عارضت الملكة البريطانية فيكتوريا زواج حفيدتها ألكسندرا من نيكولاس. كانت الجدّة تكره روسيا عموماً، ووالد نيكولاس بشكل خاص. ساورها القلق من أن أليكس، كما كانت تدعوها، لن تكون آمنة في روسيا. عند الإعلان عن خطبتها لولي العهد، كتبت إلى شقيقة ألكسندرا: "كلما فكرتُ في زواج أليكس الجميلة، كنتُ أكثر تعاسة. ليس فيما يتعلق بشخص نيكولاس الذي أحبّه، لكن بسبب البلد، وانعدام الأمن المروِّع الذي ستتعرض له تلك الطفلة المسكينة هناك". لو صدرت تلك النبوءة عن عرّافةٍ ما، لحظيت صاحبتها بتقديس العامة. كل مخاوف الملكة الجدّة، سوف تتحقق قريباً ودفعةً واحدة.
أثناء غياب زوجها على الجبهة، وبالسلطة التي منحها لها، عينت ألكسندرا وخلعت أربعة رؤساء وزراء، خلال ستة عشر شهراً، إضافة إلى خمسة وزراء داخلية، وثلاثة وزراء حرب. تشير المصادر، أنه بعد منتصف عام 1915، مع سلسلة من إجراءات ألكسندرا السريعة والمتخبطة، تحولت النخبة المسيطرة والفعالة، التي شكلت قمة الهرم البيروقراطي الروسي، إلى مجموعة من موالي راسبوتين. لاحظ القرّاء أنها في كتاب رسائلها المنشور عام 1923 كانت بشكل متكرر تلمّح لضرورة التخلص من "العظماء" خوفاً على مكانة زوجها الضعيف، الضحل، وصاحب الشخصية أحادية البعد بحسب وصف معظم معاصريه.
كانت كارثة عائلة رومانوف الأكبر تلك الفترة، هي تلك الصلاحيات التي امتلكتها ألكسندرا ومن خلفها راسبوتين
في كتابها "بنادق أغسطس" الصادر عام 1962، قدمت المؤرخة الأميركية توصيفاً يعتبر الأدق لشخص القائد الشاب "إنه يفتقر إلى العقلانية، ويمارس وظيفته بناء على الأهواء والتفضيلات الشخصية، وغيرها من أدوات المستبد الفارغ. خلال الحرب الروسية اليابانية، عندما تم تسليمه برقية تفيد بإبادة الأسطول الروسي في "تسوشيما"، قرأها ووضعها في جيبه وواصل لعب التنس".
لم تكن ألكساندرا تحظى في يوم من الأيام بشعبية بين رعايا زوجها، ووصفها أشخاص البلاط بأنها "خالية من السحر. تمتلك عينين خشبيتين باردتين. وتمسك نفسها، كما لو أنها ابتلعت مقياساً". كانت كارثة عائلة رومانوف الأكبر تلك الفترة، هي تلك الصلاحيات التي امتلكتها ألكسندرا ومن خلفها راسبوتين، بما سيؤدي، حسب اعتقادهم، إلى تحطيم المَلَكية. هناك وثائق تدعم حقيقة أن الإمبراطورة الأم ماريا فيودوروفنا، كانت متورطة بمخطط لعزل ابنها من أجل إنقاذ الحكم الملكي.
كانت الخطة تقضي بدايةً بتوجيه طلب إلى القيصر لإبعاد راسبوتين، وسوف يكون رفضه المتوقع، إشارة لإطلاق العنان للانقلاب. علمت الإمبراطورة بما كان يُحاك، وعندما وجهت الأم الطلب إلى القيصر، أقنعته ألكسندرا بإصدار أمر حاسم لإبعاد والدته من العاصمة، وهذا ما حدث. غادرت الأم سانت بطرسبرغ لتعيش في قصر ماريينسكي في كييف. ولم تعد بعدها إلى العاصمة الروسية مرة أخرى. إثر ذلك، وبعد فقدان أي أمل بالتغيير، تولى أفراد من العائلة المالكة اغتيال راسبوتين، نهاية عام 1916، ما سبب حزناً شديداً للإمبراطورة.
قبل تلك الفترة بأعوام، كان القيصر قد اكتسب عداوة اليهود الروس أيضاً، ومعروف أن هناك شريحة واسعة منهم، منخرطة في الاقتصاد والسياسة والثقافة والفن والشأن العام. هناك من يدعي، وهذا ليس مؤكداً، أن صحيفة "كيشينيف بيسارابتس"، التي نشرت مواد معادية للسامية، كانت قد تلقَّت أموالاً من وزير داخلية القيصر. عملت تلك المنشورات على تأجيج الحس المعادي للسامية، ما أدى إلى وقوع مجزرة راح ضحيتها عشرات اليهود من سكان مدينة كيشينيف (كيشيناو عاصمة مولدوفا اليوم) في نيسان/أبريل 1903.
لقيت المذبحة احتجاجات دولية واسعة. سوف يرد السفير الروسي في أميركا بأن المذبحة هي رد فعل الفلاحين الذين تعرضوا لضغوط مالية شديدة من الدائنين اليهود. ملخصاً الصراع بأنه "الفلاحون ضد مقرضي المال، وليس الروس ضد اليهود". رسمياً أدانت حكومة القيصر أعمال الشغب وعزلت حاكم المنطقة، وحُكم على رجلين متورطين لمدة سبع وخمس سنوات، وعلى اثنين وعشرين آخرين بالسجن سنة أو سنتين.
نُقل عن نيكولاس وألكسندرا، أنهما في الجلسات المغلقة، أبديا إعجابهما بما فعلته الجماهير الروسية، باعتبار معاداة السامية أداة مفيدة لتوحيد الشعب وراء الحكومة. ستتكرر المذبحة بعد عامين في المدينة، ويؤكد المؤرخون أن سلسلة من المجازر المختلفة ضد اليهود، عمّت روسيا خلال تلك الفترة. بحلول عام 1911 توقفت المذابح بجهود حكومية صارمة، إثر اغتيال "بيوتر ستوليبين" رئيس الوزراء السابق، على يد اليهودي اليساري "ديمتري بوجروف". كل هذه الأحداث وضعت اليهود في موقع المعارضة لحكم نيكولاس وألكسندرا، مما ستظهر نتائجه لاحقاً في ثورة 1917.
لم تأتِ الثورة بصورة انفجارية مفاجئة، ولكن في سياقات تصاعدية. أصبح الجوع حالة يومية لعشرات ملايين الروس بسبب ظروف الحرب الاقتصادية. تم تجنيد خمسة عشر مليون رجل من عمال الإنتاج الزراعي للقتال، وتم تحويل خطوط السكك الحديدية لنقل الجنود والذخائر. تفاقم نقص الغذاء واجتاحت المجاعة المدن. كان الأسوأ أن فساد الإدارة وإخفاقات الحرب، حوّلت الجنود ليكونوا ضد القيصر فبدؤوا بالانشقاق.
يوم السابع من آذار/مارس 1917 أضرب عمال الصلب. وبدأ الجائعون أعمال الشغب في شوارع بطرسبرغ. أمر القيصر الجيش بإعادة النظام، فتم إطلاق النار على الحشود. طالب مجلس الدوما القيصر باتخاذ إجراءات لتخفيف مخاوف الناس. ردَّ القيصر وزوجته بحل مجلس الدوما. بدلاً من إطلاقهم النار على المتظاهرين، بدأ الجنود الانشقاق والانضمام إلى الثورة. يوم الثالث عشر من الشهر أعلن مجلس الدوما المنحل تشكيل حكومة مؤقتة، وأبلغ القيصر بضرورة تنازله عن العرش. بعد استشارة جنرالاته رضخ القيصر، ووقع التنازل.
في اليوم التالي، بدت زوجة القيصر المخلوع في وضع محفوف بالمخاطر، خصوصاً مع وجود محاولات لاقتحام القصر، بينما ما زال القيصر بعيداً عنها، في طريق عودته من الجبهة. في كتابه "ثلاثة عشر عاماً في البلاط الروسي" يقول بيير جيريالد: "مع اقتراب صوت إطلاق النار من القصر بشكل مطرد بدا القتال حتمياً. شعرت القيصرة بالرعب، فخرجت مع ابنتها ماري إلى محيط القصر ليلاً، وحثت الحراس للحفاظ على رباطة جأشهم والقتال". بعد أيام وصل القيصر، وأمسى جميع أفراد العائلة تحت الإقامة الجبرية.
لم ترغب الحكومة المؤقتة في الاحتفاظ بالعائلة في روسيا، سيّما أن الأسرة وكذلك الحكومة باتا تحت تهديد البلاشفة. كانوا على ثقة من أنه سيتم استقبال العائلة في بريطانيا العظمى، وجاء الرد مفاجئاً. رفض ابن العم جورج الخامس السماح باستقبالهم. كان متخوفاً على عرشه من تداعيات استقبال عائلة منبوذة من شعبها ومن الشعب البريطاني. كذا فعل الفرنسيون حيث كانت تعم المشاعر المعادية لألمانيا، وكانت ألكسندرا موضع اتهام بأنها متعاطفة مع وطنها الأم. شعرت الحكومة المؤقتة بخيبة أمل، واضطرت إلى التصرف ونقلهم داخل روسيا.
في أغسطس 1917، نُقلت العائلة إلى "توبولسك" في سيبيريا. كانت تلك الخطوة من حكومة "كيرينسكي" تهدف إلى إخراجهم من العاصمة خوفاً من إلحاق الأذى بهم. في أكتوبر 1917 سيُسقط "البلاشفة" الحكومة المؤقتة، ليتم نقل العائلة إلى مدينة "يكاترينبورغ" في نيسان/أبريل 1918. بحراسة خمسة وسبعين من البلاشفة عاشت الأسرة في منزل "إيباتيف"، وهو اسم المهندس مالك البيت. بداعي السرّية سيُدعى المكان في تلك الفترة "منزل الأغراض الخاصة". كان مسؤول الحرس يردّ على أي طلب من العائلة بالقول "ليذهبوا إلى الجحيم. نيكولاس شارب الدم، وكلبته الألمانية".
في بدايات تموز/يوليو 1918، تم تعيين قائد جديد للمنزل هو "ياكوف يوروفسكي". شدد الرجل الإجراءات الأمنية. جمَعَ من العائلة كل مجوهراتهم وأشياءهم الثمينة. لكنه لم يعلم أن القيصرة السابقة وبناتها يرتدين تحت ثيابهنَّ أحزمة تخفي الألماس وحبال اللؤلؤ. في الثالث عشر من تموز/يوليو تلقى يوروفسكي أمر الإعدام.
رغم أن المصادر الرسمية السوفييتية وضعت مسؤولية قرار الإعدام على عاتق بلاشفة الأورال المحليين، إلا أن جميع الأدلة تشير إلى أن فلاديمير لينين هو من أمر شخصياً بإعدام العائلة الإمبراطورية. في مذكراته كتب تروتسكي ناقلاً ردّ "ياكوف سفيردلوف" رئيس اللجنة التنفيذية للحزب الشيوعي الروسي، عندما سأله شخصياُ عمّن اتخذ القرار "قررنا ذلك هنا. اعتقَدَ لينين أنه لا ينبغي أن نترك للبيض راية حية للالتفاف حولها، خاصة في ظل الظروف الصعبة الحالية".
فجر الاثنين 17 تموز/يوليو 1918. دخلت مجموعة من الجنود غرفة القبو بعد أن جمعوا العائلة بها. أمر "يوروفسكي" الجميع بالوقوف، امتثلت ألكسندرا بغضب للأمر. بعد إبلاغهم بقرار الإعدام، لم يكد نيكولاس يلفظ كلمة "ماذا..؟" حتى كانت ثلاث رصاصات من مسدس "يوروفسكي" قد استقرت في صدره. وقفت ألكسندرا على بعد مترين من المسلحين، وهي تشاهد إعدام زوجها، قبل أن يُصوَّب المسدس إلى رأسها. كثيراً ما تردّدَ أن يهودية "يوروفسكي" وحسّ الانتقام لديه، كانا وراء الطريقة الوحشية لقتل العائلة المالكة. سيترقى "جلاد روسيا" كما لُقِب فيما بعد، ليصبح رئيس دائرة الذهب في خزينة الدولة السوفييتية، ثم مديراً لمتحف البوليتكنيك عام 1930.
إعدام العائلة الإمبراطورية دشّن أعراف الإعدام بدون محاكمة فيما سيلي من العقود السوفييتية، ورسّخَ بدايات حقبة سوداء أخرى
تراجعت سيدة القصر الشقراء، وبدأت برسم علامة الصليب، وقبل أن تتمكن من إنهاء صلاتها الأخيرة، كانت الرصاصة اخترقت رأسها فوق أذنها اليسرى لتخرج من نفس المكان فوق الأذن اليمنى. بعد أن تم إطلاق النار على الجميع، بمن فيهم الأبناء الأربعة وثلاثة من الخدم وطبيب العائلة، طعنَ المفوَّض العسكري المخمور "بيتر إرماكوف" جسد القيصر وزوجته، مما أدى إلى تحطيم أضلاعهما وتقطيع بعض فقرات ألكسندرا. مع تجريد الجثث من الملابس، وجد فريق القتل ما يعادل ألفا وثلاثمئة غرام من المجوهرات، مخبأة تحت أحزمة النساء الداخلية، قبل أن تُحمَل الجثث إلى قبرها السرّي.
إعدام العائلة الإمبراطورية دشّن أعراف الإعدام بدون محاكمة فيما سيلي من العقود السوفييتية، ورسّخَ بدايات حقبة سوداء أخرى. حقبةٌ قادتها سلالة عقائدية هذه المرّة، لأناسٍ أشد تعصباً وأكثر قسوة، قتلوا خلال سيطرتهم ملايين المواطنين الروس. في عام 1979 سيتم استخراج بقايا العظام، التي خلّفتها واحدة من أشهر حفلات الإعدام وحشيةً في بدايات القرن العشرين. صحيح أن سلالة رومانوف أُبيدت بطريقة تراجيدية، ولكن التاريخ الحاذق دَفن، بعدها بعقود، سلالة "البلاشفة" أيضاً. نعم، إنه التاريخ، وقورٌ ولا يعترف بالأبَد.