خلال فترة من الفترات، وهذه الفترة تعود إلى ذروة المحنة التي ابتليت بها سوريا فدفعت العالم بأسره للتعاطف مع الشعب السوري والإشفاق عليه إشفاقاً يخالطه إحساس بالخوف والرهبة، اضطر هذا الشعب للفرار من بلده هرباً من الحرب الدائرة فيه، وكان بوسعه وقتئذ أن يتوقع من العالم ترحيباً وتعاطفاً كبيراً.
بيد أن تلك الأيام ولت إلى غير رجعة، إذ بعد مرور 13 عاماً على هذا النزاع الطاحن الذي كاد العالم أن ينسى أمره، والذي قتل فيه أكثر من نصف مليون إنسان، بات من المرجح للاجئين السوريين أن يتعرضوا لحالة من التبرم والانزعاج والعداء الصريح يبديها لهم العالم بدلاً من إشفاقه عليهم وتعاطفه معهم.
وفي بعض الأحيان تنفجر حالة العداء فتتحول إلى كره عنيف، فقد عمدت جموع غفيرة خرجت في ست مدن تركية إلى ضرب اللاجئين السوريين وحرق دورهم على مدار ثلاثة أيام سادت فيها أعمال الشغب المعادية للمهاجرين في شهر تموز الماضي، والتي قامت على أساس الزعم بأن شاباً سورياً تحرش بإحدى قريباته التي لم يتجاوز عمرها سبع سنوات.
وعلى المنوال عينه، تراجع التعاطف في بعض أجزاء الاتحاد الأوروبي، وذلك ليس فقط بسبب وجود أكثر من مليون لاجئ يعيشون هناك، بل لأن السوريين مايزالون يتقدمون بطلبات لجوء ويتفوقون بذلك بأشواط على غيرهم من الجنسيات، ما جعلهم يشكلون 14% من طلبات اللجوء التي تم تقديمها خلال الشهور الستة الأولى من هذا العام، وذلك بحسب الأرقام التي أعلن عنها الاتحاد الأوروبي.
وفي خضم تصاعد حدة الخطاب المعادي للهجرة، اجتمع قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل خلال الأسبوع الماضي وذلك بناء على دعوة من رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني ومطالبتها بتطبيع العلاقات مع رأس النظام في سوريا، بشار الأسد، وذلك لأن هذه الخطوة، كما قالت ميلوني أمام مجلس الشيوخ في بلدها، بوسعها أن تمهد الطريق أمام عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم عودة آمنة ودائمة.
ميلوني واللاءات الثلاث
ظهرت ميلوني كقائدة لزمرة مؤلفة من ثمانية أعضاء داخل الاتحاد الأوروبي، وهذه الزمرة تعارض سياسة "اللاءات الثلاث" المتعلقة بالملف السوري، وهي: لا لرفع العقوبات، ولا لتطبيع العلاقات، ولا لإعادة الإعمار. كما انشقت ميلوني في تموز الماضي عن شركائها في دول مجموعة السبع وذلك عندما عينت سفيراً لبلادها في دمشق، لتكون تلك المرة الأولى التي يجري فيها تعيين أحد في هذا المنصب منذ عام 2012.
مع تراجع الاهتمام بسوريا في الولايات المتحدة، أخد بعض المسؤولين في إدارة بايدن يرون مصلحة لبلدهم في العودة للتعامل مع الأسد عقب إعادة سوريا إلى الجامعة العربية خلال السنة الماضية.
ولكن فكرة كسر العزلة عن الأسد، من دون انتزاع أي تنازلات مسبقة منه، أثارت الذعر بين شريحة كبيرة من المراقبين للملف السوري ولمن يعيشون ضمن مناطق شاسعة في سوريا ماتزال تخضع لسيطرة قوات المعارضة.
وهذا ما دفع عمر الأشقر وهو ناشط حقوقي من محافظة إدلب التي انشقت عن سيطرة الأسد بدعم تركي في شمال غربي سوريا للقول: "إن العودة إلى المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد هي بمثابة انتحار، ولو حدث ذلك بالقوة فإنه جريمة، وذلك بالنظر لما تفعله قوات نظام الأسد لمن يعود من السوريين، ويأتي على رأس ذلك الخطف والإخفاء القسري".
قوبلت فكرة عودة السوريين إلى بلدهم من دون خوف من اضطهاد النظام بتشكيك واسع سواء في المناطق التي يسيطر عليها الثوار في البلد أو في المعاقل السابقة للمعارضة مثل مدينة حمص التي تعرضت لدمار كبير ثم سقطت لتصبح تحت سيطرة قوات نظام الأسد في عام 2014.
يعلق غيث المحمد وهو عامل في متجر بتلك المدينة، فيقول: "لا أمان في سوريا، وفي حال عودة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ونظام الأسد، فإن الآلاف من السوريين الذين سيعودون إلى سوريا سيتعرضون لوحشية نظام الأسد وتعذيبه"، وطبعاً ثمة أساس وبراهين تؤكد صحة هذه المزاعم.
إذ على الرغم من إصدار الأسد لنحو عشرين مرسوم عفو على مدار السنين الماضية، مايزال الآلاف من سجناء الرأي والضمير يقبعون في معتقلات سوريا، وأغلبهم حُبس لمدة تتجاوز العقد، وكل ذنبهم أنهم شاركوا في المظاهرات المناهضة لنظام الأسد.
تعتبر المعتقلات السورية من أسوأ سجون العالم من حيث ظروفها وبيئتها، وذلك لأن أغلب المساجين يتعرضون للتجويع والتعذيب فضلاً عن سجنهم في زنازين مكتظة بالبشر، كما أن الآلاف منهم يفارقون الحياة بسبب إعدامهم من دون محاكمة في أغلب الأحيان.
تقدر منظمة العفو الدولية تعرض نحو 13 ألف معتقل للإعدام في سجن صيدنايا العسكري القريب من دمشق وذلك فقط خلال الفترة الواقعة ما بين عام 2011 أي عند بدء الانتفاضة ضد الأسد، وحتى عام 2016.
وبما أن البلد لم ينعم بالأمان ولا الاستقرار بعد، لهذا مايزال العنف متواصلاً في أجزاء عديدة منه.
إذ خلال الأسبوع الماضي فحسب، ضربت إسرائيل مستودعاً للأسلحة في مدينة اللاذقية الساحلية التي تخضع لسيطرة النظام، في حين نفذت روسيا التي تدعم نظام الأسد العشرات من الغارات الجوية على مناطق سيطرة الثوار، فتسببت إحدى الغارات الروسية بمقتل عشرة أشخاص في إدلب، بما أن نصف هذه المحافظة يخضع لسيطرة إحدى الجماعات الجهادية.
وفي الوقت الذي بقيت الأزمة السورية بلا حلول، استمرت الظروف الاقتصادية والإنسانية بالتدهور، ما دفع الخبراء للتحذير من فشل جهود الجامعة العربية في العودة للتعامل مع الأسد لأن في ذلك عبرة مفيدة تحذر الاتحاد الأوروبي من مغبة وضع ثقته برأس النظام في سوريا.
الأسد يأخذ ولا يعطي
خلال العام الماضي، دعت الجامعة العربية سوريا إلى العودة إلى حضنها للمرة الأولى منذ تشرين الثاني عام 2011، وأخذت تغذق الثناء على الأسد بعد أن ألقى كلمته أمام الحشود في قمة جدة.
تمنت الجامعة العربية أن تساعد عملية إحياء العلاقات مع الأسد إلى تشجيعه على تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، وإقناع اللاجئين بأن البلد باتت آمنة أمام عودتهم، مع الحد من تجارة الكبتاغون غير المشروعة التي أثرى بفضلها نظام الأسد وألحق الضرر بالشرق الأوسط كله.
بيد أن الأسد لم يفي بأي من هذه الوعود، برأي هيكو فيمين من المنظمة الدولية للأزمات الموجودة في بروكسل، وهذا بحد ذاته لابد أن يدق ناقوس الخطر بالنسبة للأوروبيين الذين يفكرون بتبني نهج الجامعة العربية، ولذلك يعلق فيمين بالقول: "أمامنا هذه التجربة التي تكررت عدة مرات والتي أظهرت لنا أننا في كل مرة نتعامل فيها مع [المسؤولين] السوريين، فإنهم يأخذون فقط من دون أن يعطوا أي شيء بالمقابل... والجميع عاش التجربة نفسها التي عاشتها دول الخليج، لأنك لا تحصل على أي شيء من السوريين، ولعل بشار لا يمكنه تقديم أي شيء أو ربما لا يرغب بذلك، وهنا تختلط الأمور، ولكن ما الذي يهمنا في نهاية المطاف؟ في حال عدم تقديمه لشيء في النهاية، فإنه لم يقدم أي شيء".
الأزمة أزمة ثقة
في الوقت الذي لا يفكر أحد بإعادة تأهيل الأسد من دون تنازلات، أو تبدو هذه العملية كحالة خيانة عبثية في عيون بعض الناس في الغرب، يرى آخرون بأن جميع الجهود التي بُذلت لإسقاطه منيت بالفشل، ويعود الفضل في ذلك للدعم الروسي والإيراني، ولهذا فإن العمل على إبقاء سوريا ضعيفة بشكل متعمد وذلك من خلال العقوبات لم يزد المشكلة إلا تفاقماً.
ولذلك فإن تسوية الخلافات بشكل ما على الرغم من عدم رضا كثيرين عنها، تعتبر مسألة ضرورية لأسباب براغماتية وإنسانية بحسب من يؤيدون هذا الرأي، لأن هذه العملية بوسعها إضعاف النفوذ الروسي بمرور الزمن، كما يرى بعض الناس، بينما يرى آخرون بأن وجود دولة أقوى قائمة على مؤسسات موثوقة وتسيطر سيطرة كاملة على سوريا من المحتمل أن يحول دون عودة التنظيمات الجهادية المتطرفة مثل تنظيم الدولة والذي بدأ بإعادة ترتيب صفوفه في المنطقة الشرقية من سوريا.
فيما خلص البراغماتيون إلى أن الأسد مهما بلغت لديه درجة الانتقام والرغبة بالثأر، فإنه لابد أن يفكر بالسبيل الوحيد لإعادة بناء بلده المدمر وذلك عبر ضمان عودة 12 مليون سوري إلى بلدهم، أي ما يعادل نصف شعبه، عودة آمنة، بما أنهم مايزالون خائفين من الرجوع إلى بلدهم، بيد أن المسألة مسألة ثقة هنا في نهاية المطاف.
وفي محاولة يائسة لمنع ووقف موجة اللجوء إلى الاتحاد الأوروبي، وخاصة تلك القادمة من الشرق الأوسط بعد تجدد الاضطرابات فيه، حرصت ميلوني وحلفاؤها على منح الأسد فرصة للاستفادة من حالة الريبة والتشوش هذه، وشاطرها آخرون في تفاؤلهم وعلى رأسهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بما أن تركيا استقبلت أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري وقدم أردوغان ظاهرياً مبادرات عدة للأسد بشأن عقد اتفاق معه يقضي بانسحاب القوات التركية من شمال غربي سوريا.
بيد أن قلة قليلة من الناس تتوقع تحقيق تقدم حقيقي في هذا المسار، لأن الأمر لابد أن يعرض للخطر سبعة ملايين سوري فروا من مناطق سيطرة النظام ولاذوا بمناطق سيطرة الثوار في الشمال السوري بما أن هذه المناطق أصبحت تخضع إما لسيطرة تركيا أو للحماية العسكرية الأميركية.
والسبب في ذلك هو أن هؤلاء السوريين لا يثقون بالأسد، لذا، وبدلاً من التعرض لاحتمال أن ينتهي الأمر بهم في زنازين التعذيب بسجونه، أو أن تفضي بهم الأحوال للوصول إلى حبل المشنقة على أيدي زبانيته، من المرجح لأغلب هؤلاء الناس أن يفكروا بالرحيل من جديد، ما يعني بأن هنالك احتمال لزيادة أزمة الهجرة خارج حدود سوريا سوءاً بدلاً من أن يطرأ على الأمر شيء من التحسن.
بيد أن ميلوني تأمل ألا يحدث ذلك، ولهذا يرى معارضوها بأن مقترحها لن يفشل في حل أزمة اللاجئين السوريين فحسب، بل أيضاً سيوجه رسالة للأنظمة المارقة في مختلف أنحاء العالم تفيد بأن المبادئ الغربية تتلاشى بمرور الوقت.
يعلق على ذلك معاذ مصطفى رئيس فرقة العمل السورية للطوارئ بواشنطن وهي منظمة تؤيد المعارضة السورية، فيقول: "مايزال نظام الأسد وكذلك حلفاؤه في روسيا وإيران يمارسون الاعتقال بطريقة عشوائية بحق المدنيين إلى جانب تعذيبهم وقتلهم، لذا فإن أي تطبيع [مع الأسد] سيتحول إلى رسالة موجهة للأنظمة المجرمة الأخرى تفيد بأنه في حال بقيتم على منوالكم فستجري عملية إعادة تأهيلكم وإعادتكم إلى المجتمع الدولي".
المصدر: The Telegraph