"ثورة الجوع" عن لعنة أن تكون سوريّاً في عهد الأسد

2023.08.24 | 06:03 دمشق

آخر تحديث: 24.08.2023 | 06:03 دمشق

1
+A
حجم الخط
-A

يطيب للكثيرين منا وصف ثورة السوريين عام 2011 بثورة الكرامة، وهو وصف ليس ببعيد عن الواقع، فيما لو فسرنا التسمية بأنها تعني ثورة "استعادة الكرامة". استعادتها بعد عقود من الذل عانى منه المنتفضون وآباؤهم قبلهم، ممن عاشوا حالات من الإذلال الممنهج، تحت سياط القمع والسجن وانتهاك الكرامة والحرمات، وصولاً إلى القتل الذي مارسته قوات الأمن والجيش بحق السوريين، منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970.

اليوم يتداول بعض السوريين مصطلح "ثورة الجوع" أو ثورة الجياع لتوصيف بوادر انتفاضةٍ سورية جديدة. يتداولون المصطلح بمقابلةٍ، فيها الكثير من الخفّة وكثير من انتباج الذات، مع "ثورة الكرامة". وبالتأكيد ستبدو الأرجحية واضحة، على سطحيتها، لصالح من انتفض من أجل الكرامة، باعتبار الكرامة قيمة من القيم الأعلى في مجتمعاتنا.

بدأ الحديث عن ثورة الجوع منذ عام 2014 وربما قبل ذلك، لكنها لم تحدث إلا عام 2023، وهنا يجب الانتباه إلى أن وصف ما يجري اليوم، على أنه ثورة هو من باب المجاز، فنحن لا نعرف مآلاتها بعد، لا سيما وأنها في أطوارها الأولى. سأفترض أن الفاعلين اليوم، إضافة إلى الإذلال الذي عاشوه مع آبائهم، قد قرصهم الجوع حقيقةً لا مجازاً. لكن اعتبار أن الجوع هو دافعهم الأول هو افتراض يحتاج للكثير من النقاش. أما ما ندعوه ثورة الكرامة فقد اشترك بها أيضاً أناس قرصهم الذل وانتهاك الكرامة لأربعة عقود. وليس من الفضيلة في شيء اعتبارها راجحةً في سلّم الأفضلية. لا سيما أنها قامت خلال ما عرف بالربيع العربي، والتحولات التي شهدتها عدة دول في أجواء مُحفِّزة ومفعمة بالتفاؤل والأمل، أن التغيير قادم لا محالة.

سأذهب لوهلةٍ للطرف الأقصى من الفكرة التي أريد طرحها، لأقول إن انتفاضة اليوم تأتي ضمن أجواء من انعدام التفاؤل، بل واليأس المطبق من إمكانية أي تغيير، خاصة أنها تترافق مع انعطافة دولية، وإقليمية تجاه الأسد ومحاولات التطبيع مع نظامه. فلا أحلام اليوم لدى المنتفضين حول أي ضغط دولي على النظام، كالذي توفّر في البدايات لثورة 2011. بل على العكس ربما خبِرَ الموجودون في الشارع اليوم، كيف أجهضت التدخلات الدولية، طبعاً إضافة إلى عوامل ذاتية هي الأهم، كل أمل بانتصار الثورة بهدفها الرئيسي وهو إسقاط نظام الأسد.

لطالما اعتبرتْ الكثير من الأدبيات الثورية، أن الفقر والجوع يمكن أن يكونا محركاً ثورياً في التاريخ، مع ما يرافقهما من وعي

 

رغم توقع كثيرين، منذ سنوات، قيام "ثورة جياع" ستشهدها سوريا، لكنها لعوامل موضوعية، لم تبدأ بوادرها سوى هذه الأيام. أرغب أن أنوّه هنا أن تعبير "ثورة الجوع" أو الجياع لم يرد ولا مرّة في الأدبيات الثورية على أنه مثلبة تستحق الذمّ، فلا أدري كيف يستطيع اليوم البعض تبخيسها، علماً أنها تحتاج لأضعاف مضاعفة من الشجاعة، إذا ما قورنت بالتجمعات الثورية التي تشهدها المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، رغم أنها ضرورية وواجبة، حيث تبدو الهتافات في الأخيرة تذكيرية في أجواء آمنة من أي بطش.

لطالما اعتبرتْ الكثير من الأدبيات الثورية، أن الفقر والجوع يمكن أن يكونا محركاً ثورياً في التاريخ، مع ما يرافقهما من وعي. الحقيقة بالنسبة لي، وقبل الوعي الفكري للفقر، فإن أول ما تتحسس الألم هي معدات الجائعين، وقد ينتفض الجائع، أو من يرى أطفاله جوعى، قبل أن يصل إلى وعي فقره عقلياً وفلسفته بالأفكار، وعلى الأغلب أنياب الفقر والجوع التي تنهش منه ومن أطفاله سوف تدلّه على من سبب له هذا الجوع، فيدرك تلقائياً في أي جهة من الحدث سوف يكون.

سأعود للضغوط الدولية التي تساعد غالباً على انتصار الثورات، فيما لو لم تحمل تلك الثورات عوامل إجهاضها بذاتها. ويحضرني هنا مثل عن الموقف الأميركي خلال الانتفاضة الشعبية غير المتوقعة في المجر عام 1956 بمواجهة الحكم الشيوعي المدعوم من الاتحاد السوفييتي. سيعطي الرئيس الأميركي إيزنهاور تعليماته التي تقضي "بإبقاء القِدر يغلي دون السماح له بالانفجار ليتحول إلى صراع مع المعسكر الشرقي". نعم إنها السياسة الأميركية والغربية عموماً تجاه المناطق المتروكة أو المؤجلة سياسياً. والسياسة الدولية حتى اليوم والموقف مما جرى ويجري في سوريا هو في السياق ذاته، ونحن نعرف كم أننا متروكون.

عالمياً، يعتبر الأمن الغذائي حقاً أساسياً من حقوق المواطنة، وعلى الدولة أن تحفظه لمواطنيها، وكل الدول تعتبره ذا أولوية سياسية عالية جداً، لما له من تأثير على استقرار الأمن. لكن ما حدث ويحدث اليوم على أشدِّه في سوريا، يؤكد ألا دولة هناك ولا حكومة ترى أن للمواطن أي اعتبار، حتى للمواطن (الصالح) الذي وقف مع الأسد خلال حربه على السوريين. ما نشهده اليوم في سوريا هو إحياء لما يمكن أن ندعوه "نظام عبودية" جديداً، حتى لو أن العبيد غير مملوكين، قانونياً، من قبل الأسياد.

تاريخياً، لم يكن توزيع الثروات عادلاً في معظم البلدان، لكنه يبدو اليوم بالغ الفجور في سوريا، مع افتقاده ليس للعدالة وحسب، بل إنه لم يعد يأخذ بالحسبان استمرار البلد كدولة على الخارطة.

 

وللحقيقة أن الوضع أسوأ في سوريا اليوم، فهناك ما يشبه طبقة العبيد التي لم تعد تملك شيئاً، ولا حتى قوت يومها، لتتابع في يومها التالي العمل لصالح السيّد، كما هو مألوف في النظام العبودي. في المقابل هناك طبقة الأسياد التي تمتلك كل شيء، ولا ترغب بالتنازل عن أي شيء، بل إنها على الدوام تريد المزيد، دون أدنى التفاتة للجوع الذي يجتاح البلد. تاريخياً، لم يكن توزيع الثروات عادلاً في معظم البلدان، لكنه يبدو اليوم بالغ الفجور في سوريا، مع افتقاده ليس للعدالة وحسب، بل إنه لم يعد يأخذ بالحسبان استمرار البلد كدولة على الخارطة. وكأنه ينطوي على روح مافيوية تقول للناس: سآخذ كل شيء، وسوف أقتلكم إن لم تقبلوا.

يحدث ما يحدث في سوريا اليوم، من تحركات في الشارع خصوصاً في الجنوب، بل ونسمع بعض الأصوات الانتحارية التي تهين الأسد شخصياً مع عائلته وقادته شمالاً، في أماكن عُرفت على مدى السنوات الماضية على أنها موالية للأسد. وهذا ليس بالأمر الذي يمكن اعتباره تمثيليات مخابراتية، كما يحلو للبعض تفسيره باستسهالٍ كسولٍ يستخدم العدسة المشوهة للانغلاق عن أي مختلف، مع عدم التحلي بأية مرونةٍ هادفة. طبعاً هذا لا ينفي وجود بعض الأصوات المخابراتية التي يسهل تمييزها. وباستثاء بعض الاعتقالات القليلة والملاحقات، لم نلحظ للسلطة أي رد فعل قوي حتى الآن.

لذا لا ندري بعد، إن كان لدى الأسد ما يعرف بالخطة "B". شخصياً أعتقد أن في جراب الحاوي "نظام الأسد" الكثير من الخطط بما يتخطى جميع الحروف الأبجدية، خصوصاً لردع ما يسميها حاضنته، كتنفيذ بعض التفجيرات مع استعداد عالٍ لتنظيم "داعش" لتبنيها، أو الإيعاز لإعادة ارتفاع أصوات من يريدون "إبادة العلويين"، بهدف إعادة الحاضنة إلى مأزقها الأساسي، باعتبار ألا بديل عن نظام الأسد الذي سيحميها من هؤلاء المتوحشين والمتخلفين، الذين سيبيدون كل من وقف ولو لفظاً مع الأسد خلال سنوات الثورة.

طبعاً هذا ليس ببعيد عما عرفناه من التكتيكات المخابراتية لنظامٍ لا يمتلك القدرة على أي إصلاحٍ سياسي، دون أن يسقط على الفور. إنه المأزق السوري المُستعصي، الذي يحتاج إلى تضافر كل القوى اليوم لكسره والخروج منه وفتح صيرورات جديدة، واستئصال تلك اللعنة العامة التي غطت كامل البلد منذ عقود. واللعنة الفردية، بأن تكونَ سورياً تحت حكم نظام الأسد لأكثر من نصف قرن.