أجرت قيادة جيش الاحتلال الإسرائيلي في الآونة الأخيرة ما يمكن اعتباره إعادة ترتيب للتهديدات المحيطة به، خاصة في ضوء الوضع الإقليمي الحالي، وتراجع حدة الاحتكاك في قطاعات حربية عدة، ما يتطلب الاستعجال في التعامل مع بعض التحديات، بحيث يجب معالجتها بأقصى سرعة.
وفيما يظهر الإيرانيون تباطؤا في سوريا، لكنهم قد يفاجئون إسرائيل بأسلحتهم النووية، أما جبهة الضفة الغربية، فتتدفق بالأحداث، وحزب الله ينتظر الانتقام، مع استمرار جاهزية الجيش الإسرائيلي، لكن غزة إمكانياتها التفجيرية أكثر، وفق التقدير العسكري الإسرائيلي.
صعد قطاع غزة فجأة على رأس قائمة الأولويات لدى الجيش الإسرائيلي، لأنه بقعة جغرافية غير مستقرة، بل متفجرة، وإذا لم تتوصل إسرائيل إلى تسوية مستقرة مع حماس تشمل تحويلات مالية قطرية لمدة عام، ودخول عمال غزة لإسرائيل، ومشاريع لتحلية المياه، وإنشاء منطقة صناعية، وحل قضية الأسرى والمفقودين لدى حماس، فقد يجد الجيش الإسرائيلي نفسه قريبا في تصعيد سيجبره على دخول غزة بقوات كبيرة، وهذه لن تكون بالنسبة له نزهة نهاية الأسبوع!
التهديد الثاني في الأولوية العملياتية لدى الجيش الإسرائيلي هو جهود إيران لإنشاء جبهات إضافية ضد إسرائيل في سوريا والعراق واليمن، فهي ترسل لسوريا صواريخ أرض- أرض دقيقة، أو أجزاء منها لتجميعها هناك، كما تحاول تحريك الإجراءات التي من شأنها تقييد حرية إسرائيل في العمل في سماء سوريا ولبنان، وتستمر إسرائيل بإحباط محاولاتها من خلال الاستخبارات والعمليات.
المرتبة الثالثة من التهديدات المحيطة بإسرائيل تتمثل في وصول إيران بشكل مفاجئ لحيازة الأسلحة النووية، وتكثيفها السريع للصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي والسيبرانية، وحول هذه القضية يصعب توسيع النقاش، نظرا لحساسيتها وخطورتها.
أما في المرتبة الرابعة، فتظهر الضفة الغربية، التي قد ينفجر الوضع فيها بسبب القطيعة الإسرائيلية مع السلطة الفلسطينية، رغم تراجع ثقة الفلسطينيين برئيسهم ابن الـ85 عاما، وإلى حد كبير في خلفائه المحتملين، صحيح أن وقف التنسيق الأمني لم يؤثر بشكل كبير على قدرة جهاز الأمن العام والجيش الإسرائيلي على إحباط الهجمات المسلحة، لكنه جعل الضفة الغربية مكانا قابلا للانفجار مثل غزة.
من المثير للدهشة أن حزب الله جاء في المرتبة الخامسة فقط في ترتيب التهديدات الماثلة أمام الجيش الإسرائيلي، صحيح أن الحزب أكمل الاستعدادات لأي نوع من المواجهة مع إسرائيل، سواء
الغريب والمثير واللافت هو غياب سوريا كلياً عن قائمة التهديدات الإسرائيلية، مع أن التقييمات السنوية دأبت على إدراج سوريا ضمن القائمة
تصعيد يستمر عدة أيام من القتال، أو حرب ضارية طويلة، لكنه يعلم تماما أن ما تلقاه لبنان من ضربات إسرائيلية خلال 33 يوما من القتال في 2006 خلال الحرب الثانية، سيتلقاه الآن في يوم واحد، وكذلك الحال بالنسبة لإسرائيل.
الغريب والمثير واللافت هو غياب سوريا كلياً عن قائمة التهديدات الإسرائيلية، مع أن التقييمات السنوية دأبت على إدراج سوريا ضمن القائمة، مما يطرح تساؤلات عديدة حول أسباب تغير الوضع هذا العام.
يمكن إحالة السبب الأول لما يمكن وصفه تراجع مستوى التحدي الذي تمثله سوريا أمام إسرائيل، بعكس ما كان عليه الحال في السنوات السابقة، حتى في مرحلة ما قبل اندلاع الأزمة السورية في 2011.
السبب الثاني قد يتعلق بوصول الجيش السوري إلى حالة من الترهل والضعف التي لا يشكل من خلالها تهديد جدي لإسرائيل، وتفرغه للمواجهة الداخلية.
في حين أن بقاء سوريا تحت الوصايتين الإيرانية والروسية، يجعلها محرومة من قرارها المستقل، وجعل تواصل إسرائيل المباشر وغير المباشر مع موسكو وطهران، بديلا عن دمشق.
في الوقت ذاته، فإن الحاجة الإسرائيلية للتعامل مع مواجهة في غزة أو لبنان، سوف يتسارع من صفر إلى مئة في اليوم الواحد، ما يضع الاستعداد للحرب على رأس أولويات الجيش الإسرائيلي، والحاجة للقيام بالأنشطة العملياتية والتدريب بمشاركة مجموعات كبيرة من المقاتلين، وغالبا في أماكن مغلقة، وهذه المعضلة حادة بشكل خاص في تدريب جنود الاحتياط، الأكبر سنا والأكثر عرضة للإصابة بكورونا.
ورغم أن القيادة العليا للجيش الإسرائيلي، وكجزء من استعداداتها لأي حرب قد تنشب فجأة، على أي من الجبهات العسكرية، قامت بتحديث خطط القتال في غزة ولبنان، فقد أصدر رئيس الأركان أفيف كوخافي تعليماته للتحضير لموقف تكون فيه إيران قريبة جدا من الأسلحة النووية التشغيلية، فيما أكد نائبه آيال زمير، ورئيس العمليات في الجيش أهارون هاليفا، أن الوضع ليس مرضيا، بسبب ضائقة الميزانية، وعدم توفر العديد من الأسلحة الأساسية.
على صعيد الجبهة الشمالية لإسرائيل؛ لاسيما لبنان وسوريا، فقد أحصى الجيش الإسرائيلي تسعين يوما من الاستعداد على تلك الحدود، منذ أن اتهم حزب الله سلاح الجو الإسرائيلي بقتل أحد عناصره في هجوم استهدف العاصمة السورية في تموز/ يوليو، مما جعل الحدود اللبنانية في حالة تغير دائم، وتوقع لتلقي معطيات جديدة في الآونة الأخيرة، على خلفية شعور باحتمال وقوع هجوم قريبا، يتسبب بجولة تصعيد لأيام مع الحزب.
يحذر الإسرائيليون أنه "إذا تجرأ حسن نصر الله على إيذاء أحد جنودنا، فسيكون ثمن الدم قاسيا ومؤلما، ورسالتنا للجنود بأن نكون مستعدين لأي تطور، لأنه في المرة القادمة التي يحاولون فيها إيذاءنا، فلن ينتهي الأمر بنيران القذائف"، رغم أن ضباطا كبارا في الجيش قدروا أن التوتر سيستمر أياما قليلة على الأكثر.
يبدو حزب الله معنياً أكثر من أي وقت مضى على تحقيق معادلة الانتقام، نظرا لتراجع ثقة اللبنانيين بقدرته على ذلك، فقد حاول مرتين تنفيذ انتقامه، لكنه فشل فيهما، ما يجعل الضباط الإسرائيليين في المنطقة الشمالية يقتنعون بأن المحاولة الثالثة قد تشكل نقطة ضعف للجيش، مما دفعه لتعزيز نقاط الضعف، وإقامة نقاط تفتيش لمنع الآليات العسكرية من الوصول للحدود بالخطأ، فالحزب ينوي الانتقام وجها لوجه، وينوي استهداف جنود وليس مستوطنين، ما يجعل الحدود في توتر عملياتي لفترة طويلة، وهو أمر صعب مع مرور الوقت.
يعمل الجيش الإسرائيلي وحزب الله على الحفاظ على مستوى من اليقظة منذ ثلاثة أشهر، لكن الميدان يشهد تآكلا طبيعيّا، في ظل ما يمارسه الطرفان على بعضهما من لعبة الحرب النفسية ضد الطرف الآخر، بعد أن تسببت نقاط التفتيش المقامة في عمق الجزء الخلفي داخل إسرائيل، بخلق اختناقات مرورية طويلة، لكن جولة بين رأس الناقورة غربا ومجدل شمس شرقا، تظهر شقوقا على مستوى اليقظة وصيانة العمليات.
يعتقد كبار الضباط الإسرائيليين أن حزب الله محبط، وخائب الأمل، من فشل الخلايا المسلحة التي أرسلها للحدود الإسرائيلية للانتقام، لذلك فإن التحذير من هجوم انتقامي ما زال يحوم في الهواء، وخلافا للانتقام من اغتيال عماد مغنية الذي وصفه بـ"الحساب المفتوح"، يحاول الحزب هذه المرة خلق معادلة يكون بموجبها أي موت لبناني على الأراضي السورية يتبعه رد على الحدود الإسرائيلية.
لكن العادة التي انتهجها حزب الله تتمثل بتسلقه شجرة عالية، ثم يجد صعوبة بالنزول منها، لأن تهديداته الأخيرة ضد إسرائيل تتزامن مع بعض التطورات المثيرة للاهتمام في لبنان، أولها وأبرزها العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة عليه، ما يجعل من الصعب جدا على اللبنانيين جمع الأموال حول العالم، في وقت تقوم فيه إيران بخفض ميزانية مساعداتها، والحزب بعيد عن الميزانية السنوية التي خطط لها.
التطور الثاني هو بيان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي ألقى باللوم على جميع الأطراف في لبنان، لكنه خص بشكل رئيسي التيار الشيعي باستمرار الأزمة السياسية في لبنان، بما في ذلك حزب الله، لأن الجميع في لبنان في العام 2020 يعرف أنه بدون الحزب لا استقرار ولا حكومة.
التطور الثالث الذي يمكن أن يضيق خطوات نصر الله، ويضع حدا له، هو المفاوضات التاريخية بين إسرائيل ولبنان على خط الحدود البحرية، وستحدد في الواقع تقسيم احتياطيات الغاز المستقبلية بين الدول المجاورة، لأن التغيرات الاقتصادية الهائلة في لبنان أجبرت الحزب على الموافقة على بدء المفاوضات، حتى إن وزير الحرب بيني غانتس رأى فيها فرصة لتحقيق الاستقرار على الحدود الشمالية.
يعتقد الإسرائيليون أن كل هذه التطورات قد لا تمنع حزب الله من تنفيذ أعمال انتقامية مستقبلية، لكنه يقدر أن عملية التفاوض سيكون لها تأثير على اعتبارات الحكومة اللبنانية والشعب اللبناني على المدى الطويل، وتخلق آلية لترتيبات أمنية إضافية في المنطقة.
كما يرون أن أي عملية تسوية مع لبنان تسفر عنها هذه المفاوضات مستقبلا تنطوي على إمكانات استراتيجية لتحقيق استقرار أمني نسبي في المنطقة، على أساس التفاهمات التي سيتم الحصول عليها في المجالين السياسي والاقتصادي، مما قد يدفع إسرائيل لمنح حزب الله فرصة النزول عن الشجرة، والتخلي عن الانتقام، وإلى حين ذلك فإن الواقع القائم في الجيش الإسرائيلي سيبقى متوترا عبر الحدود اللبنانية حتى إعلان جديد، مع تقييم استخباراتي للهجوم الذي يستمر بالتحليق في الهواء.