سكان المحافظة لم تلق أفعاله نجاحاً.
وأضاف أن النظام حاول بسط سيطرته على السويداء من خلال دعمه لعصابات مثل عصابة راجي فلحوط، ومع تصفية جماعته وفراره، لجأ النظام إلى نشر الحواجز الأمنية في المدينة، لكن الفصائل المحلية والأهالي واجهوا هذه المحاولات بحزم، مؤكدين رفضهم التام لوضع أي حاجز في المحافظة.
وأشار قائد تجمع أحرار العرب إلى أن النظام لم يعد يمتلك أدوات في المحافظة سوى بعض الخلايا النائمة التي تتربص بأهالي السويداء، إلا أن الفصائل المحلية مستعدة لمواجهتها.
من جانبه اعتبر الصحفي السوري نورس عزيز أن النظام لما يلجأ إلى الحل الأمني في السويداء بسبب حساسية ملف الأقليات أمام الرأي العام العالمي، ولجأ إلى خلخلة الحراك عبر عدة وسائل، أولها تشغيل ماكينته الإعلامية وإطلاقه العنان لأذرعه بهدف تشويه الحراك والإساءة للمتظاهرين وخاصة النساء.
كما عمل على استقطاب مشايخ العقل من خلال تأييد يوسف جربوع الذي استقبل مبعوث بشار الأسد وخرج بفيديوهات يؤكد فيها تبعيته للسلطة، إلى جانب ابتكار مرجعيات دينية جديدة في سوريا لخلط الأوراق، كما فعل مع معن صافي الذي نصبه شيخ عقل.
وأكد عزيز أن النظام حرص على استقدام تعزيزات عسكرية بين الحين والآخر وإقامة حواجز أمنية لبث الخوف في نفوس الأهالي والمتظاهرين.
"الثالوث الثوري"
رغم أن المطالب التي يسعى إليها الحراك، سواء المعيشية أو السياسية، لم تجد طريقها إلى التنفيذ حتى الآن، إضافة إلى انخفاض زخم المشاركة خلال الأشهر الأخيرة، إلا أن ساحة الكرامة لم تخل من المتظاهرين منذ عام ما يدفع إلى التساؤل حول الأسباب التي أدت إلى استمرارية الحراك رغم تراجع صدى الحراك.
عزيز أرجع أسباب استمرار الحراك إلى توافر عدد من العناصر وصفها بـ"الثالوث الثوري"، أولها الشارع الثائر والفصائل المحلية التي دعمت الحراك التي أخذت على عاتقها حماية المتظاهرين، إلى جانب العنصر الثالث وهو وجود مؤسسة دينية باركت الحراك والمتمثلة بمشايخ العقل حكمت الهجري وحمود الحناوي.
وأشار عزيز أن هذه المرة الأولى التي يعلن فيها مشايخ العقل تأييدهم ومباركتهم للحراك والمظاهرات في السويداء، معتبراً أنه أهم الأسباب التي أدت إلى استمرار الثورة في السويداء.
وأكد الصحفي السوري أن ما يميز الانتفاضة في السويداء منذ عام هو سلمية الحراك رغم استفزاز النظام المتكررة وإطلاق النار في عدة مناسبات، إضافة إلى التأكيد على المبادئ العامة لثورة 2011 على رأسها إسقاط النظام.
وأرجع عزيز سبب انخفاض زخم المظاهرات في الأسابيع الأخيرة إلى عدة أسباب أولها عدم وجود حراك ثوري داعم في المناطق الأخرى وخاصة المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، إضافة إلى الوضع الاقتصادي المتدهور واستمراره دون تغيير.
من جانبه أكد قائد تجمع أحرار جبل العرب، سليمان عبد الباقي، بأن خروج مظاهرات في المحافظات الأخرى مثل الساحل السوري ودمشق وحلب سيعيد الصدى بشكل كبير.
وربط عبد الباقي بين تراجع صدى المظاهرات في السويداء وبين ما يجري في غزة وحرب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل منذ 10 أشهر ضد الفلسطينيين، فالمجتمع الدولي مشغول اليوم في أحداث غزة.
وقال إن "الحراك أخذ صدى كبير على المستوى الدولي في بداياته، لكن الحرب في غزة أدت إلى التعتيم الإعلامي على المظاهرات ما انعكس سلبا على تواجد المتظاهرين في الساحات"، إضافة إلى التطبيع النظام من قبل الدول في مقدمتها الأردن والإمارات ومساعي التقارب مع تركيا، مضيفا أن "محاولة شرعنة النظام مستمرة رغم معرفتهم بأنه هو القاتل والمشرف على توزيع المخدرات".
وبشأن مصير الحراك أكد عزيز أن المظاهرات مستمرة خاصة أيام الجمع التي تشهد أعدادًا كبيرة تتفاوت بين المئات والآلاف.
وأكد عبد الباقي أن "مستقبل الحراك يتطلب صبراً وتحملاً طويل الأمد، فبالرغم من التعب الذي يشعر به الجميع بعد عام من النضال، إلا أننا لا نزال ثابتين في موقفنا، فالاستمرارية في هذا الطريق تُعد إنجازاً عظيماً للمحافظة ككل، خاصة في ظل الضغوطات الهائلة التي نواجهها".
وكان الشيخ الهجري قال خلال أحد كلماته في الأشهر الأخيرة "نفسنا طويل، يعتقد النظام أننا سنمل لكن الطريق طويل وسنصمد"، في إشارة واضحة إلى استمرارية الحراك حتى تحقيق المطالب.