صدر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة "ترجمان"، كتاب "حدّ الردّة وحرية العقيدة - نقد عقوبة الارتداد وسبّ النبي طبقًا لموازين الفقه الاستدلالي" (بالفارسية: مجازات مرتد و آزادى مذهب - نقد مجازات ارتداد و سب النبي با موازين فقه استدلالى)، للفيلسوف والمصلح الفكري الإيراني الرائد في مجال الدراسات الإسلامية محسن كديوَر، الذي كان معارضًا سياسيًّا للحكم الإيراني ومنتقدًا صريحًا لعقيدة ولاية الفقيه الشيعية ومدافعًا قويًّا عن فكرة الإصلاحات الديمقراطية والليبرالية الهيكلية في إيران، وهي أفكار تسببت في إيداعه السجون الإيرانية فترة من الزمان. وقد تُرجم كتاب كديوَر هذا إلى الإنكليزية تحت عنوانAn Introduction to Apostasy, Blasphemy, & Religious Freedom in Islam، وترجم متنه الفارسي للمركز العربي للأبحاث (دون الملاحق، التي تمكن العودة إليها إما في الكتاب الأصلي، وإما في الموقع الرسمي للمؤلِّف) حسن الصراف، وهو يقع في 464 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
وقد وضع كديوَر مقدمة ضخمة وشاملة للطبعة الإنكليزية من حدّ الردّة وحرية العقيدة، ترجمها لنسختنا العربية حسن داخل كريم، وتناول فيها بتوسّع مفهومَي "الردّة" والأحكام المترتبة عليها اللذين أثارا نقاشًا واسعًا في العصر الحديث، إذ بدا أنهما يتعارضان مع حرية إبداء الإنسان رأيه في العقيدة التي يرتئيها مناسبة له.
"الردّة" لم تكن مفهومًا إشكاليًّا في العالم الإسلامي لكنها باتت اليوم محلَّ تعارُضِ القديم والحديث، الخصوصية والكونية، الأنا المسلم والآخر الغربي ... وكذلك على الصعيد الفقهي، الذي يتناول كديوَر بوساطته رؤيةً فقهية تحليلية نقدية للردة، وآراء فقهاء مختلف المذاهب فيها، واضعًا أهم خلافاتهم حولها على مشرحة النقد، ومناقشًا أدلتهم واحدًا واحدًا، من حيث ثبوتها ودلالاتها، باستيعاب وتفصيل، وعندما يجادل المعارضين يستعمل طريقة الحجاج الأصولي بكل تقنياته، فخرج كتابه مفعمًا بالثراء الفكري، والتنقيب الشامل في جوانب القضية المبحوثة، حتى بات تقديمه إلى القارئ العربي مدعاة فخر واعتزاز.
يروم الكتاب مناقشة أسئلة تندرج تحت عنوان "الردّة والتجديف"، مثل: حال الحرية الدينية في الإسلام المعاصر ومواقف المسلمين المحافظين والإصلاحيين من الردّة والتجديف والبدعة، والفروق الجوهرية بين السنّة والشيعة في هذه المسائل وغيرها، انطلاقًا من منظور شيعي، ثم عروجًا على الخطوط العامة لمواقف أعلام السنّة المعاصرين منذ مطلع القرن العشرين في الموضوع، ما سيتيح أمام القارئ دراسة مقارَنة بين مذهبي الإسلام الرئيسين.
السنة "المحافظون" في نظر كديوَر
يستشهد كديوَر بمقتطفات من كتب أربعة من علماء المسلمين السنّة سماهم بـ "المحافظين"، وهم:
- الطاهر بن عاشور: الذي يذهب إلى أن مصطلح "الحريّة" لا بمعناه القديم وهو نقيض الرق بل بمفهومه الحديث وهو الحق في اعتقاد أي شيء أو رفض اعتقاده، حتى الدين، لم يعرفه المسلمون السنّة سوى من أوروبا القرن الثامن عشر خلال الحقبة الكولونيالية. وكتب في أحد كتبه [بتصرف]: "فإذا ارتدّ أحد من أهل الملة يستتاب ثلاثة أيام، فإن لم يتب قُتل [...] فنقض المسلم العهد الذي دخل به في الدين مثال سيئ يجب على الأمة تطهير نفسها منه لئلّا ينفرط عقدها بتوهين ضعاف العقول بأنه جرب الدين فوجده غير مرض".
- وهبة الزحيلي: الذي يذهب في أحد كتبه بعد إيراد أصناف الردّة وأحكامها، إلى أن المذاهب السنية الأربعة أجمعت على قتل المرتد بسبِّ الرسول، وجعل أمواله وقفًا، وفسخ زواجه من زوجته المسلمة.
- محمّد الغزالي: الذي اختار عنوان "حول حرية الارتداد" لفصل في كتاب له، توصل فيه إلى أن الردة إلى الإلحاد أو إلى دين آخر ليس شأنًا شخصيًّا بل للتمرد على الشرائع والقوانين والدولة، وأن هذا "شذوذ" لا يمكن البتّة القبول به. وحين اغتيل الكاتب فرج فودة لاتهامه بالردّة قال الغزالي في محاكمة قاتله إن قتل المرتدّ واجب على المسلمين إذا قصرت به السلطة، ولا عقاب على قاتله.
- يوسف القرضاوي: الذي يعتبر في أحد كتبه أن الردّة "كبرى الجرائم، لأنها خطر على المجتمع وكيانه، وعلى الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال"، ويرى وجوب التفريق بين ردّة الداعي إلى بدعته، الذي كفر وتحول حربًا على أمته، وهي الردة الغليظة كردّة سلمان رشدي، وجزاؤها القتل، والردّة الخفيفة، التي يخفي فيها المرتدّ ردّته ولا يدعو إليها، فأمره إلى الإمام. ويعتبر كديور أن هذا الفهم للردة تسبب في قتل المفكر السوداني محمود محمّد طه، وبفتوى بقتل سلمان رشدي وباغتيال فرج فودة، وبإدانة محكمة مصرية نصر حامد أبو زيد.
السنّة "الإصلاحيون"
ثم يعرِّج كديوَر على من يسميهم "أصحاب الاتجاه الإصلاحي" لدى أهل السنّة، مستعرضًا آراءهم، ومن أعلام الاتجاه المحافظ لدى كديوَر:
- محمّد عبده: الذي نشر أفكارَه تلميذُه محمّد رشيد رضا، ومنها ما جاء في تفسير المنار من أن لا ناسخ لقوله تعالى: ﴿فإنِ اعتَزلوكُم فلمْ يُقاتِلوكُم وأَلقَوا إِليكُمُ السَّلَمَ فما جَعَلَ اللهُ لَكُم عَلَيهِم سَبِيلًا﴾، وأنها تقضي حتمًا بالعفو عن المرتدّين إذا كانوا مسالمين، وأن الحديث الذي يؤيد قتل المرتدّ لا يمكن أن ينسخ القرآن. كما يضع محمد عبده في نهاية سورة التوبة ثلاثة أصول هي: الأول، أن لا سيطرة للحاكمين على حرية الاعتقاد الباطن أو المعاقبة عليها. والثاني، أن إظهار من يضمر الكفر بالله ورسله اعتقاده للناس فتنة تُخرجه من الدين ويعاقب. والثالث، في ما ينبغي على ولي الأمر فعله في مواجهة النفاق العملي.
- محمّد توفيق صدقي: ويستشهد كديوَر بأقول صدقي وإن لم يكن في زمرة العلماء (طبيب مصري)، فيورد قوله في أحد كتبه إن قتل المتحول عن الإسلام مخالفة لنص القرآن على الحرية الدينية.
- حسن إبراهيم حسن: مؤرخ مصري خَلُص إلى أن قتل المرتدّين في حروب الردة هو من مقتضيات السياسة وليس وليد الحرص على إسلامهم، فمانعو الزكاة برأيه لم يهجروا الإسلام.
- عبد العزيز جاويش: الذي نحا أيضًا إلى خلوّ القرآن من آيات قتل المرتدين، وإلى أن الأحاديث بالردة قُصد بها المنضمون إلى الأعداء المحاربين المسلمين، أما من أضلّته شكوك وشبهات ولم يدفعها عنه المتصدّون للفتيا بالبراهين فليس مرتدًّا ومن واجب السلطة طرد شكوكه.
- عبد المتعال الصعيدي: الأزهري الأول الذي خصص كتابًا لموضوع الحرية الدينية ذهب فيه إلى أن المرتدّ لا يكره على الإسلام بقتل أو حبس، بل يدعى بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن عاد نجا من عذاب الله في الآخرة. والصعيدي يسوّغ موقفه بفتوى النخعي بأن المرتدّ يستتاب أبدًا. أما أحاديث قتل المرتد فتخص برأي الصعيدي المرتدّين المحاربين للجماعة.
- محمود شلتوت: شيخ الأزهر، مؤيد بشدة الحرية الدينية، يرى في أحد كتبه أن للشريعة في تقرير العقوبة مسلكين: 1- العقوبة بنص، ومنها الردة. 2- التعزير. ويرى شلتوت أن مؤيدي معاقبة المرتدّين يرجعون إلى الأحاديث وليس إلى القرآن، لأن فيه العقاب الأخروي فقط، ثم يقول: "الحدود لا تثبت بحديث الآحاد، والكفر بنفسه ليس مبيحًا للدم، بل المبيح محاربة المسلمين وفتنتهم عن دينهم".
- عبد الحميد متولي: انتهى إلى خمس ملاحظات: 1- التفرقة بين الخروج على الإسلام والخروج عنه، فالأول جماعيّ وعقابه القتل، والثاني فردي لا يشكل تهديدًا، وعقابه السجن أو العقاب الماليّ. 2- أن الإسلام قد حرّم أمورًا كثيرة من دون عقاب دنيوي، ويمكن أن تكون الردّة منها. 3- أن القرآن والسنّة لم يتناولا مسألة الردّة. 5- أن القتل يكون بالمتواتر من الأحاديث وأحاديث القتل خبر واحد، وتفيد الظن.
- محمّد فتحي عثمان: طالب عثمان في حال تجريم "التحول عن الدين" بإتاحة فرصة للناس قبل اعتناقه للاقتناع به وإعلامهم بأنهم سيفقدون رؤوسهم إن تركوه! وإلا فإنّ من كان مسلمًا ثم اختار دينًا آخر أو لم يختر أي دين لا يعدُّ مرتدًّا، لأنه في الأصل لم يكن مسلمًا عن وعي، وبناء عليه تغدو معظم التهم بالارتداد ساقطة، والمتّهمون بها ليسوا مرتدّين.
- الصادق المهدي: نحا إلى أن مسألة عقاب الردّة ضد مصلحة المسلمين وتحقيق رفاهيتهم، فهي أولًا تناقض مقاصد الشريعة التي تؤسَّس على الاختيار الحر، وثانيًا لأن من يدخلون الإسلام أضعاف من يخرجون منه، وثالثًا أن من مقاصدالشريعة الالتزام بحرية الفكر والضمير والاعتقاد. وهذا كله تسويغ لوقف القول بقتل المرتدّين حتى من الفقهاء المحافظين.
الاتجاه الإصلاحي التقدمي
ظهر هذا الاتجاه - في رأي المؤلف - في ثمانينيات القرن الماضي لدى من سماهم "صنفًا جديدًا من المفكرين المسلمين" حلَّل تحليلًا نقديًّا دلالة "المرتدّ"، وأنكر أصحابه أي عقاب دنيوي على ترك الإسلام أو الإساءة إليه، واعتبر حرية الدين مبدأً جوهريًّا في الإسلام، ومن هؤلاء:
- جمال البنا: يرى كديوَر أن البنا اعتبر الإيمان إرادة شخصية، وأن الاختلاف والتنوع بين البشر هما إرادة الله، وأنه لا يجب التدخل في الاعتقاد الديني بالإكراه بل بمجرد الدعوة التي مارسها الرسول، وأن هذا المبدأ يشمل المسلمين وغير المسلمين.
- محمّد سعيد العشماوي: يتناول المؤلف أفكار كتاب العشماوي أصول الشريعة بالتفنيد، ويرى أنه فرّق بين الدولة الحديثة ودولة العصور الوسطى التي كان الدين أساسها (الإسلام في الشرق والمسيحية في أوروبا)، والخروج عليه يقارب جريمة الانضمام إلى دين الأعداء، وأن هذا المفهوم - برأي العشماوي - هو مقصود الأحاديث النبوية بقتل المرتدّ، فضلًا عن إفادة الآيات ترك حرية اختيار الدين للناس. واتُّهم العشماوي بالردّة وهُدر دمُه بسبب كتابه هذا.
- محمّد الطالبي: وخصَّص كديوَر في كتابنا حدّ الردّة وحرية العقيدة لمقال الطالبي "الحرية الدينية: منظور إسلامي" مساحة كبيرة، إذ رأى فيه خطابًا جديدًا يركز على التماثل بين الخطابين الإسلامي واليهودي حول الردّة، فمعاقبة الردّة بالقتل في الإسلام هي من آثار التراث اليهودي، وعلى أن سبب مواجهة المسلمين الحرية الدينية هو أنهم فهموها مرادفًا للعلمانية واللاأدرية والإلحاد، وعلى أن إقرار عدم الإيمان ليس منّة على أحد، وأن معتمَد الفقهاء المسلمين غيرَ هذا المسلكِ هو قتالُ أبي بكر القبائل في ما سمي "حروب الردة" وحديث الآحاد: "من بدل دينه فاقتلوه"، الذي رُبط - برأيه - بالتمرّد وقطع الطرق، ولعله وُضع بتأثير من رجم المرتد الوارد في سفرَي اللاويين والتثنية في التوراة. وأخيرًا، يرى كديوَر أن الطالبي ينفي أي عقاب على الردّة نفيًا مطلقًا، وأن الإسلام ترك هذا إلى ضمير المرتدّ، وأنه ليس من شأن المسلمين التدخل فيه.
- احميدة النيفر: يقارن في مقال له بعنوان "من الردّة إلى الإيمان، إلى وعي التناقض" بين الإسلام المعيشي وإسلام الآيات والمبادئ، فالأول يؤيد الإكراه، والثاني يؤيد الحرية والتسامح. ويصنف المفكرين المسلمين الحديثين ضمن خطين: خط محمّد عبده والطالبي وبقي أثره محدودًا، وخط أبي الأعلى المودودي وسيد قطب والأصوليين من بعده. ويذهب النيفر إلى أن مذاهب السنة والشيعة التاريخية في خصوص المرتدّ تعطي انطباعًا بإيمان صاغه فقهاء السلطة. ويعتبر كديوَر مقال النيفر "أحد أشمل الأعمال في هذا المسلك".
- عبد المجيد الشرفي: يشير الشرفي إلى أن الصحابة ترددوا في قتال القبائل أيام أبي بكر لأنها لم تتنكر للإسلام ولم تكفر بعد إيمان، وأن إصرار أبي بكر على قتالهم أزال ترددهم، ويورد قول ابن الجوزي في قتل الخليفة العباسي القادر المعتزلةَ والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبّهة، وأن ذلك صار سنّة في الإسلام. ويرى كديوَر أهمية الشرفي في أنه أول من عدّ أبا بكر صاحب السبق في عقاب الردّة.
- فرج فودة: اغتيل لأنه اتُّهم بالردّة بسبب كتاباته، وفي السنة التي تلت اغتياله كتب زميله أحمد صبحي منصور كتاب حدّ الردّة، ورأى فيه أن عقاب الارتداد عن الدين نتاج لسياسة الأمويين والعباسيين، وأن أحاديث بقتل المرتدّ وُضعت على الرسول، وضرب على كلامه هذا مثلًا في اختلاق حديثين عن عكرمة والأوزاعي وإدراجهما في مصنفات الحديث المعتمدة. وترجع أهمية كتاب حد الردة في رأي كديوَر إلى أنه يوفر أدلة مفصلة على اختلاق أحاديث تؤيد قتل المعارضين السياسيين بحجة أنهم مرتدّون.
في الإسلام الشيعي
يورد كديور أدلة عقاب الردّة وأحاديث صحيحة مروية عن الأئمة، ويقسم المواقف الشيعية في هذه المسألة إلى ثلاثة أصناف: الموقف المحافظ (الأغلبية)، والموقف شبه الإصلاحي (أقلية)، والموقف الإصلاحي (أقلية قليلة ولكنها تتنامى).
1. الاتجاه الشيعي المحافظ
لبيان حقيقة أصحاب هذا الاتجاه، اختار كديوَر نصّين رئيسين وآخرين ثانويَّين:
- النص الرئيس الأول: هو قسم من كتاب الخميني تحرير الوسيلة، الذي يمثل أساس أحكام قانون العقوبات في إيران، ويقضي بأن من كان مرتدًّا فطريًّا (من كان أبواه أو أحدهما مسلمًا)، عقابه القتل وفسخ عقد زواجه ومصادرة أمواله، وفي قبول توبته قولان لدى الشيعة. أما المرتد المِليّ فيستتاب، فإن امتنع قتل، وإن تاب ثم عاد يُقتل وينفسخ زواجه بمجرد الارتداد، أما أمواله فلا تنتقل إلى ورثته إلا بعد موته. ومن ادّعى النبوّة أو سب الأنبياء أو الزهراء يجب قتله.
- النص الرئيس الثاني: هو المقال المخصَّص لمادة "ارتداد" في موسوعة الفقه الإسلامي طبقًا لمذهب أهل البيت.
ويورد كديوَر أن الردة تثبت الارتداد لدى الشيعة إما بالإقرار أو بالبيّنة بشهادة رجلين، وأنه يُحكم بنجاسة المرتدّ وأنه لا يغسّل ولا يكفّن ولا يصلَّى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين. أما الارتداد الجماعي، فيرى الشيعة أن أهل الردة بعد الرسول ضربان: قوم ارتدّوا بعد إسلامهم، مثل مسيلمة. وقوم منعوا الزكاة وليسوا من أهل الردّة.
النموذج الثانوي الأول: كلام أحمد الخوانساري حول معيار حجية خبر الواحد في عقوبة الردة في كتابه جامع المدارك في شرح المختصر النافع متّبعًا المحقّق الحلّي، وهو أنه لا يخلو عن الإشكال في مسائل الدماء، إذ إن العقلاء لا يكتفون به في الأمور الخطيرة. ويرى كديوَر أن الفقهاء المحافظين وشبه الإصلاحيين قد أهملوا مبدأ الخوانساري القيّم، الذي لقي تأييدًا شديدًا لدى الفقهاء الإصلاحيين.
النموذج الثانوي الثاني: ويورد كديوَر رأيًا لمحمّد رضا الموسوي الكلبايكاني، بأن "إثبات الردّة إشكالية، لأنها انتشرت"، على الرغم من أنه ليس من الذين يرون تعطيل الحدود في عصر الغيبة، وأنه لا يمكن الحكم على كل هؤلاء بالموت.
2. الاتجاه شبه الإصلاحي
من أهم فقهاء هذا الاتجاه:
- محمّد الخالصي: الذي أصدر فتوى بمساواة المرتدّ الفطري والمرتدّ الملّي في الاستتابة، مع مخالفة علماء شيعة له، مثل ابن الجنيد محمّد بن أحمد الإسكافي، وزين الدين الجبعي العاملي. ولا يزال موقف الخالصي مقبولًا لدى عدد من فقهاء الاتجاه شبه الإصلاحي.
- محمّد الحسيني الشيرازي: أصدر فتوى بردّة الشيوعيين أعدمت السلطات العراقية بناء عليها كثيرًا من أعضاء الحزب الشيوعي عام 1963، ومع ذلك جاء في أحد كتبه أن عليًّا لم يحكم بكفر من حاربه في حروبه الثلاث، وأن حروب الردّة كانت ردّة على أبي بكر لا على الإسلام. وهو يقول أيضًا باستتابة المرتد الفطري، ولا ردة جماعية لديه، بل فقط فردية.
- محمود أيوب: حلل مواقف السنة والشيعة من الردة في مقاله "الحرية الدينية وفقه الردّة في الإسلام"، ومن أهم آراء أيوب فيه أن الموقف القاسي من المرتدين هو نتاج التقاليد الإبراهيمية الثلاثة، وأكثر ما تظهر عند اشتداد الخلاف بينها. كما يرى أيوب أن ليس ثمة أساس واقعي لحكم الردّة في القرآن والسنة، لأن الذين قتلوا بسببها حتى نهاية القرن الثالث عشر كانوا قليلين جدًّا. ويدعو بقوة إلى درء الحدود بالشبهات، وأن القصد من استتابة المرتدّ هو معرفة هل ارتدَّ عن جهل أو قصور عقلي أو نفسي أو طيش.
- محمّد حسن مرعشي شوشتري: يميز في كتاب له عن الردة بين صنفين من المرتدّين: الأول يضرّ بالإسلام، وهذا يعاقب بموجب الأحاديث والفقه، والثاني لا يصدر عنه ضرر ولا إساءة، وهذا لا يعاقب، مؤكدًا أن الحوار والإقناع هما السبيل، وحكم بإلغاء عقوبة المرتدّين المسالمين.
- سيف الله صرّامي: حلَّل في كتابه أحكام المرتدّ من المنظور الإسلاميوحقوق الإنسان، فتاوى الفقهاء الشيعة بترتيبها الزمني، فوجد قول تقي الدين بن نجم أن مدار الردّة هو إظهار "شعار الكفر"، وأن الكفر إذا وقع باستدلال، فهو ليس بردّة، فالمرتدّ "الفطري" هو البالغ القادر على التمييز بين الحق.
- محمّد حسين فضل الله: فسّر في أحد كتبه عقوبة الارتداد بتقويض المرء هويته الإسلامية وتمرده ضد الدولة الذي يمكن عدّه خيانة عظمى، وهو لا يرى مانعًا من نقاش الأفكار للبحث عن الحقيقة. لكنه لم يبيّن كيفية حل تناقض انتهاء المسلم خلال سعيه في طلب الحقيقة إلى نتيجة تخالف الإسلام فتركه وارتدّ عنه. فماذا سيكون حكمه؟
- محمّد مهدي شمس الدين: كتب شمس الدين أنه إذا تغلبت على عقل المسلم شبهة فالإسلام يأمره بأن يتعمق في بحثها، فإذا لم يجد لها حلًّا يحتفظ بها لنفسه ولا يُظهرها أو يدعو لها، فإذا فعل ودعا إلى التمرد يُقتل لا بسبب التغيير الفكري بل بسبب الفتنة. فالمرتدّون الذين لا يدعون إلى فكرهم غير الإسلامي لا عقاب عليهم؛ والذين يذيعونه من دون الدعوة إلى التمرّد عقوبتهم النبذ والإقصاء.
- عبد الكريم الموسوي الأردبيلي: نشر كتاب فقه الحدود والتعزيرات. ونشر آراءه المتأخرة أحد تلامذته، وتتمثل بأن الردة إذا ثبتت فآنذاك فقط ينفذ القصاص، أما مع الاشتباه فلا. ولا يجد الأردبيلي إقرارًا لعقاب الردّة في القرآن وفي الإرث النبوي.
- حسين علي منتظري نجف آبادي: أبدى رأيه في قضيتين: الأولى أن حكم الردة لا ينفّذ في حق من يرفض "ضروريات الدين"، مثل الصلوات اليومية أو حجاب المرأة، لأنها لم تثبت لديه. والثانية أن يكون رفض المرء الإسلام عن عداء وعناد وتعنّت. وقدم منتظري صيغة أوضح للتمييز بين الردّة وتبديل الدين في كتابه رسالة الحقوق في الإسلام، وأقرّ فيه بتبديل الدين بوصفه حقًّا من حقوق الإنسان، وكذلك الحق في إظهار أي عقيدة، صحيحة أو باطلة.
وأورد كديوَر ذكر كثير من علماء الاتجاه شبه الإصلاحي يُعتبرون امتدادًا لأفكار من مروا وتلامذتهم، أمثال: محمّد علي أيازي ومحمّد سروش محلاتي وأحمد قابل وأحمد عابديني، وحسين أحمد الخشن.
3. الاتجاه الإصلاحي
- مهدي بازركان: نحا إلى أن الردّة الفردية ليست تركًا لعقيدة التوحيد، بل تهمة سياسية، وأن الإيمان والكفر شأن خاص بالإنسان، ولا يترتب عليه عقاب دنيوي، وأن عقاب سبّ المقدسات هو أن يمتنع المسلمون عن مخالطة مقترفها.
- علي گُلزاده غفوري: دعا إلى إعادة النظر في مسألة الردة، معتبرًا أن الإله ليس طاغية ينقم على الشخص بمجرد أن يخطئ، وأن الرسل لم يكرهوا الناس، فمن حقوق الإنسان الأصيلة أن يسير على وفق درايته ويختار سبيله بوضوح. أما المنظومة التي تخشى النقد فستحمل الناس برأيه على فتح باب النقد على مصراعيه. أعدمت السلطات الإيرانية اثنين من أبنائه وابنته وصهره عقابًا له على أفكاره.
ومن الوجوه الإصلاحية البارزة أيضًا: محمد جواد موسوي غروي وعبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري وأبو القاسم فنائي، وغيرهم كثير من الإصلاحيين الإيرانيين.