تحشيدات وتعزيزات وتدريبات على جانبي الفرات.. ما القصة؟

2024.07.04 | 06:11 دمشق

234555555555555
+A
حجم الخط
-A

لا شك أن منطقة الجزيرة والفرات والبادية السورية لها من الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية ما لا يخفى على أحد. فبالإضافة إلى كونها سلة المحاصيل الاستراتيجية والغذائية للبلاد، فهي أيضاً تعتبر من أغنى المناطق بالطاقة والثروة النفطية والغازية.

كما أن موقعها الجغرافي المميز جعل من مناطقها المتصلة مباشرة مع البادية السورية عقدة للمواصلات الهامة التي تربط العديد من المحافظات السورية بعضها ببعض، ناهيك عن ربطها لثلاث دول جوار مع الدولة السورية (تركيا، العراق، الأردن). هذا كله جعل من هذه المنطقة الهامة منطقة استثنائية وساحة صراع ساخنة بين مختلف أصحاب النفوذ، خاصة من قبل روسيا والنظام وإيران التي ترغب في زيادة الضغط على الولايات المتحدة لإجبارها على التفكير الجدي بالانسحاب من سوريا. يأتي هذا بعد توسع هامش مناورة ميليشياتها إثر انشغال القوات الروسية المتزايد وغرقها في المستنقع الأوكراني، وبالتالي غض الطرف أكثر عن نشاطات إيران المتزايدة على الأراضي السورية. هذا أتاح لطهران وميليشياتها الطائفية إمكانية التفكير في توسيع دائرة سيطرتها على ضفتي النهر، واقترابها من تحقيق أحد أهم أحلامها وأهدافها الاستراتيجية المرسومة منذ تدخلها الدموي في الحرب السورية وهو حلم السيطرة والنفوذ على هذه المنطقة الهامة.

ستكون جغرافيتها بمنزلة حلقة وصل لمناطق نفوذ الحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا ولبنان، وعليه سيصبح الطريق البري الذي يصل طهران بحزب الله والبحر المتوسط مؤمناً وواقعاً ملموساً، وبذلك ستتغيّر المعادلة الأمنية في المنطقة والإقليم بما يخدم تعزيز إيران وميليشياتها لحضورها بشكل واسع وطويل الأمد على الجغرافيا السورية.

في الواقع، فإن سير العمليات القتالية السابقة ضد تنظيم الدولة فرض على المنطقة الشرقية ومنطقة الجزيرة السورية تحولاً وواقعاً ميدانياً وعسكرياً معقداً. أصبحت منطقة شرقي الفرات بعد طرد التنظيم منها تقع في غالبيتها تحت سيطرة القوات والقواعد الأميركية وذراعها على الأرض ميليشيات قسد، باستثناء منطقة رأس العين وتل أبيض التي باتت وبعمليات عسكرية سابقة قام بها الجيش التركي والوطني تحت نفوذهما وسيطرتهما الميدانية. ناهيك عن نفوذ النظام وميليشيات إيران في سبع بلدات متداخلة مع شرقي الفرات تمت السيطرة عليها في خضم الحرب على داعش.

وعليه، أصبح سرير نهر الفرات بدءاً من أرياف الرقة الغربية وصولاً إلى مدينة البوكمال الواقعة بشكل مباشر على الحدود مع العراق هو خط الفصل الرئيسي (النار) بين القوات الأميركية وجيش الأسد والميليشيات الإيرانية والعراقية والاحتلال الروسي، كون الأخيرين باتا مجتمعين يسيطران على بلدات ومناطق الضفة الجنوبية للنهر المتصلة مع البادية الشامية بالكامل.

منذ ذلك الحين، فإن خط الفصل والتماس سرير النهر بين مناطق سيطرة جيش النظام وميليشيات إيران من طرف والجيش الأميركي وقوات "قسد" الموالية لها من طرف آخر، خاصة في أرياف محافظة دير الزور، يشهد من قبل جميع الأطراف حالة من الحذر الدائم المترافق مع تعزيز المواقع والقواعد العسكرية المنتشرة لقواتهم بالأسلحة والعتاد المتنوع، والقيام بشكل دوري بالمناورات الجوية والبرية والصاروخية والتدريبات المكثفة المستمرة، والإبقاء على حالة الاستنفار العسكري والأمني على طول سرير النهر.

في الأسابيع الأخيرة، تناولت الأخبار ووسائل إعلام كثيرة تقارير عن مناورات مشتركة برية وجوية بين النظام والروس في عدة مناطق سورية. كما شهدت ضفتا نهر الفرات، وكلٌّ من مواقع سيطرته ونفوذه، تحركات واستقدام تعزيزات وإجراء تدريبات ومناورات بالأسلحة الثقيلة وصنوف القوات، وخاصة من الجانب الأميركي وميليشيات قسد. تضمنت التعزيزات نشر عشرات الآليات العسكرية والقتالية واستقدام مئات من عناصر “قسد” من محافظتي الرقة والحسكة ونشرهم في قواعد حقل العمر والتنك وكونيكو ومنطقة المعامل. بناءً على ذلك، يقول التحليل المنطقي إنه من الناحية العسكرية والميدانية، ونظراً لازدحام هذه المنطقة بالوجود الدولي والتناقض الواضح بينهم في الأهداف والاستراتيجيات، ونظراً لحساسية المواقف وقرب خطوط التماس بين الأطراف المتصارعة، والاعتداءات المستمرة للميليشيات الإيرانية على القواعد الأميركية انطلاقاً من نقاط تموضعها وانطلاقها على الطرف الآخر للنهر، والاستهدافات المتكررة المتبادلة بما فيها الغارات الأميركية والإسرائيلية المتكررة على الأهداف والتموضعات الإيرانية في هذه الجغرافيا، فإن ما تشهده هذه المنطقة الاستثنائية من تدريبات وتحشيدات وتعزيزات مضادة حتى من قبل النظام والروس وميليشياتهم أمر يأتي في السياق الطبيعي من الناحية الميدانية والعسكرية.

هذه الوقائع والتحركات تندرج ضمن العمل الهادف من قبل جميع الأطراف للحفاظ على حالة الجاهزية القتالية العالية للقوات، ورفع القدرات والسوية القيادية والبدنية للقادة والأفراد، والتدريب على الأسلحة الجديدة واستثمارها بشكل جيد. بالتأكيد، كل هذا يأتي على أرض الواقع تمهيداً واستعداداً ميدانياً لأي تطورات عسكرية قد تكون سريعة ومفاجئة من قبل أي طرف ضد الآخر. خاصة في ظل ظروف استمرارية تل أبيب في حربها الدموية المدمرة على قطاع غزة والاحتمالية الكبيرة في توسعها، وإمكانية أن تفتح إسرائيل تحت الضغط جبهات جديدة مع حزب الله وأذرع إيران في كل من سوريا والعراق. وبالتالي سيكون هناك ردات فعل عنيفة مؤكدة من قبل ما يسمى بمحور المقاومة التي ستطول حتماً كما يحدث دائماً الوجود والقواعد الأميركية الكثيرة المنتشرة في العراق وشرقي الفرات.

وعليه، فمن الطبيعي والاعتيادي لجميع أصحاب النفوذ في مثل هذه الظروف أن يرفعوا حالة التأهب والاستعداد الميداني، ويتخذوا كل الإجراءات العسكرية المناسبة والكفيلة بالحفاظ على مواقعهم وتقليل خسائرهم.

عملياً، فإن المنطقة الشرقية ومنطقة الجزيرة السورية تعتبر بركاناً خامداً يمكن أن يثور في أية لحظة، وذلك نتيجة لتقارب وتداخل مناطق نفوذ اللاعبين الدوليين.

وبالتالي، ومنذ فترة ليست بالقصيرة، فإن هناك مناوشات إيرانية أميركية تأتي ضمن حدود معينة، كقيام الميليشيات الإيرانية ببعض الرشقات الصاروخية التي تقع غالبها في محيط "القرية الخضراء" في حقل العمر أو حقل كونيكو والقواعد الأخرى في الشدادي ومنطقة رميلان. تقابلها بالتأكيد ضربات أميركية متقطعة ضد مستودعات أو قوافل أسلحة أو مقار عسكرية إيرانية على الضفة الأخرى من نهر الفرات. وعليه، فإن زيادة النشاط العسكري للتحالف الدولي في سوريا مؤخراً يُعد في الواقع ردة فعل ورسائل نارية نتيجة لتحرشات إيران ومحاولاتها المتكررة التشويشَ على الوجود الأميركي في سوريا باستخدام وسائل مختلفة، منها القيام بتسليح وتدريب ودعم بعض مقاتلي العشائر بهدف إبقاء مناطق شرقي الفرات في حالة غليان وعدم استقرار أمني ومعيشي أملاً في تمدد نفوذها إلى مناطق تحت سيطرة قسد والتحالف الدولي.

ختاماً، من خلال معطيات عسكرية وسياسية كثيرة سابقة، وعلى الرغم من كل التحشيدات والتعزيزات والمناورات الكثيرة التي تقوم بها الأطراف مجتمعة على جانبي الفرات، فإن استقراء الأحداث والواقع الميداني يقول إن كل هذه الأطراف على الأقل في المدى المنظور راضية بعدم التصعيد والحفاظ على مناطق سيطرتهم واكتفائهم بقواعد الاشتباك والاستنزاف الحالية. من الواضح أن هناك قناعة تامة لدى أصحاب النفوذ بالالتزام وعدم دحرجة الأمور أكثر وإيصال المنطقة إلى ساحة حرب مفتوحة قد تعرف بداياتها ولكن لا تعرف نتائجها ونهاياتها ولا الأطراف الأخرى التي ستدخل فيها.