"القدس: التطهير العرقي وأساليب المقاومة" كتاب صدر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، من تأليف مجموعة من الباحثين وتحرير آيات حمدان.
وشارك في تأليف الكتاب الذي جاء في 583 صفحة، كل من: أحمد جميل عزم، أحمد عزالدين أسعد، أديب زيادة، أسامة أبو ارشيد، أنوار حمد الله قدح، بلال فلاح، جاودة منصور، جوني منصور، حنين مجادلة، راسم خمايسي، رشيد البزيم، سامح حلاق، عبد الله معروف عمر، عصام نصار، موسى سرور، نزار أيوب.
منذ استكمال احتلال مدينة القدس قبل أكثر من نصف قرن، إثر حرب حزيران 1967، عملت إسرائيل على تهويد المدينة، عمرانيًا وديموغرافيًا. وقد استندت في إنجاز ذلك إلى منظومة قانونية وإدارية ترسّخ هذا التوجه السياسي، وَسَعت إلى تفتيت النسيج الحضري والاجتماعي والاقتصادي المقدسي، بزرع بؤر استيطانية داخله، وعزل الشطر الشرقي للمدينة عن باقي الضفة الغربية، معتمدةً بناء المستعمرات وجدار الفصل العنصري.
يأتي هذا الكتاب، استنادًا إلى أهمية مدينة القدس في الصراع العربي- الإسرائيلي، ليبرز ساحات الصراع المبنية على التطهير العرقي وآليات مقاومتها الفلسطينية من خلال الوقوف على الوضع القانوني للقدس، والبحث في واقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني، ودور الحركات الجماهيرية، والفاعلين الاجتماعيين في المدينة، في مواجهة سياسات الإحلال والتهويد الإسرائيلية.
واشتمل الكتاب على أربعة أقسام تتمثّل محاورها في التاريخ والصراع على المقدسات، والتعليم والصراع على الوعي، وأدوات السيطرة على المدينة وأساليب المواجهة، والقدس في السياسة الدولية.
التعليم في القدس
تواجه مدينة القدس والمقدسيون سلسلة من المخاطر التي تهدد وضعها/ وضعهم الحالي، ومصيرها/ مصيرهم المستقبلي؛ فآلة التهويد تعمل بكل قوّة على خلق وقائع جديدة على الأرض، وفي مقدمتها تقليص الحيّز والحضور الفلسطيني، وحصره في أحياء قليلة منعزلة عن امتداد المدينة. يضاف إلى ذلك أنّ تقليص الحضور الديموغرافي الفلسطيني في المدينة، ليصل إلى الحد الأدنى وهو 20 في المئة، وهي النسبة التي تتقابل مع نسبة العرب الفلسطينيين في إسرائيل، ممن يحملون الهوية المدنية الإسرائيلية. بمعنى آخر، فإنّ التغييرات الديموغرافية غير محصورة في العدد فحسب، بل تنعكس على مجالات أخرى، من بينها، بل في مقدّمتها، التعليم وخدمات أخرى، مثل الصحة والعمران والتوظيف. فالتعليم، وهو مركّب، بل عنصر مهم جدًّا في تكوين شخصية المقدسي الانتمائية إلى وطنيته وقوميته، يجري إخضاعه لآلة الطمس والإقصاء والإنكار والتشويه والتزييف والتسطيح، الإسرائيلية.
الهدف من وراء ذلك تحقيق هيمنة وسيطرة، وتوجيه سياسي يومي، في جميع تفاصيل الحياة في القدس، وأيضًا خلق تفوّق حضوري يهودي في المدينة. بمعنى آخر، تعمل إسرائيل في جميع المستويات من أجل تهويد المكان والفضاء المقدسي وأسرلته، بإطلاق تسميات يهودية وعبرانية وإسرائيلية على الأماكن، وطرد متواصل لعائلات عربية من بعض الأحياء، بهدف السيطرة عليها (حيّ سلوان مثلًا)، ونزع هويات مقدسيين، وتقديم خدمات يومية في الحد الأدنى لتزداد الفجوة بين المجتمعَيْن اليهودي والفلسطيني ... إلخ؛ فالمجتمع اليهودي يتمتع بخيرات الوطن وثرواته، ويستفيد منها، في حين أنّ ما يتلقاه الفلسطيني هو الفتات الذي يضمن له في الحد الأدنى التنفس يوميًّا.
ويرى الكتاب أنه من الضروري أن يتمسّك المقدسيون باعتماد المناهج والكتب التعليمية الفلسطينية، من دون أي تحريف، والأمر يتطلب مقاومة شرسة للتوجهات الإسرائيلية. وعلى المقدسيين أيضًا وضع خطط لمشاريع تربوية عن القدس، ليس بصفتها مَعْلمًا دينيًا فقط، بل بصفتها رمزًا سياسيًا فعليًا يحقَّق بجعلها عاصمة دولة فلسطين في المستقبل. وعلى هذه المشاريع أن تشمل المراحل العمرية والشرائح الطلابية كافة.
وفي الوقت ذاته، من الضروري وضع خطط واستراتيجيات فلسطينية لمواجهة عمليات الأسرلة، على الرغم من كل الصعوبات التي تعترض طريق الفلسطينيين المقدسيين. وهذا الأمر منوط بمحرك دبلوماسي قوي، لتجنيد القيادات السياسية والاقتصادية العربية من أجل دعم مشروع الصمود في القدس، من خلال توفير الميزانيات المخصصة لحملات المواجهة، وحشد الجمهور في القدس للانضمام إلى هذه الحملات أيضًا.
تحتاج القدس عمومًا إلى إنقاذ، وفي حالتها هذه، أصبحت معالجة موضوع المناهج والكتب التعليمية التي تحفظ العلاقة بالقدس عربية وفلسطينية وإسلامية - مسيحية، أمر الساعة الملحّ. ومن دون أي استثمار استراتيجي وفكري ومالي ستبقى الأمور في باب التمني والحنين إلى أزمان جميلة مضت وولَّى بريقها.
الديموغرافوبيا في القدس
على الرغم من تنوع مصادر الزيادة السكانية التي تعتمد الهجرة والتكاثر الطبيعي، ما زال الفلسطينيون والإسرائيليون موجودين في القدس ومنطقتها في مرحلة "الانفجار السكاني" بموجب نظرية التحول الديموغرافي. وعلى الرغم من الفروق الطفيفة نسبيًّا في ما بينهم، فإن زيادة السكان مستمرة في واقع صراع مستمر، وموازين قوى غير متناظرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وتُظهر قراءة الماضي البعيد والقريب أنّ إمكان التغلب الديموغرافي لطرف على آخر، أي تغلب مطلق فلسطيني أو إسرائيلي، غير وارد في المدى المنظور، إلا في حالات حرب يمارَس فيها تطهير عرقي أو حيّزي. وحصول هذا التطهير الديموغرافي صعب في الواقع الفلسطيني والإسرائيلي والعالمي المشهود والمنظور؛ ما يدفع إلى زيادة احتمال تطوير قناعات وأفكار تسويات جيوسياسية من منطلقات ديموغرافية.
إن أساس طرح تسوية جيوسياسية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي تعتمد حل الدولتين، يطور قناعات مبنية على عدم قدرة الغلبة الديموغرافية لطرف على آخر. وسوف يؤدي استمرار سيطرة جانب على آخر وحرمانه من حقوقه الجيوسياسية، بالضرورة، إلى نشوء نظام فصل عنصري (أبارتهايد)، على المستوى المديني أو/ والقُطري.
تشير الدراسات إلى أن علاقات الغالبية المُسيطَر عليها من الأكثرية المسيطِرة، سوف تتزعزع وتتحول إلى صدامات إذا ما وصلت الأقلية المقهورة والمغلوبة إلى نسبة 30 في المئة من الحيز المحدد أو تجاوزت هذه النسبة. وتطالب هذه الأقلية بحقوقها في المشاركة المتساوية والمنصفة لها في الموارد والقرار السياسي. وحاليًّا، تجاوز الفلسطينيون المقدسيون هذه النسبة على مستوى المدينة، خصوصًا في محيط القدس الشرقية وعلى مستوى الوطن القُطري؛ ما يدفعهم إلى المطالبة بحقوقهم في المشاركة في الوطن والمدينة على نحو ندِّيٍّ ومتساوٍ؛ أي تحويل المدينة والوطن من حالة احتلال وسيطرة وتمييز على أساس عنصري إلى وطن ومدينة مشتركة، فيها تنوع يتساوى الجميع فيه، وهو ما يُعرف بحل الدولة الواحدة. هذا الحل يرفضه الإسرائيليون على نحو قاطع على المستوى القُطري والمديني؛ لأسباب ديموغرافية وأسباب متعلقة باقتسام الموارد والرواية والقرار السياسي. وإن تسوية الصراع الديموغرافي والحقوقي في القدس على مبادئ العدل والإنصاف وتوفير الحياة الكريمة غير متوقعة في المدى المنظور؛ ما يؤجج الصراع. وعلى الرغم من حال الفلسطينيين ومكانتهم وواقعهم نتيجة سياسات الضبط في ظل احتلالهم، فإن تسويات بين الإسرائيليين والفلسطينيين وتأمين حق الفلسطينيين في المدينة ومحيطها ربما تمثل مختبرًا لطرح تسوية جيوسياسية على مستوى الوطن.
منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين ودفع الهجرة اليهودية إليها، خصوصًا الهجرة اليهودية المتدينة إلى مدينة القدس، ارتفع عدد اليهود وغير العرب الفلسطينيين فيها من نحو 33.9 ألفًا في عام 1922 إلى نحو 100 ألف في عام 1946، وارتفعت نسبتهم من 54.3 في المئة إلى 60.3 في المئة في الفترة نفسها. وعلى الرغم من التحولات في حجم توزيع السكان العرب واليهود ونسبته نتيجة التغيرات الجيوسياسية، فإن استمرار التركيز على ربط العدد السكاني، بحسب الانتماء العرقي والديني، مع وحدات جيو - إدارية في المكان، ما زال يمثّل بوصلة الخطاب والسلوك الديموغرافوبي الإسرائيلي والفلسطيني.
أوجد هذا الارتباط خطابًا وسلوكًا ديموغرافيَين يعتمدان على أن يكون الميزان الديموغرافي لمصلحة اليهود بموجب تقسيم الحيز وحداتٍ؛ ليُظهروا أنفسهم أنهم غالبية، وأنهم يستحقون حقوقًا في هذا الحيز المديني والإقليمي والقُطري، حتى صيغت قرارات تقسيم فلسطين على أسس وجود غالبية يهودية. وما زال هذا المنطق قائمًا وممارَسًا في مدينة القدس ومحيطها.
القدس والسياسة الأميركية
اللوبي الإسرائيلي التقليدي يركّز على نقطتين مشتركتين تصنعان السياسة الأميركية الخاصة إزاء إسرائيل؛ إذ تتمثل الأولى بالتقارب الديني والثقافي بين البلدين، ويقود هذا الأمر إلى تقارب في موضوعات مثل القدس ومكانتها بالنسبة إلى اليهود وإسرائيل، أما الثانية فمفادها أنّ إسرائيل حليف أساسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وبينهما مصالح استراتيجية وحلف حيوي.
لكن، تقلّ نسبة اليهود عن 2 في المئة من سكان الولايات المتحدة، ولا يمكن أن يشكل من يوصفون بالمسيحيين الصهيونيين، في أحسن الأحوال، أكثر من 20 في المئة. وتؤكد هاتان النسبتان، مع قراءة تاريخية للسياسات الأميركية في مسألة القدس وإسرائيل، أنّ العامل الديني لم يكن حاسمًا في هذه العلاقة.
ويلاحظ أن الكثير من الخبراء يشككون في أهمية إسرائيل الاستراتيجية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، كما أن سياسات الاحتلال الإسرائيلي تعرّض سمعة الولايات المتحدة وأمنها للخطر، بسبب دعمها غير المحدود وغير المشروط لإسرائيل.
يتمثّل العامل الأهم في قوة الدعم السياسي الأميركي لإسرائيل، ومواقف الولايات المتحدة في قضايا مثل القدس، بالعمل المنظم للوبي الإسرائيلي الذي يَمرّ منذ بدايات القرن الحادي والعشرين بتغيرات متزايدة واستقطاب واضح.
وترى جماعات إلى يسار اللوبي التقليدي "أيباك"، مثل جماعة "جي ستريت"، المؤيدة لحل الدولتين والسلام، أن تأييد إسرائيل لا يعني منع انتقاد سياسات حكومتها، ويتبنّى عدد متزايد من اليهود الأميركيين وجهة النظر هذه. وفي المقابل، هناك إلى يمين "أيباك" لوبي يميني يرفض أي نقد لسياسات إسرائيل، وشرطه الأهم لدعم أي حكومة إسرائيلية هو عدم تأييد حل الدولتين، أو تقديم مساعدات للفلسطينيين. وأفضل من يمثل الاتجاه الأخير الملياردير اليهودي شيلدون أديلسون والمجلس الإسرائيلي الأميركي "إياك" الذي يدعمه. ولا يهتم هذا اللوبي بتأمين الدعم لإسرائيل داخل الولايات المتحدة فحسب، بل بالتدخل أيضًا في السياسة الإسرائيلية تدخلًا مباشرًا، عبر شبكة من وسائل الإعلام والدعم المالي في إسرائيل، ودعم مئات الآلاف من الإسرائيليين المهاجرين إلى الولايات المتحدة، وقيام هذا اللوبي بدور أساسي في دفع دونالد ترامب إلى تبنّي قرار الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها.
يوضح دور هذا اللوبي أنّ عواملَ داخلية أميركية مؤثرة في صنع القرار الأميركي أكثر من أيّ عامل آخر. ولا ترتبط هذه العوامل حقيقةً بالتركيبة الديموغرافية الدينية أو بعوامل ثقافية، أو بمصالح أميركية حقيقية، بل ترتبط بدور المال السياسي والقوى المنظمة. في الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل حالة الاستقطاب في المجتمع الأميركي، وخصوصًا اليهودي الأميركي، بين قوى علمانية ما زالت تؤيد إسرائيل بقوة، لكنها أقل اندفاعًا في تأييد سياساتها الاحتلالية، في مقابل يمين أكثر تشدّدًا في دعم الاحتلال ورفض الحقوق الفلسطينية.