جيل الشباب العربي واقع مؤلم وآفاق مسدودة

2023.10.03 | 06:55 دمشق

جيل الشباب العربي واقع مؤلم وآفاق مسدودة
+A
حجم الخط
-A

بعد أن مزقتها الصراعات الداخلية والانقاسامات المجتمعية، يأتي إعصار دانيال لينثر غضبه على السواحل الليبية ويردم مدينة كاملة تحت البحر ويتسبب بفقدان عوائل كاملة.

سبب جديدٌ وليس وحيداً خلّف ألماً إضافياً للشعب الليبي الذي لم تهدأ جبهته منذ ثورته ضد نظام الحكم في عام 2011، وصولاً إلى الصراع المستمر بين قوات شرقي ليبيا التي يقودها حفتر وبين حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس.

لم يكن لأزمة درنة الحالية أي أثر على تغير آليات الصراع، فقد بقيت أطراف الصراع تعمل بكرّ وفرّ بعضها مع الآخر متناسين حساسية المرحلة، وضرورة وضع الخلافات جانباً لفترة ولو وجيزة على الأقل، وهو الأمر الذي جعل الليبيين يحمّلون السلطات وأطراف النزاع مسؤولية ضعف البنية التحتية والتسبب بالخسائر البشرية والمادية بسبب انشغالهم في صراع السلطة.

كانت الأزمة كافية ليكتشف الشعب الليبي عمق الفخ الذي وقعوا فيه، بين طرفين لا يعبآن بالبلاد بحسب ادعاءاتهم، بل نهجوا أساليب قمعية ومزقوا عُرى المجتمع وحافظوا على تركة حكومة الاستبداد السابقة لأن ما يشغلهم اليوم ليس سوى سباق الحصول على السلطة لا أكثر.

ليست المرة الأولى التي تجد فيها الشعوب العربية نفسها وجهاً لوجه مع الكارثة، وهم حيدون محاصرون من كل حدب وصوب، لكن هذه المرة تبدو أكثر صعوبة بعد طول أمد الصراعات السياسية التي أرخت بظلالها على الجميع إضافة إلى ما شهدته المنطقة العربية من تدهور للأوضاع لأسباب متعاقبة ومختلفة.

لقد كانت الكوارث الطبيعية التي عانى منها سكان المنطقة قطرة الماء التي جعلت الكأس يفيض، لندرك جميعاً حجم الوضع البائس الذي نحياه في بلاد تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة

الفيضانات المدمرة الناجمة عن العاصفة اجتاحت مناطق شاسعة في شرقي ليبيا وأودت بحياة الآلاف من الأشخاص، وباتت المدينة تعيش كابوساً منذ ذلك الحين، وعلاوة على أن ذلك قد كشف وجه أطراف الصراع الليبي فإنه بذلك أيضاً قد أماط اللثام عن وضع مزرٍ أحاط بالشعوب العربية.

لقد كانت الكوارث الطبيعية التي عانى منها سكان المنطقة قطرة الماء التي جعلت الكأس يفيض، لندرك جميعاً حجم الوضع البائس الذي نحياه في بلاد تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، وتحت رحمة حكومات تعتاش على أموال المواطنين وأحلامهم وتضيق عليهم الخناق وتعدم طموحاتهم السياسية، وتستنزف قواهم في أعمال لا تسدّ رمقهم ولا تحقق حداً أدنى من الأمان المادي، وسط مستقبل غائم وواقع أليم وصراعات على السلطة أو حروب خارجية وداخلية، وأزمة اقتصادية استنفذت أحلام الناس البسطاء بالتوازي مع صعود طبقة أثرياء ومترفين وجدت لقدمها موطئاً وسحقت تحتها طبقات الفقراء ومحدودي الدخل بحيث صار التباين الطبقي واضحاً ومؤثراً.

وعلى فجاعة الموقف وفقاً للظروف الاقتصادية والصحية والمناخية في الوقت الراهن، إلا أن أكبر ألم تعرض له جيل الشباب العربي هو الهزيمة التي ألمّت به بعد إجهاض ثورات الربيع العربي وإلحاق الهزائم بها واحدة تلو الأخرى، ما جعل الغالبية يعيشون حالة إحباط تسببت بيأسهم من أي محاولة جديدة للإصلاح.

لا تبدو خيارات الشباب العربي اليوم في أحسن أحوالها، بشكل خاص أولئك الذين وُلدوا في العقد الأخير أو شهدوا في نشأتهم فجائع السنوات العجاف الأخيرة وتردي الوضع الإنساني وانعدام شروط الحياة الطبيعية وقلة فرص النجاة، على خلاف جيل السلف الذي اعتقد دائما أن هنالك فرصة للنجاة وأمِل به، النقطة التي يلتقي فيها الجيلان هنا أننا وجدنا أنفسنا في فقاعة كبيرة كنا واهمين أنها ستقلّنا إلى شاطئ الأمان، لكنها انفجرت بنا في النهاية مخلفة خلفها ضحايا الأمل.

لقد وجد الجيل الجديد أنفسهم عالقين في سجون كبيرة تسمى أوطانا لا تمنحهم امتيازات المواطن وتحجب عنهم حقوقهم، محملين بإيديولوجيات وشعارات شكلت على كاهلهم عبئاً في بلاد لا تمنحهم حق التنفس على أقل تقدير، مضطرين إلى العمل ساعات طويلة من أجل تأمين المأكل والمشرب بشروط تشبه عبودية القرون الوسطى، أو منخرطين في معارك ليست معاركهم مكبلين بسلاسل الاصطفافات، أو موتى في الحروب التي لم يخوضوها ولم يكونوا أصحاب قرار في شنّها.

لا تبدو الآفاق أقل قتامة من الواقع، فمسألة إصلاح الواقع الداخلي من سياسة واقتصاد ومجتمع مرهون بظروف خارجة عن إرادتنا، وتحتاج شروطاً غير قادرين على تحقيقها

في وجود مثل هذه الخيارات المحدودة يبدو الهروب هو الحل الأمثل إلا أنه لا يكون متاحاً على الدوام، فالخروج من مثل هذه الحفرة يحتاج مالاً وفيراً وجرأة على المغامرة والبدء من جديد، وهو أمر قد لا يتمتع به الإنسان خاصة ممن لم ينشأ في ظروف سوية مثل تلك التي عايشناها.

ما هي الخيارات المتاحة إذن؟

لا تبدو الآفاق أقل قتامة من الواقع، فمسألة إصلاح الواقع الداخلي من سياسة واقتصاد ومجتمع مرهون بظروف خارجة عن إرادتنا، وتحتاج شروطاً غير قادرين على تحقيقها وإن فعلنا.. فهي ستحتاج وقتاً طويلاً وقد نراهن على نصف حياتنا الآخر، ونحيا في انتظار نتائج غير مضمونة وفقاً للتعقيدات التي تعيشها المنطقة العربية سياسياً واقتصادياً على وجه الخصوص.

تبقى الخيارات المتوافرة الأكثر واقعية إذن في أن نتقبل الواقع بما هو عليه ونحاول التأقلم وفقاً لشروطه، وهو أمر أكثر إحباطاً من سوء الواقع بحد ذاته ويحتاج جرأة أكبر من المغامرة ربما، لأننا سنضطر إلى أن نكذب على أنفسنا على الدوام حتى نبدأ بتصديق الكذبة مع الوقت، أو نتمسك بفرص الهروب وكأنها طوق النجاة الأخير وهو أمر صعب للغاية في ظلّ إغلاق العالم أبوابه في وجوهنا وادعائه مد يد المساعدة بمنح المتضررين حفنة من النقود عن طريق الحكومات التي تسرق شعوبها أصلاً.

ما النتائج التي ينتظرها العالم اليوم إذن في بيئة يتردّى فيها وضع التعليم وتشحّ فيها سبل العيش؟ وفي بلاد يسهلون فيها تسليم السلطة لسارقي الثورات المأجورين لدى المجتمع الدولي الذي يتقاسم الغنائم مع مأجوريه؟ ما الذي يمكن أن يفعله جيل تبدو لديه فكرة القارب المطاطي أكثر الأفكار تفاؤلاً للنجاة على الرغم من أنها ليست سوى طريق واضح للموت جسدياً ومعنوياً؟ يزينها تجميل لعالم بعيد لا نلبث أن نكتشف مدى قباحته وهشاشته في حال وصلنا إليه، لكنها كانت الطريق الوحيد والأمل الأخير بين أن نكون ناجين أو أن نكون ضحايا.