لم يكن قرار حكومة النظام السوري بتحويل الدعم إلى نقدي عبر الحسابات البنكية إلا جزءاً من سلسلة إجراءات متتابعة بدأت بتنفيذها منذ سنوات، وفي الوقت الذي يصرح فيه مسؤولو النظام أن الهدف هو تحقيق العدالة في توزيع الدعم على مستحقيه، يرى محللون أن الهدف الحقيقي هو التحايل على الآلية الحالية والسعي نحو إلغائها نهائياً لتخفيف الأعباء المالية عن الحكومة.
وعلى مدى السنوات الماضية اتخذت حكومة النظام عدداً من القرارات، بدءاً من إزالة جزء من الدعم عن شريحة واسعة من المواطنين، وما رافقها من ارتفاع الأسعار وأزمة مواصلات ومحروقات، ثم رفع الدعم عن بعض المواد وتحريرها، وصولاً إلى زيادة رواتب الموظفين.
هذه القرارات المتخبطة حولت المواطن السوري إلى حقل تجارب لسياسات النظام الاقتصادية في محاولة يائسة للتخلص من عبء الدعم، في ظل وضع اقتصادي متدهور، تاركاً المواطنين في مواجهة مباشرة مع الفقر والتضخم الجامح.
قرار مفاجئ؟
في خطوة جديدة، أعلنت حكومة النظام إعادة هيكلة الدعم باتجاه الدعم النقدي، وطالبت حاملي "البطاقة الذكية" بفتح حسابات مصرفية خلال مدة ثلاثة أشهر من أجل تحويل مبالغ الدعم إليها.
واعتبر بيان الحكومة أن طلب فتح الحسابات "لا يعني أبداً أي تغيير في سياسة تقديم الدعم للمواطنين، كما لا يعني الإخلال بإيصال الدعم إلى مستحقيه، بل تمكين المواطنين من الحصول على مستحقاتهم الكاملة من الدعم".
ومع تأكيد البيان على أن التوجه هدفه حصول مستحقي الدعم النقدي بكل يسر وسهولة، إلا أن الحكومة ذكّرت المواطنين بانخفاض مواردها، وطلبت منهم التعاون من أجل ما سمته "التحديات التي تواجه البلد".
ورغم أن القرار أثار الكثير من الجدل والتساؤلات، إلا أنه ليس المرة الأولى التي يتم طرحه، فقد صدرت تصريحات سابقة من قبل مسؤولين بوجود خطة حول التوجه نحو الدعم النقدي دون ذكر تفاصيل أخرى.
في 25 من مايو/ أيار 2022 صرح وزير التجارة الداخلية السابق في حكومة النظام، عمرو سالم، لإذاعة "نينار" المقربة من النظام، أن الوزارة تدرس مشروع الاستعاضة عن الدعم من خلال البطاقة الذكية بمبلغ محدد، مضيفاً أن الاستعاضة عن الآلية الحالية بالدعم النقدي، هو مشروع مطروح منذ زمن ويناقش من قبل الفريق الاقتصادي ومجلس الوزراء.
لكن بعد أربعة أيام فقط نفى سالم، خلال حضوره مجلس الاتحاد العام لنقابات العمال، وجود أي خطة لرفع الدعم أو تحويله إلى دعم نقدي أو ما شابه.
وبحسب بيان الحكومة الحالي، فإن التحول إلى الدعم النقدي جاء "في ضوء دراسات معمقة تجريها الوزارات والجهات المعنية بملف الدعم"، الأمر الذي دفع اقتصاديين إلى المطالبة بنشر هذه الدراسة لمعرفة تفاصيلها.
وتساءل الباحث الاقتصادي فراس شعبو، عن سبب عدم نشر هذه الدراسات وعرضها على المواطنين، قائلاً لموقع "تلفزيون سوريا" إن الأمر يؤثر على المواطنين بشكل مباشر وليس على الحكومة.
واعتبر الخبير المصرفي عامر شهدا أن الدراسة مشكوك فيها، وقال إن "طلب الحكومة فتح حسابات بنكية دون نشر الدراسة على الملأ، ما هو إلا إجراء يتصف بالإذعان".
وأشار عبر حسابه في "فيس بوك" إلى أنه "من حق الشعب الاطلاع على دراسة رفع الدعم وكيفية توزيعه نقداً، كون موضوع الدعم شعبياً أكثر منه حكومياً"، معتبراً أن الحكومة "تعامل الشعب بطريقة يغلب عليها صفة الأمر".
وتساءل شهدا عن الجهة التي أحصت عدد الأسر المستحقة للدعم النقدي وقاعدة بياناتها، مؤكداً أن الحكومة تفتقر لبيانات كهذه بسبب "ضياعكم والهدر والفساد".
من جانبها اعتبرت وزيرة الاقتصاد السابقة لمياء عاصي، أن "الدراسة التي تجري من قبل جهات غير محايدة تكون عادة أسيرة لوجهة نظر معينة".
قرار كارثي
منذ إعلان القرار بدأت تساؤلات واسعة حول كيفية توزيع الدعم ووصوله إلى مستحقيه الحقيقيين، إلى جانب تأثيراته المحتملة على المواطنين والنظام الاقتصادي ككل، حيث يُتوقع أن تكون لهذه الخطوة تداعيات متعددة على الحياة اليومية للسوريين.
عضو لجنة الموازنة والحسابات في مجلس الشعب، محمد زهير تيناوي، أوضح أن الخطة الجديدة ستؤدي إلى بيع المواد المدعومة بسعرها الحر، وتحويل الفارق النقدي عن سعرها الحالي إلى الحسابات المصرفية التي تم فتحها للشرائح المدعومة.
وقال تيناوي لموقع "أثير برس" الموالي للنظام إن "سعر ربطة الخبز المدعومة حالياً 400 ليرة سورية، بينما عند تطبيق الخطة يصبح سعرها 3000 ليرة سورية، ويحول الفارق النقدي للدعم إلى الحساب المصرفي لمستحقه".
وأضاف أن "المواد المدعومة ستبقى كما هي (الخبز، السكر، الأرز، المشتقات النفطية) لكن طريقة الدعم هي التي تغيرت".
أما عاصي فطالبت أن يكون رفع الدعم تدريجياً، وأن "يتم رفع الدعم عن سلعة معينة ولشريحة في منطقة جغرافية ما، يتم تحديدها".
وأعربت، في منشور عبر حسابها في "فيسبوك"، عن أملها أن تكون مادة الخبز آخر سلعة يتم رفع الدعم عنها، إلى جانب إجراء تقييم التجربة قبل تعميمها على كل السلع والخدمات الحكومية المدعومة.
واعتبرت أنه من الناحية النظرية فإن "البدل النقدي أفضل من الدعم السلعي، ولكن التطبيق قد يكون مشوباً بكثير من الأخطاء والمشكلة أن السلع الأساسية والضرورية لا تحتمل التجريب".
بدوره وصف الخبير الاقتصادي فراس شعبو القرار بأنه "فاشل وكارثي"، وسيكون له انعكاسات كبيرة على السوق والليرة السورية والمواطن.
وقال شعبو إن "الحكومة تحاول تخفيف الدعم عن نفسها بأكبر قدر مستطاع، لكنها حكمت على الاقتصاد والمواطن بالموت"، مضيفاً أن القرار الجديد سيرفع أسعار المواد الأساسية وسيزيد الأعباء على المواطنين.
وتساءل شعبو عن قيمة المبلغ النقدي الذي سيتم دفعه للمواطنين، وهل سيكون ثابتاً أم متغيراً مع تغير سعر الصرف، مؤكداً أن ثبات قيمة المبلغ بالليرة وعدم تعديله في حال ارتفاع سعر الدولار يعني تآكل الدعم.
كما سيؤدي توزيع مساعدات نقدية على المواطنين إلى زيادة الكتلة النقدية بشكل كبير في الأسواق، وبالتالي الحكم على الليرة بالانخفاض لأنه كلما زاد المعروض من العملة، انخفضت قيمتها، بحسب شعبو.
بدوره قال الخبير عامر شهدا إنه بحسب التصريحات فإن وسطي دعم الأسرة 150 ألف ليرة سورية، ما يعني طرح 690 مليار ليرة شهرياً في الأسواق.
وأضاف أن سعر صرف الدولار سيصبح ضمن أرقام لم يتوقعها أحد قد تتعدى 20 ألف ليرة، بينما يصل سعر ربطة الخبز لحدود 8 آلاف ليرة والبيضة الواحدة إلى 5 آلاف ليرة.
افتقار البنى التحتية
أثارت الطريقة الجديدة العديد من التساؤلات حول استعداد المنظومة المصرفية في سوريا للتعامل مع هذه الآلية، واستيعاب العدد الكبير من الحسابات الجديدة، بالإضافة إلى القدرة على تقديم الخدمات المصرفية اللازمة دون زيادة العبء على المواطنين.
واعتبر شعبو أن أغلب المستحقين للدعم هم أشخاص لا يملكون الوعي المصرفي الكافي ولا يمتلكون حسابات مصرفية، مستبعداً توفر البنية التحتية لاستيعاب فتح ما يقارب مليوناً ونصف المليون من الحسابات البنكية خلال ثلاثة أشهر.
وتبلغ كلفة فتح الحساب لدى المصارف 15 ألف ليرة سورية، بحسب ما نقلت صحيفة "الوطن" المقربة من النظام عن أحد مديري المصارف العامة، الذي أكد أن "القرار الحكومي سيزيد الضغط على المصارف في الفترة القادمة لفتح حسابات جديدة لمن لا يملك حسابات من حاملي البطاقة الإلكترونية".
كما أكد أن "تحويل الدعم إلى مادي يصرف عن طريق الصرافات، سيتسبب بمشكلة كبيرة لا بد من حلها عبر توسيع ثقافة الدفع الإلكتروني لدى المواطنين، ما يخفف من الضغط على التعامل النقدي وعدم اضطرارهم للمعاناة من ازدحام الصرافات".
واعترض الخبير الاقتصادي جورج خزام على آلية الدفع وفتح حسابات بنكية، وتوقع" زيادة الازدحام الشديد في المصارف وعلى الصرافات التي تعاني بالأساس ازدحاماً قد يتجاوز ساعات".
وحدد خزام، في تعليق على منشور الوزير السابق، عقبات توزيع الدعم نقدياً، واعتبر أن "المواطن سيخسر عمولات الإيداع والسحب التي سوف يخصمها المصرف لنفسه من دون وجه حق، دون أن يحصل المواطن على أي خدمات مصرفية".
كما أن "تأخر المواطنين بالحصول على الدعم النقدي بسبب تأجيل السحب النقدي كل عدة شهور لتجنب ضياع الوقت من زيادة الازدحام الشديد بالمصارف والصرافات، سيؤدي لتراكم مليارات الليرات لتستفيد منها المصارف".